صحبة قصر الثقافة

صحبة قصر الثقافة

بدأت أحلامي الثقافية في التشكل والنضج منذ أواخر الخمسينيات، وكانت مصادر المطالعة المفتوحة تبدأ بالمكتبات العامة التي ضمت مكتبة البلدية أولاً، ثم مكتبة مدرسة طلعت حرب الثانوية التي شهدت تجمعًا صغيرًا من الطلاب المحبين للقراءة، أطلق على نفسه اسم «أصدقاء المكتبة». وكنا نجتمع يومًا في الأسبوع لمناقشة ما قرأناه، وكانت تجربة بالغة الثراء لأنها علمتنا القراءة بعمق، والاستعداد الجدي لإطلاع أصدقائنا في المجموعة على خلاصة ما أفدناه من قراءة هذا الكتاب أو ذاك. وإلى جانب مكتبة البلدية ومكتبة المدرسة، كان هناك العم كامل الذي كان يبيع ويقوم بتأجير الكتب المستعملة، أو المرتجعة، على عربة يدوية، كانت هي النواة الأولى لمكتبتي الخاصة التي بدأت في تكوينها منذ السنة الأولى في المدرسة الثانوية، حيث كانت عربة العم كامل تقبع في الطريق إليها. وقد أنتجت عربة العم كامل مكتبتين صغيرتين أنشأهما اثنان من الذين تعلموا منه، وتلقوا أسرار التجارة بالكتب المرتجعة والمستعجلة منه، وكان أولهما طلعت قنديل، وثانيهما محمد أبو العلا، وكلاهما كان المركز الأول لعشاق القراءة في مدينة المحلة الكبرى.

وقد انقطعت صلتي بذلك كله حين ذهبت إلى الجامعة، واخترت قسم اللغة العربية في كلية الآداب، إلى أن فوجئت في إحدى الإجازات الصيفية بانتقال مبنى قصر الثقافة من مقره القديم إلى مقر جديد، هو أحد القصور الفارهة لأحد أثرياء المحلة الذي تركته أسرته لوزارة الثقافة، بعد موته، فأصبح قصرًا للثقافة في أرقى حي بالمدينة في ذلك الزمان البعيد في مطالع الستينيات. وقد عرفت من أحد رفاقي المغرمين مثلي بالقراءة أن هناك جماعة أدبية تشكلت في القصر، وتجتمع أسبوعيًا في مكتبته. وأغراني بأن أصحبه إلى يوم اجتماعها، ولم أكن أعرف أحدًا من أفرادها، فذهبت معه، وحضرت الاجتماع الأول، بعد أن قدمني لهم الصديق الذي غاب عن ذاكرتي، وقدمهم لي.

وكنت في ذلك الوقت قد أكملت عامي الجامعي الأول، والتحقت بالقسم الذي كنت أحلم بالالتحاق به في كلية الآداب - جامعة القاهرة، وهو قسم طه حسين الذي فتنت به منذ أن قرأت رواية «الأيام» رائعة طه حسين التي جعلتني مسحورًا بهذا الفتى الفقير الذي أدّى به الجهل إلى العمى نهائيا. وعلى الرغم من ذلك، فإن ذلك الفتى ظل ينتصر، دائمًا، على التحديات العسيرة التي واجهته في حياته، ونهل من العلم والمعرفة ما جعله صاحب بصيرة ثاقبة، يرى بها ما لا يراه المئات من المبصرين الذين ألقى بهم التعصب والتطرف في عوالم أكثر إظلامًا من العوالم التي تحيط بالكفيف. وسرعان ما عرفت، في الجامعة، وبعد التهامي كل كتب طه حسين التي وقعت بين يديّ، أن طه حسين كتب «الأيام» بعد محنة كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي انهالت عليه اتهامات التكفير بسببه. وقد سعى الرجل إلى استعادة تاريخه الشخصي والتطلع إليه في صفحات الذاكرة، كي يؤكد لنفسه أن الفتى الأعمى الصغير الذي انتصر على محنة العمى والجهل قادر - وهو كبير - على الانتصار على محن أقل شأنًا في النهاية. أعني أن الكتاب كان محاولة للعودة إلى ماضي الذات لاستخلاص معدنها الذي يمكن أن يكون مصدر قوة في مواجهة خصوم الحاضر الذين تكالبوا على طه حسين بعد نشر كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي أصدره في شهر مارس 1926.

