تجليات باريس

تجليات باريس

لم تكن باريس مجرد مدينة ذات صفات جغرافية، ولكنها عالم من الدهشة والألفة، ومرتع للغرائب والمتناقضات في عيون كل من عاشوا بها من مفكري وكتّاب عصر النهضة العربية.

المدينة - فيما انتهى إليه جمال حمدان - تتحدى التعريف الجامع المانع، والمعادلة الموجزة، ومن السهل أن نقول ما ليست المدينة أكثر من أن نقول ما هي. ورأى «جوزيف ريكورت» أنها تشبه الحلم، ومن طبيعة الحلم جعل الأشياء تنبو عن التعريف المحدد الدقيق.

وإذا كانت المدينة كذلك عند العالمين بالمكان وشئونه، فإن الموقف الشعري منها كان واضحًا إلى حد بعيد، فبلغ الموقف الرافض للمدينة المعاصرة مداه مع «ت.س.إليوت» في قصيدته الشهيرة «الأرض اليباب»، في ختام المقطع الأول منها تغدو الحياة المعاصرة في المدن الكبرى في أوربا عبئًا يثقل كاهل الإنسان، فيكاد يصيح:

«مدينة الوهم/ تحت الضباب الأسمر من فجر شتائي/ انساب جمهور على جسر لندن، غفير/ ما كنت أحسب أن الموت قد طوى مثل هذا الجمع...».

وهو موقف تعود جذوره إلى بودلير الذي نعت باريس بأقسى النعوت (الجحيم، المعتقل، الماخور..) ومع ذلك يمكن التأكيد على أن موقف الشاعر تجاه المدينة لم يكن بهذه الحدة في كل الفترات، كما لم يكن أحاديًا أو ثابتًا لدى الشاعر الواحد، وعلى ذكر بودلير، فإن شعور الألفة يتولد لديه عندما يحل الشتاء بالمدينة، يتحدث عن كوخ في منطقة ويلز: «أليس صحيحًا أن البيت اللطيف يجعل الشتاء أكثر شاعرية، وأن الشتاء يضفي مزيدًا من الشعر على البيت؟ كأن الكوخ الأبيض مبني على طرف الوادي الصغير، محصورًا بجبال عالية..» هذا النص المبالغ في بساطته - في تعبير غاستون باشلار - يجعلنا نقبل أحلام يقظة الطمأنينة، التي يوحي بها، ويبعث إحساسًا بالهدوء والراحة إلى الجسد والنفس، إننا عندها نشعر أننا نعيش في القلب الذي يحمينا، قلب البيت الذي في المدينة.

ومن الألفة يستمد المكان جمالياته، وهي الفكرة التي عارض بها «باشلار» الفكرة الوجودية التي تقول: حين نولد نلقى في عالم معاد، نولد منفيين، فهو يرى أننا نلقى - في البداية - في هناءة بيت الطفولة، فالبيت والكون والأعشاش والأركان، وكذلك الملامح والصفات مثل: المتناهي في الصغر، والمتناهي في الكبر، الداخل والخارج والاستدارة، كل هذه الأشياء - كما يؤكد - ليست صفات هندسية، بل ملامح ألفة. قال ريلكه: «العالم كبير ولكنه في داخلنا عميق كالبحر».

الذين أحبوها..

وباريس من المدن الغربية التي شغلت الشاعر العربي بوضوح، فما تجليات صورتها؟ وما العناصر التي أسهمت في تشكيل أبعادها في ديوان الشعر العربي؟

وعلى نمط «باشلار»، يمكن القول: إن باريس لم تكن مجرد مدينة ذات صفات جغرافية، بل عالم من الدهشة والألفة، وكذلك مرتع للغرائب والمتناقضات، عند الرحالة والأدباء العرب منذ زمن رفاعة الطهطاوي، وحتى منتصف القرن العشرين، ومن هذا التصور نبتت كل صور الإعجاب والمدح والتفضيل على العواصم الأوربية الأخرى. ويمكن الإقرار مبدئيًا بأن حضورها في النثر كان أوسع مدى وأعلى قيمة. قام الشيخ مصطفى عبدالرازق برحلة دراسية إلى فرنسا (9091-4191)، وكان مثالاً صريحًا لمن أحبوا باريس حبًا جمًا، يقول: «في باريس جمال يجمع بين أبدع ما يتجدد من نتاج الذوق والفن وبين جلال القدم، وقد نقل لي أديب عن شوقي بك أنه قال: إن باريس كالجواد الأصيل، يريد شاعر النيل، إن حسن باريس ذاهب في غور الأجيال، يغتذي بالحديث والقديم، ويرجع إلى حب في الجمال صميم، وعليه طابع الأصل الكريم.