لقاء مع الجماعة الأدبية

ومضت أيام دراسة العصر الجاهلي في السنة الأولى من الكلية، ودخلنا إلى دراسة العصر الأموي في السنة الثانية، وانتهى العام وبدأت العطلة الصيفية الطويلة التي تعوّدت قضاءها في المحلة الكبرى. وبالفعل عدت إلى البلدة التي جعلتني أعشق الأدب من قبل أن أعرف الأدباء الذين فتنت بأعمالهم. وبعد أن قضيت أيامي الأولى في المحلة، ذهبت إلى لقاء الجماعة الأدبية في قصر الثقافة، وتعرفت على عدد من الشبان، يماثلني بعضهم في العمر، وبعضهم أكبر أو أصغر مني بقليل، أي أننا ننتمي جميعًا إلى الجيل نفسه، وأحسب أن هذا ما أسس حبال المودة بيننا سريعًا.

وكانت المجموعة يتصدرها زكريا التوابتي، رحمة الله عليه، ونصر حامد أبوزيد، وسعيد الكفراوي، ومحمد صالح، وأحمد الحوتي وأحمد عسر رحمة الله عليهما، ورمضان جميل الذي لم يكن قد تخرج في الأزهر بعد، أما زكريا التوابتي فكان كاتب قصة قصيرة، وحصل على جائزة نادي القصة للأدباء الشباب أكثر من مرة. وكان عضوًا قياديًا في جماعة الإخوان المسلمين في المحلة الكبرى. ولم نكن نعرف هذه الحقيقة، فقد كنا أكثر تركيزًا على قضايا الأدب. لكن من الواضح أن تأثير زكريا كان ممتدًا إلى نصر حامد أبوزيد الذي كانت رؤيته للعالم أقرب إلى التعاطف مع رؤية الإخوان المسلمين، لكن مع قدر كبير من الانفتاح والتسامح الفكري، فقد كان نصر يكتب في تلك الأيام، شعرًا عاميًا على طريقة صلاح جاهين الذي أسهم إسهامًا أصيلاً في تأسيس ما أصبح يطلق عليه قصيدة العامية، في موازاة قصيدة التفعيلة التي كان مثلها الأعلى في ذلك الوقت صلاح عبدالصبور وأمل دنقل الذي أصبح شاعرنا المفضل بعد عام 1967. ويبدو أن نصر قد شعر أنه لن ينجز إنجازًا أساسيًا في الشعر العامي فتوقف عن كتابته، لكنه لم يتوقف عن قراءته والاستمتاع به. ويبدو أن سعيد الكفراوي دخل إلى عالم كتابة القصة القصيرة متأثرًا بنجاح زكريا التوابتي في الحصول على جائزة نادي القصة. وقد تفجرت موهبته في هذا الاتجاه الذي سعى فيه إلى تصوير الأحداث والشخصيات التي كانت تمر به أثناء عمله صرافًا في بنك التسليف الزرعي إن لم تخنّي الذاكرة، وهو الأمر الذي كان يدفعه إلى الإقامة في مدينة القاهرة، والعودة إلى قريته: «كفر حجازي» التي كانت قريبة من المحلة الكبرى، وما أكثر ما كان يدعونا إلى القرية للغداء، فتعرفنا، هناك، على أبيه رحمة الله عليه، وكان فلاحًا شهمًا كريمًا بكل معنى الكلمة، ميسور الحال بسبب الأفدنة التي يملكها ويفلحها، ويعيش من دخلها معيشة مستورة.

حكاء من طراز فريد

وكان سعيد دائم المناكفة لأبيه الذي كان يحنو عليه حنوًا خاصًا، لعل سعيد يكتب عنه في إحدى مجموعاته القصصية، أو حتى في مذكراته، فسعيد حكاء من الطراز الأول، وأذكر أننا كنا نستمتع إلى حد كبير بطريقته الدرامية في حكيه للأحداث التي كانت تمر به، والتي سبق أن قصها علينا، ولم نكن نمل من سماعها أكثر من مرة، وذلك لبراعة أدائه الدرامي في الحكي الشفاهي، وقد ظل سعيد يبعث الكثير من البهجة في نفسي، عندما كان يقص علينا حكايات يخترعها عن جنية آخاها وآخته، وكنا لا نعلق إلا بالضحك على براعته في التخييل الذي يمزج الواقع بالخيال، بل يتباعد عن الواقع بما يشد السامع إلى الأحداث التي تبدو أشبه بالواقع مع أنها ليست منه. والحق أنني كنت شديد التعلق، ولاأزال، بقدرة سعيد الحكائية، وأدفعه دفعًا إليها في كل مجلس يضمنا، مؤمنًا دائمًا بقدرته على إشاعة البهجة في المجلس الذي يجلس فيه. ولقد ظهرت موهبة سعيد الحكاء في كتابه الذي أصدره أخيرًا بعنوان «حكايات الناس الطيبين» الذي رسم فيه لوحات قلمية فاتنة عن شخصيات تركت فيه أثرًا كبيرًا من جيل العمالقة الذي يضم نجيب محفوظ ويحيى حقي وغيرهما من الشخصيات التي عرفها الكفراوي وتأثر بها. وبالتأكيد ازددت حبًا له لما فيه من خصال أبرزها البراءة التي لم تفارقه والنوادر التي يطالبه الجميع بذكرها، ولا يملون من سماعها. وأعتقد أن سعيد الكفراوي الذي كان من أسبق أبناء صحبة قصر ثقافة المحلة سفرًا إلى القاهرة لم يجد من ينافسه في مقدرة الحكي، إن لم يتفوق عليه في حالات بعينها سوى خيري شلبي، صديقي الحكاء الأعظم الذي تتسلل إلى رواياته خصائص الحكي الشفاهي في اللغة والسرد، وتراكيب المجازات، فضلا عن تتابع الأحداث وبناء الشخصيات.

ويبدو أن حكايات سعيد الكفراوي أنستني، في غمرة تذكرها، الإشارة إلى ما أذكره عن زكريا التوابتي الذي كان بمنزلة المعلم الروحي لسعيد لفترة غير قصيرة، فقد كان زكريا متميزًا في كتابة القصة القصيرة بالفعل، يستمدها غالبًا من حياة القرية التي ينتسب إليها.

ولم أكن أعرف أن سكنه (شقته) التي كان يعيش فيها، وحيدًا، أمام سور شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة لا يفصل بين البيت الذي كان يقطنه والسور سوى شارع صغير. ولم يكن أغلب الصحبة التي تعودت اللقاء في سكن زكريا التوابتي تعرف أن المسكن هو مركز سرّي من مراكز الإخوان المسلمين، فالرجل، رحمة الله عليه، لم نكن نرى منه سوى التدين والحرص على أداء الصلوات في مواعيدها، والتعاطف الحماسي مع أفكار أعلام الإخوان المسلمين، وبخاصة حسن البنا وبعده سيد قطب. وما كان أحدنا يخطر على باله أن الغرف المغلقة في مسكن زكريا هي قاعات مخصصة للقاءات أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين، ومقر عيادتهم الصحية، بل مخزن أسلحتهم فيما زعم لي البعض، ولا أدري وجه الحقيقة في هذا الزعم.