ليست باريس صنع شعب من الشعوب، ولاعمل عصر من العصور، ولكنها جماع ما استصفاه الدهر من نفائس المدنيات البائدة، وما تمخض عنه ذوق البشر وعقلهم وعملهم من آيات الفن والعلم والجمال. باريس جنة فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فيها للأرواح غذاء وللأبدان غذاء، وفيها لكل داء في الحياة دواء. فيها كل ما ينزع إليه ابن آدم من جد ولهو، ونشوة وصحو، ولذة وطرب، وعلم وأدب، وحرية في دائرة النظام لا تحدها حدود، ولاتقيّدها قيود. باريس عاصمة الدنيا، ولو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس!».

هذا البعد الجمالي للمدينة، سيطر على الشعراء، وتحول إلى صورة نمطية أشبه بالأسطورة أو الحلم، كلما تعرضوا لذكرها وذكراها. وقد احتفى شوقي الشاعر بباريس على نحو لم يتكرر مع مدينة أوربية أخرى، فكتب عن ذكرى «غاب بولونيا» ووصف «قسم الأزهار» و«ميدان الكونكورد» ثم كانت قصيدة «باريس»، ويظهر فيها جميعًا التجربة الشخصية والعلاقة الخاصة التي نشأت من إقامته به دارسًا (1891 - 1893) ومن تكرار رحلاته إلى أوربا، كما كانت المدرسة الرومانسية الفرنسية من المؤثرات الفعالة في شاعرية شوقي، وعبر عن ذلك وعن غرامه بثلاثة من أصحاب هذه المدرسة (هوجو وموسيه ولامرتين) عندما قال: «ولقد كدت أفني هذا الثالوث ويفنيني».

جهد الصبابة

يشفق شوقي لتعرض باريس للخطر أثناء الحرب العالمية الأولى، إشفاق المحب على محبوبته الجميلة، ويتلذذ بالعذاب من أجلها «جهد الصبابة ما أكابد فيك»، ويصحو الحنين إليها حتى صاح: «أشتهي ماء الحياة بفيك». ويستمر الخطاب في تصوير المدينة امرأة ذات ملامح أنثوية (بنان، عيون، جفون..)، لكنها متمنعة تحول الأحداث دون الوصول إليها، ثم يستفيق على حقيقة فاجعة، وهي تعرض «جنات النعيم» للغزو، فوقف مدافعًا عنها بأسلحة البيان ضد مزاعم خصومها:

زعموكِ دارَ خلاعةٍ ومجانةٍ ودعارةٍ يا إفكَ ما زعموكِ!
إن كنت للشَهوات رِيًّا فالعلا شهواتُهن مُرَوَّيات فيكِ
تلدين أعلامَ البيان كأنهمْ أصحابُ تيجانٍ ملوك أريكِ
فاضت على الأجيال حكمةُ شعرهمْ وتفجّرت كالكوثر المعْروكِ
والعلمُ في شرق البلاد وغربها ما حَجَّ طالبُه سوى ناديكِ
العصرُ أنت جمالُه وجلاله والركنُ من بُنيانه المسْمُوكِ
أخذتْ لواءَ الحق عنك شعوبُه ومشتْ حضارتُه بنور بنيكِ
وخزانةُ التاريخ ساعةَ عرضها للفخر خيرُ كنوزها ماضيكِ
إن لم يَقُوِكِ بكل نفسٍ حرةٍ فالله جلّ جلاله واقيكِ


إن القيم الحضارية التي يدافع بها شوقي عن باريس (مثل العلا والبيان والعلم والحق والتاريخ المجيد)، يبرزها باستخدام مصطلحات دينية مثل: فاض، حج، ركن، وهي مصطلحات ترتبط بالحج والكعبة «ليؤكد اتخاذ باريس قبلة حضارية» وعجز البيت الأخير «فالله جل جلاله واقيك» يذكر بموقف جد الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالمطلب عندما أراد الأحباش هدم الكعبة فقال: إن للبيت ربًا يحميه.

ولا تنتهي القصيدة قبل أن يسجل شوقي علاقته الخاصة بالمدينة وحنينه إلى أيامها:

يا مكتبي قبل الشباب وملْعبي وَمقيلَ أيام الشباب النُّوكِ
ومراحَ لذاتي ومَغْداها على أُفقٍ كجنَّاتِ النعيم ضحُوكِ
وسماءَ وحي الشعر من متدفقٍ سَلِسٍ على نَوْل السماء محُوكِ


وإذا كانت الذات تخفت عندما زار قسم الأزهار والثمار في معرض باريس، فإن الخبرة بأهل المدينة وبدائعها، تتضح من خلال نظرة السائح العابر، ومن خلال لمحة من لمحات الإثنوجرافي العارف بأسلوب الحياة:

رزق الله أهلَ باريسَ خيرًا وأرى العقلَ خيرَ ما رُزِقُوه
عندهم للثمار والزهر مما تُنجب الأرض معرضٌ نَسقوه
جنةٌ تَخْلُبُ العقولَ وروضٌ تجمعُ العينُ منه ما فرَّقوه
صوَّروه كما يشاءون حتى عجب الناسُ كيف لم ينطقوه
يجدُ المتقي يدَ الله فيه ويقول الجحودُ قد خلقوه


إنها (مدينة المعرض) التي تستدعي المدائن، وتصحبه في كل رحلة، يقول في مقدمة قصيدته عن «رومة»: «صدرت عن باريس وكأنها بابل ذات البرج والجسر وهي في دولتها، أو طيبة في الزمن الأول، إلا أنها مدينة الشمس، وباريس مدينة النور، أو رومة مقر القياصر، ومزدحم الأجناس والعناصر، وهي في رفعة ملكها الفاخر، تموج بالأمم كالبحر الزاخر، أو الإسكندرية ذات المسلة - والمسلة في باريس - وهي في ذروة سعدها، وأوج كمالها، تغير الشمس في سرير مجدها بجلالها وجمالها، أو بغداد في إبان إقبالها، وسلطان أقيالها، وأيمن أمرها، وأسعد حالها، فسبحان المنعم، أعطى (مدينة المعرض) الأسماء كلها، وجلت قدرته، بعث المدائن في واحدة».

والجانب الإنساني في علاقته بالمدينة، أوضح ما يكون في «غاب بولونيا» التي تمثل تجربة عاطفية صادقة، وإن كانت عابرة.

محنة المدينة

وتعلو نغمة الاحتفاء والحب تجاه باريس، كلما تعرضت لمحنة طبيعية أو عسكرية، ولم تكن هناك محنة أقسى من تلك التي مرت بها عندما غزاها الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، وقد كان علي محمود طه من أسبق المنفعلين من الشعراء بسقوط باريس، فقد عرف المدينة وربطته بها صلة الإعجاب العاطفي والفني، فاتخذ من ذكرى عيد الحرية (14 يوليو 1940) - وقد شهد في حدائق فرساي المشهورة الاحتفالات الباهرة بليلة هذا العيد - فرصة لتتدفق مشاعره الأسيانة على باريس ولياليها:

سألوني عن بياني وقصيدي أسفا... باريس، قد مات نشيدي
فاعذري المزهرَ في كفي إذا أخرسته ضجةُ الرزءِ الشديدِ


وهو يؤكد العلاقة الحميمة التي تربطه بها «لم أنس نجواك» و«لا أنسى ليالي على روضك..»، وكذلك العلاقة الفكرية «ثمر الفكر ومجنى نوره»، لذا عندما يبكيها في هذا «الرزء الشديد» فإن لديه أسبابه الخاصة والعامة، وفي الأخيرة تتحول باريس من مدينة ذات جمال مادي ظاهر (أبنية وحدائق ونساء...)، إلى معان مجردة أبرزها: الفكر والحرية والمساواة والإخاء الحر كما تتوالى الكلمات ذات الأبعاد الروحانية: كعبة، موكب، النور:

كيف يا باريس بالله هوى ذلك النجمُ من الأفق البعيدِ؟
إن يَنَل منكِ المغيرون فما فتحوا غيرَ تخومٍ وحدودِ!
لست بنيانًا، ولا أرضًا، ولا غابَ آسادٍ، ولا جنَّة غيد
أنت معنى عالمُ الفكر به يتحدى قبضةَ الباغي المريدِ
كعبةَ الأحرار! هذي محنةٌ راعتِ الأحرارَ في أكرم عيدِ
صُرعَ النورُ به وانحسرتْ جبهةُ الشمس عن النور الشهيدِ