وكان من الطبيعي أن أصطدم بأفكار زكريا وأن أقارعه الحجة بالحجة، فقد كان في أقصى اليمين، بينما كنت أنا متأثرًا بأفكار اليسار التي عرفتها في سنوات الجامعة، وجذبتني إليها في مناخ، كان الاتحاد السوفييتي هو الحليف والسند لنا في معاركنا ضد الاستعمار القديم والجديد، فضلا عن الأعمال الأدبية الروسية التي كانت متاحة لنا بقروش زهيدة في مكتبة الشرق التي كانت تبيع كتب أعلام الماركسية اللينينية وروائع الأعمال الأدبية الروسية.

خلافات ومودة

ولاأزال أحتفظ، في مكتبتي الخاصة، بعدد غير قليل من الكتب الفكرية التي اشتريتها من هذه الدار التي كانت تحمل اسمها مجلة ثقافية رأس تحريرها المرحوم محمد مندور الناقد الأدبي الفذ الذي توفي سنة 1965 أثناء تأديتي امتحان الليسانس. وأعتقد أن اختلاف التكوين الثقافي كان سبب التنافر الفكري بيني وبين زكريا التوابتي، ولكن هذا الاختلاف لم يقطع ما بيننا من أواصر صنعتها هواية الأدب بالدرجة الأولى. ولم أكن أتخيل، قط، أن زكريا التوابتي، وهو المنغمس في هواياته الأدبية، والحريص على كل لقاءاتنا، والإسهام الحماسي في كل نقاشاتنا ومجادلاتنا حول الأدباء الكبار في ذلك الوقت هو قيادي إخواني خطير إلا بعد أن قبض عليه، ضمن محاولة الإخوان قلب نظام الحكم الناصري، في أواسط الستينيات تقريبًا، وهي المحاولة التي انتهت بإعدام سيد قطب وسجن البقية الباقية من الجماعة. وكان زكريا أحد الذين حكم عليهم بالسجن خمسة عشر عامًا. وقد خرج قبل نهاية مدة العقوبة مع الانفراجة التي كان سببها تحالف السادات مع الإخوان المسلمين، بعد موت عبدالناصر، للقضاء على التيارات المعادية للسادات: القومية واليسارية والناصرية.. إلخ.

وقد التحق زكريا التوابتي، بعد خروجه من السجن، بكلية الآداب، واختار قسم اللغة العربية الذي كنت قد عينت فيه معيدًا أثناء سجنه، وظللت أترقى إلى أن أصبحت أستاذًا مساعدًا. وكان من الطبيعي أن أرعى الصديق القديم، وأن أقدّم له ما أستطيع من مساعدة. وكان هو، بدوره يسألني، كلما ذهب إلى المحلة الكبرى للزيارة، عما إذا كنت أريد شيئًا، فأحمّله ما كان يمكن أن أتدبره من مال ليحمله إلى أمي التي ظللت أرعاها إلى أن توفّاها الله، راضية عني مرضية من كل ما حولها. وكان زكريا لا يتردد في الثناء عليّ بسبب رعاية أمي، فذاك - في نظره - دليل على أنني عميق الإيمان في تقديره. وتخرج زكريا في الجامعة، وانقطعت أخباره، ولم أره إلا في زيارة لجامعة صنعاء محاضرا، حيث فوجئت به بين الحاضرين. وعندما انتهت المحاضرة أقبل عليّ هاشًا باشًا، ودعاني إلى الغداء في منزله ووعدته بالقبول. وذهبت بالفعل، وعلى السجادة المتواضعة التي جلسنا عليها لتناول الطعام، حكى لي حكاية لا أنساها، وقال لي إنه عندما دخل إلى السجن انهالت عليه أبشع صنوف التعذيب، مع سؤاله عن أسماء أعضاء التنظيم، ولم يجد خلاصًا إلا بتضليل زبانية التعذيب الذين قال لهم الأسماء التي خطرت على باله من الخصوم الفكريين، وكان اسمي أول الأسماء التي خطرت على باله، لأنني كنت أرفض فكر الإخوان المسلمين ولا أتقبل دعوتهم إلى إقامة دولة دينية، أو أننا نعيش في جاهلية معاصرة، أو أن الحاكمية لله،فقد كنت، ولاأزال، أرى أن الحاكمية هي للبشر في كل الأحوال، حتى لو نسبوها إلى الله، فهي تتحقق،إذا تحققت بواسطة جماعة بشرية، تنسب نفسها إلى الله - سبحانه وتعالى - الذي تدعى الإنابة عن دينه، غير معصومة أو منزهة عن الخطأ بحكم طبيعتها البشرية.

وتركت لزكريا إكمال الحديث عن الحوارات التي كانت تدور في السجن، وذكر لي كتاب الهضيبي الذي تعرض لمبادرات العنف، رافضًا إياها، على نحو ما يبين عنوان كتابه «دعاة لا قضاة» ولم ينس زكريا أن يخبرني أن رأية فيّ قد تغيّر بعد خروجه من السجن، وبسبب

ما رآه من برّي بأهلي، وبخاصة أمي التي لم تكن تتوقف عن الدعاء لي وله، في كل مرة يزورها، حاملاً كل

ما كنت أرسله لها. فقد كان ذلك علامة إيمان يعصمني من الخطر الذي بعدت عنه بتحوّلي إلى يساري معتدل، لا يجد تناقضا بين هويته الإسلامية والانحياز إلى الأفكار التي تدعو إلى العدل الاجتماعي والحض عليه. ومع الأسف انقطعت علاقتي بزكريا التوابتي بعد ذلك، فقد توفيت والدتي، رحمها الله، وشغلتنا الحياة، وظل هو في صنعاء، إلى أن عاد منها، وسمعت بوفاته منذ وقت قريب، رحمه الله، فقد أخلص لما اعتقده، وتعذّب في سبيله دون أن يغريه مال أو خوف عما آمن به.

النشأة الريفية

ويشترك محمد صالح مع سعيد الكفراوي وزكريا في النشأة الريفية، فقد كان من قرية قريبة من المحلة اسمها «منية شنتنا عياش» تربى في كنف أخيه الأكبر بعد وفاة أبيه. وأذكر أنه كان يأخذ الشلة لزيارة القرية والتمتع بجمال الخضرة في الحقول التي كانت تمتد على مدى البصر، وأظنه كان منتسبًا إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب، أو إلى قسم الدراسات الأوربية القديمة، فقد كان يحدّثني كثيرًا عن المرحوم محمد صقر خفاجي، ولا أزال أذكر أن محمد صالح كان متمرّدًا على كل شيء. الشيء الوحيد الذي آمن به هو الشعر الذي كان مقلاً في نظمه، وقد جمع قصائده بعد سنوات عدة ديوان جميل بعنوان «الوطن الجمر». وكانت قصائد الديوان صرخة احتجاج على الثورة المضادة التي قادها السادات ضد التوجه الناصري، ولا أزال أذكر قصيدة من قصائد هذا الديوان عن عودة السادات من زيارة إسرائيل، وكيف استقبلته فرقة موسيقية، قادها محمد عبدالوهاب الذي كان يرتدي زيًا عسكريًا بدرجة لواء تحية لعودة «بطل الحرب والسلام» الذي استقبلته الفرقة الموسيقية التي قادها «الشيخ الخريفي» كما تصفه القصيدة. وكانت هذه القصيدة مع غيرها من القصائد دالة على موهبة محمد الشعرية الصافية، وعلى ميله إلى التجريب الذي تجلى في قصيدة «آنية وآباريق». ويبدو أن ميل محمد صالح إلى التجريب هو الذي دفعه إلى هجر قصيدة التفعيلة والإقبال على قصيدة النثر التي أصدر في شكلها دواوين شعريين بالغي التميز خصوصا وسط طوفان قصائد النثر التي لا قيمة لها. ولم يفارق محمد صفة الإقلال في الكتابة إلى اليوم. ويرجع ذلك - بالطبع - إلى مشاغل الحياة والعمل الذي لايزال يلتهم الكثير من وقته. وقد أصبح، الآن، مدير تحرير مجلة «كل الناس» التي تلتهم أغلب وقته. وقد ظللنا على علاقة وثيقة، وكنت أراه بشكل منتظم، عندما كان سكنه قريبًا مني، ولكن سكنه البعيد في مدينة نصر، ثم في التجمع الخامس، باعد ما بيننا بعض الشيء فلم أعد أراه إلا في المناسبات.