ويعود الشاعر - بعد انتهاء الحرب - إلى مدينة «كان» بالريفييرا الفرنسية صيف عام 1946، وقد أقيمت في خليجها الفاتن حفلة شائقة للسباحين والسباحات ذات ليلة قمراء، ويعود الشاعر إلى ديدنه في مزج الجمال الأنثوي بجمال الطبيعة، ويختزل المدينة الغربية في بعد جمالي مادي، يستمد عناصره من البحر والشجر والقمر و«السباحات الحسان»، ويسيطر التصوير الحسي، حتى يخيل للقارئ أن المدينة ليست سوى عربدة وانفلات وحانات (والضوء فوق الخصور منهمر، والماء تحت الصدور مستعر)، ومع ذلك لانظفر بأي خصوصية للمكان الغربي، ويمكن أن تصلح قصيدة «البحر والقمر» لأكثر من شاطئ وأكثر من مدينة غربية.

مطاردة المجد

وظل زكي مبارك «يطارد المجد» في باريس مدة خمس سنوات (1927 - 1931) ويبدو أنه قيّد نفسه بهذا الهدف العلمي، وتحمل من أجله كله المشقات، فلم يتسع المجال عنده للتحليل العميق والدرس الفكري الوافي لمدينة، طالما أقام حولها هالة من التقديس والجاذبية، واكتفى بالانطباعات والعموميات التي كان يعرف كثيرًا منها قبل رحلته، بالرغم من ادّعاءاته الكبرى «لقد تغلغلت في أعماق الحياة الفرنسية، ولم يصل أحد إلى مثل ما وصلت إليه من الألفة الصافية..»، وهي ادّعاءات مقبولة في حدود كونها لونًا أدبيًا يجنح إلى المبالغة والغلو، لا كونها فكرًا أو تصورًا حقيقيًا، وهكذا بقي - في شعره - على شاطئ نهر السين يناجي النيل أكثر مما يناجي السين، ويصارع «في سلم الجمال وحربه» وآملاً في العودة إلى مصر ظافرًا وهنالك:

ستأسو عذارى النيل آثار ما جنت عليك عذارى السين حين تعود


بل إن أحدهم ممن طالت إقامته في باريس أخبره بلطف أنه لم يعرف باريس، أقول هذا لأن القصائد التي ضمها كتاب «ذكريات باريس» في طبعته الأولى، لم تقدم شيئًا حقيقيًا عن صورة المدينة الفرنسية، يعادل الادعاءات الكبرى أو المدة الزمنية التي قضاها فيها، وجل ما قدمته هو زكي مبارك في باريس، وكيف يعيش فيها، وتشترك - جميعًا - في إحساس الغربة والحنين إلى مصر، وقد يعود ذلك إلى أن قصائد الذكريات كتبت بعد وصوله إلى باريس بفترة وجيزة (في الفترة من 12 / 6 / 1927 إلى 21 / 9 / 1927)، ماعدا «غريب في باريس» التي نظمت متأخرًا في 28 / 9 / 1929.

يحرص الشاعر على أن يقدم باريس في جانبين متقابلين: جانب اللهو والعبث وجانب العلم والجد، وبالعودة إلى العنوان الكامل لكتاب «ذكريات باريس، صور لها في مدينة النور من صراع بين الهوى والعقل والهدى والضلال»، يتأكد هذا المعنى، ويستمر البعد الجمالي ممتزجًا بالتصور الديني/القرآني، فهذه حديقة لكسمبور بالحي اللاتيني، تبدو جنة «لأنها تشبه من بعض الوجوه الجنة التي وعد بها المتقون، ففيها السدر المخضود، والطلح المنضود، والظل الممدود، والماء المسكوب، وفيها الحور العين والولدان المخلدون، وإن كانوا لايطوفون بأكواب وأباريق وكأس من معين. هي تشبه بعض الشبه الجنة القرآنية

لا يسمع فيها المؤمنون لغوًا ولا تأثيمًا، إلا قيلاً سلامًا سلامًا. أما الجنة اللاتينية، فبستان أنيق طالما رنت فيه القبل الآثمة، وتمت فيه مواعيد اللهو والمجون...».