باقي الشلة

يبقى من أفراد شلة قصر الثقافة اثنان أصغر سنا بسنوات قليلة، أولهما جار النبي الحلو الذي جذبه عالم القصة القصيرة وبرز فيها، ثم انتقل منه إلى عالم الرواية وأحسبه الوحيد بيننا الذي كتب رواية عن المحلة. بعنوان «منزل على نهر» هي أقرب إلى السيرة الذاتية التي يصوّر فيها نشأته في منزل كان يقع مباشرة على نهر، كان يحيط بمدينة المحلة، وقد تم ردمه بعد ذلك بسنوات عدة، بحيث لم يعد يذكره إلا الذين عاشوا طويلاً في المحلة، تلك التي آثر جار النبي الحلو أن يبقى فيها إلى اليوم، ولايزال فيها، بعد أن أصبحت مكانته الروائية تفرض نفسها على القراء.

كان جار أقرب إلى المنسي قنديل بحكم السن المتقاربة، فلم يكونا يفترقان، حتى حين كان المنسي طالبًا في كلية الطب بجامعة المنصورة القريبة من المحلة، وسرعان ما تخرج فيها، ولكنه آثر طريق يوسف إدريس، وأسلم نفسه تمامًا إلى موهبته الأدبية التي سرعان ما رأينا تفجّرها، خصوصًا بعد إن استقر في القاهرة، وأخذ ينشر سرديات عن شخصيات وأحداث من التاريخ العربي التي واصل كتابتها في مجلة العربي. ولم يتوقف عن الكتابة إلا بعد سنوات قضاها مغتربا في قطر، وعاد إلى القاهرة، وهو يحمل رواية بعنوان «بيع نفس بشرية» أحسبها هي التي لفتت الأنظار إليه، ولايزال المنسي يواصل إنجازاته الروائية المتتابعة التي كان آخرها رواية «سمرقند» التي حصل بها على جائزة مالية ومعنوية أخيرًا.

وكان المنسي قبل ذلك بأعوام قد عاد إلى الكتابة في مجلة العربي التي أصبح أحد المحررين البارزين فيها، ولم أعد أراه إلا في زياراتي إلى الكويت.

ويصعب علىّ أن أتناسى - في تذكر شلة قصر الثقافة - أربعة أصدقاء أعزاء، أولهم محمد فريد أبو سعدة الذي بدأ كتابة الشعر وهو طالب في الجامعة، وقد انضم إلينا في سنوات الطلبة، وكنا نقرأ قصائده التي كانت تحمل علامات التأثر بأمل دنقل وأشباهه من شعراء الرفض، لكن فريد سرعان ما استقل بنفسه الشعري، خصوصًا بعد أن عمل في القاهرة، وبدأ في مواصلة النشر، وقد ناقشت أحد دواوينه في أتيليه القاهرة. ويحزنني أنني لا أتابعه، نقديا، بالعناية الكافية، ولكنها مشاغل الحياة التي تشغلنا عن أحبابنا.

وقد سبق فريد إلى كتابة الشعر المرحوم أحمد الحوتي الذي كان من أوائل من أخذ ينشر من مجموعتنا في القاهرة، وتوالت دواوينه إلى أن داهمه مرض مفاجئ انتهى بموته، تاركًا في أنفسنا ذكرياته التي جمعتنا به وجمعته بنا. وقد كان أحمد عسر هو أول الراحلين في مجموعة قصر الثقافة، وكان أكبرنا سنا، وأسبقنا إلى التخرج من كلية الآداب في جامعة القاهرة. وكان فلاحا كريمًا، ما أكثر ما ذهبنا إلى بيته، وإلى قريته، لنكمل مناقشاتنا إلى أن نجوع، فتبادرنا زوجه الكريمة بالطعام، وأظنه كان يضيق بقسوة نقدنا لبعض قصصه الضعيفة. وأذكر أننا ذهبنا إلى الطعام عنده، بعد جلسة قاسية في نقدي إحدى قصصه، وكنا مستغرقين في الطعام والضحك، وفي غمرة المرح ربت على ظهري قائلا: كل، فإن النقد يحب التغذية. وظلت هذه العبارة نادرة نتذكرها إلى اليوم، مع تعليق آخر له على قسوة نقدنا له، هو: لابد من عشرة في المائة مجاملة في أي نقد. ولكننا لم نعرف المجاملة في هذه السنوات، بل الصراحة الكاملة التي أوقن أنها أسهمت إسهامًا إيجابيًا في تطوير أعمالنا الإبداعية والنقدية.

الأزهري الآبق

ولا يبقى سوى رمضان جميل «الأزهري الآبق» كما كنا نسميه، وقد عرفناه طالبًا أزهريًا. وكنت تعودت زيارته في الغرفة التي كان يقطنها مع أربعة من أقرانه في حي الحسين، ولا أنسى سيره في الصباح مرتديًا «القبقاب» الذي يحدث صوته المعروف على بلاط الحارة إلى بائع الفول الذي يملأ من عنده وعاء عميقًا من الفول، فوقه طبقة كاملة من الزيت الحار. وقد أفطرت معهم مرة واحدة ولم أكررها. وكان رمضان أخبر مني بكتب التراث، وأذكر أنه ساعدني في إعداد أطروحتي للماجستير عن شعراء الإحياء بأن جمع لي دواوينهم من باعة الكتب القديمة التي يعرف محتويات ما عندهم ويحفظها عن ظهر قلب. وكان لهذا «الأزهري الآبق» إنجاز بديع في القصة القصيرة. أذكر أن أولى قصصه التي شهدنا لها بالتميز كانت بعنوان «موت عامل نسيج يدوي». وهي قصة عن التحول الذي حدث في المحلة الكبرى بعد أن انتقلت صناعة النسيج فيها من الاعتماد على الأنوال اليدوية إلى الماكينات التي سحبت البساط من تحت العمال اليدويين الذين كان عليهم، إما أن يهجروا الأنوال اليدوية أو يظلوا متمسكين بأنوالهم اليدوية، معادين للتطور الصناعي الذي أنهى عالم الأنوال اليدوية وأصحابها الذين حطمهم التطور الطبيعي لصناعة الغزل والنسيج في المحلة الكبرى. وينتقي رمضان جميل في قصته شخصية عامل نسيج يدوي، تنتهي حياته بسبب الفقر والإحباط والمرض والإصرار على عدم الاستجابة إلى التطور. وكانت القصة جميلة ومؤثرة، تبين عن تأثر رمضان بكتابات تشيكوف التي أسرتنا في هذه السنوات، وكانت مصدر إعجابنا الباكر بيوسف إدريس الذي جعلناه تشيكوف المصري. وأذكر أن أحد المحررين في جريدة الجمهورية، وكان مشرفًا على صفحة أدباء الأقاليم، قد أعجبته القصة. وكان ذلك حدثًا فريدًا مفرحًا لنا جميعًا، فقد كان بالفعل العمل الإبداعي الأول الذي ينشر لواحد منا. ولكن مع الأسف، لم يستمر رمضان جميل في الكتابة، فقد ألهته واجباته العائلية التي كان عليه النهوض بها بعد تخرجه، فتباعد عن الأدب شيئًا فشيئًا إلى أن انقطعت علاقتي به، خصوصًا بعد سفره إلى أحد أقطار النفط التي قضت، فيما يبدو، على موهبته الواعدة في ذلك الزمن البعيد.