غريب في باريس

ويتكرر التشبيه في مفتتح قصيدة «غريب في باريس» فالمدينة «جنة الخلد» الظليلة، لكن يشقى فيها الشاعر المغترب، وفي المقطع الثاني يظهر الجانب الآخر من باريس، ويتحدد من خلال شخص الشاعر وآلامه الخاصة في ذلك الحين:

مَغاني النيل كيف أقصتْ رَبيبَ أزهارِك الخطوبُ
وكيف ألقينهُ بأرضٍ أصحُّ أحلامها كذوبُ
أديمُ أجوائها سوادٌ فلا شروقٌ ولا غروبُ
وحبُّ غاداتها مواتٌ فلا سكونٌ ولا هبوبُ
ومن تَبعْ جسمها بشيءٍ فقلبها مُقفرٌ جَديبُ


باريس.. الأحلام الكاذبة والأجواء السوداء وبائعات الهوى والحب الميت. هذه الصورة «الشخصية» للمدينة، هل نركن إليها فنقول: هذه باريس في تصور زكي مبارك؟ يجيب مبارك في رسالة لأحد أصدقائه بالقاهرة: «في باريس اليوم نحو خمسة ملايين من السكان، أفيعيش هؤلاء الناس جميعًا بفضل الرذيلة؟ هذا محال، فلم يبق إلا أن نقف عند حدود العقل والمنطق، فنتصور أن مثل هذه المدينة - وفيها نحو مليون من الأجانب - لا تخلو من أماكن تسود فيها الرذيلة ويغلب الشيطان. ولكن هل خطر ببال أحد من الذين هاجموا باريس أن يحدّثونا عمّا فيها من المعاهد والمدارس والكليات والمتاحف والمعامل والملاجئ والمستشفيات؟ وهل خطر ببال أحد منهم أن يذكر أن الرجل قد يعيش في باريس بضع سنين ثم لا تقع عينه على منزل يبنى أو منزل يهدم، حتى لأتصور أنا أن الله خلق هذه المدينة مرة واحدة يوم خلق الأرض والسماء؟

وهل فكر أحد من الذين رأوا باريس أن يلاحظ أن سكة حديد المترو التي تسير تحت الأرض ومن فوقها المنازل والقصور والحدائق، ومن فوقها أيضًا نهر السين بفروعه التي تزخر بالموج والسفين، وهل اتجه فكر أحد من الذين يجرحون باريس إلى أن رواد المكاتب وحدها ممن يسايرون الحركة العلمية في أرجاء العالم يزيدون أضعافًا مضاعفة على رواد الملاهي والملاعب والمشارب، في حين أن نعيم الحواس له عند أهل باريس قيمته.

صديقي! هذا باريس! ولا أقول: هذه باريس!

فإن كانت عندك ذخيرة من المال، فتعال أعلمك كيف يضع الرجل درهمه في سبيل المجد والشرف، وكيف يستطيع أن يستقي ماء الحياة من منبع الحياة، فهنا معاهد العلوم والفنون والآداب، وإن كنت تريد أن تضيع مالك في الفولي بيرجير والمولان روج، فإني أوصيك بتقويم عزمك وتهذيب نفسك لتبقى لك نعمة المال والشباب والعرض المصون.

أيها الناس! لكم باريس، ولي باريس، والسلام.

وهكذا تستقر صورة هذه المدينة الغربية في بعد جمالي حضاري، وتكاد تقترب من «يوتوبيا» عارية من الزمن، وإن غلب على الشاعر أحيانًا منظور الرحالة الشرقي، يقطع الأميال ليصور ويرصد ويقارن بين الغرب الحاضر وشرقه الغائب. وبالتالي انتفى الموقف العدائي للمدينة الأوربية، الذي راده بودلير بالهجاء اللاذع، وبلغ قمته مع إليوت في «الأرض اليباب» و«الرجال الجوف.

----------------------

يكذبُ أقوالَ الوشاة ِ صدودها ويجتازها عني، كأنْ لا أريدها
وتحتَ مجاري الدّمعِ منّا مودّةٌ، تلاحظُ سراً، لا ينادي وليدها
رفعتُ عن الدنيا المنى ّ غيرَ ودها فما أسألُ الدنيا، ولا أستزيدُها!


جميل بثينة

 

 

إيهاب النجدي 





 





أمير الشعراء أحمد شوقي





د. زكي مبارك





الشيخ مصطفى عبد الرازق