أما الشخص الاستثنائي في هذه المجموعة الذي لايزال مثالاً فريدًا للعصامية وبناء الذات، فهو نصر حامد أبو زيد الذي عرفناه فني لاسلكي، يعمل في شرطة نجدة المحلة الكبرى، بعد تخرجه في مدرسة الصنائع الثانوية بمدينة طنطا التي كانت قريته - قحافة - متاخمة لها. وقد انتقل نصر للعمل بالمحلة التي استقر فيها هو وأسرته التي كان يعولها. ولم يمنعه العمل من مواصلة القراءة في المجالات التي جمعتنا وإياه. وقد سعى إلى إكمال تعليمه العالي بالرغم من أعبائه الأسرية، فحصل على الثانوية العامة من منازلهم، وانتقل إلى القاهرة ليعمل فني لاسلكي في شرطة نجدة العجوزة، ليكون قريبًا من الجامعة، حيث أصبح طالبًا منتسبًا إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب، وهو القسم الذي كنت أعمل فيه، وحصل نصر على درجة الليسانس بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وهو أعلى تقدير، ولذلك تم تكليفه معيدًا في القسم.

واختار له الأساتذة الأقطاب العمل في مجال الدراسات الإسلامية التي لم يكن بها معيد. وقبل نصر التكليف مع أنه كان يريد التخصص في المجالات الأدبية أو النقدية، لكنه مضى في الطريق الذي اختير له، فحصل على درجة الماجستير في موضوع «المجاز عند المعتزلة» وانتقل منه إلى «التأويل عند ابن عربي». ومضى في نجاح في هذا المجال، وغاب لسنوات قضاها في اليابان، أستاذا معارًا في جامعة أوساكا، حيث بدأ تأليف كتابه «مفهوم النص» الذي لفت إليه الأنظار بقوة بعد أن طبعته الهيئة العامة للكتاب، وكان أعلى كتب الهيئة توزيعًا في السنة التي طبع فيها. وترقى نصر إلى درجة أستاذ مساعد، ومرت السنوات اللازمة لكي يترقى أستاذًا، وتقدم بأبحاثه التي رفضها أحد الأعضاء الذي استطاع التأثير في اللجنة التي رفضت الترقية، ومع ذلك لم يمض وقت طويل إلا وكان نصر قد تقدم بأبحاث جديدة فتمت الترقية لكن البعض تعلق ببعض العبارات في كتبه وفهمها على غير المراد منها، فبدأت محنة نصر أبو زيد، التي لم تنته بحكم محكمة النقض، بعد الاستئناف، بقرار الفصل بينه وبين زوجه، بعد اتهامه في دينه، ولكن قرار محكمة النقض قد ناقضه حكم محكمة موازية بإيقاف القرار الأول. واضطر نصر إلى الهجرة إلى الخارج، حيث استقر به المقام في أعرق جامعة هولندية. ولايزال الرجل مقيمًا هناك، أستاذًا جامعيًا في هولندا، مع احتفاظه بدرجته الجامعية في الجامعة. ونسى الجميع محنة التكفير التي مرّ بها، لكننا لم ننس صديقنا الذي عرفناه، وظللنا على يقين من إيمانه الديني والظلم الذي حاق به.

هكذا، تكتمل صحبة قصر ثقافة المحلة الكبرى التي لاتزال مستمرة، بالرغم من السنوات التي باعدت ما بيننا، وبالرغم من الموت الذي أخذ منا أحمد عسر وأحمد الحوتي، وبالرغم من قسوة مطالب الحياة التي سرقت منا رمضان جميل، ولاتزال محبة الأدب التي جمعتنا قائمة، كأننا لانزال نعمل بقول الشاعر القديم:

إن يُكْدِ مطرّف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالدٍ
أو يفترق نسبٌ، يؤلف بيننا أدبٌ أقمناه مقامً الوالدٍ


جابر عصفور