قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟

------------------------------

أفهم فن القصة القصيرة بوصفه جنسًا أدبيًا صعبًا ومتجددًا، يُلزم الكاتب ضرورة معرفة أصوله الفنية، إلى جانب قدرته على اصطياد لحظات من المشهد الحياتي اليومي العادي، ومن ثم تحويلها إلى مشهد قصصي دال، بعد إضافة ما هو فني إليها. القصة القصيرة، كسائر الأعمال الأدبية، ليست انعكاسًا لأحداث الواقع اليومي بشكل حرفي، بل هي انعكاس فني يتم خلاله اكتشاف المعادلة الإبداعية لتقديم الحياة بشكل فني مدهش، وإدخال الخيال الفني إلى مادة الحياة الواقعية. امتازت القصص الفائزة، بقدرتها على تحقيق شروط القصة القصيرة الفنية، بدرجة أو بأخرى: (الحدث الدرامي المتنامي والدال، بناء الشخصيات، الخيال الفني الفاعل، اللغة العربية الصحيحة، تحقق المتعة لدى القارئ، خلق الدهشة والمفارقة والسؤال):

قصة ( نزهة ) للكاتب جمال كامل فرحان. تتناول حدثاً بسيطاً يدور بين أب وولده، في أحد الحقول. ولقد استطاعت أن تجسد البيئة المحلية بعوالمها: الطين، النهر، العشب، وأن يكون الحدث حاضراً بحميمية وصدق فني، سواء من خلال الوصف أو من خلال الحوار. ولقد كانت اللغة بسيطة وموحية، وسليمة نحواً وصرفاً. وأخيراً استطاعت القصة في خاتمتها أن تترك دلالة كبيرة، تدين بشاعات الحرب دون كثير عظة أو مباشرة.

قصة ( وردة لحارس الغابة ) للكاتب عمران عزالدين أحمد. تمثل هذه القصة واحدة من مجموعة قصص قصيرة جدًا، استطاع الكاتب من خلالها أن يعبر بشكل لافت عن مواضيع كثيرة. إن أهم ما يميّز فن القصة القصيرة جدًا، أن القصة تتراوح من سطرين إلى عشرة أسطر، وقدرتها على تقديم متعة فنية دالة. مع ملاحظة أن القصص في مجملها جاءت متجانسة لتشكل عالماً واضح المعالم، يطمح إلى إظهار معاناة الشعب الفلسطيني اليومية، مستعيناً بعالم الحيوانات بإسقاطاته الدالة.

قصة ( إثم مركّب ) للكاتبة بثينة محمود الدسوقي. العنصر الفني الأكثر بروزاً في القصة هو طرافة الفكرة، وتداخل الفني مع الحياتي بشكل متلازم من خلال اسم بطل القصة المركّب. القصة تقدم حدثاً درامياً متنامياً يتناول هواجس بطل القصة. وإذا كانت القصة طريفة في فكرتها، وسير أحداثها فإن طرافتها تميل إلى السخرية المريرة، وبما يقدم دلالة موحية كبيرة في نهاية القصة.

قصة ( معرض الروح ) للكاتبة سلوى صعب. تتوفر القصة على عنصر الحدث، وهو الأكثر بروزاً وتصاعداً في القصة. مع وضوح الفكرة وتنامي الحالة الدرامية للقصة، التي تصل قمتها في خاتمة القصة. القصة تتناول حالة إنسانية، بشكل فني وغير مباشر، وذلك من خلال معرض فتاة فنانة، يكون قادرًا على كشف كنه العلاقة بينها وبين زوجها. وبما يعني قدرة الفن غير المحدودة على فضح خفايا الروح البشرية. ولقد جاءت اللغة منسجمة مع الحالة ومعبرة عنها بشكل جيد.

إن كتابة القصة القصيرة تعني بين أمور أخرى، اختيارا فنيا مقصودا، لبرهة من الزمن، قد تكون دقائق معدودة، ثم إعادة صياغة حدثها الواقعي، ليشكل دلالة إنسانية زمنا ممتدا، ولها القدرة على الوصول إلى القارئ في مختلف البيئات الإنسانية، والتأثير فيه، مع تحميل المشهد، في المحصلة، لدلالة ما، كأن تكون سؤالاً، أو دهشةً، أو ابتسامةً، أو لحظة تأمل. وهل فضيلة للفن والأدب أهم وأكبر من قدرته على أخذنا من حياتنا الواقعية الراهنة، المحكومة بظرفها الحياتي القاسي، والتحليق بنا إلى سماءات من الرحابة والاتساع والحلم، بحيث يدخل الأمل إلى نفوسنا؟!

-------------------------------------

نزهة
جمال كامل فرحان (العراق)

تخطى مع ابنه الصغير سور النهر الأسمنتي السميك. انحدرا بخطى حثيثة متلاصقي الأصابع يتجنبان قدر ما استطاعا عثرة حفر خفية، وصخور رمادية انتشرت في المكان. وقف الأب بمحاذاة النهر متأملا، والصغير راح يطبع أثر حذائه الجديد فوق عجينة الضفة الطينية، مرة بعد أخرى فرحا. كان النهر صافيا، تتراكب مويجاته ـ بطيئة السرعة، صغيرة الارتفاع، هادئة، رخية على لسان الجرف الرملي. والسماء اكتسبت حمرة شفيفة شوهتها غيمة منفردة دكناء سكنت في التماع عين الأب. كفت قدما الصغير لما رأى علبة معدنية ـ متوسطة الحجم ـ انمحى لونها، وانطعـــج بدنها تطفـــو عالقة بالعــشب، على مقربة منه فالتفت لأبيه قائلا:

- سأصيبها .

ضحكت عين الأب وقال: لا تستطيع.

بحركاته التي انفعلت انحنى الصغير والتقط بعض الحصى الصقيلة وقال:

ـ سترى.

ـ وأنا سوف اعد أخطاءك.

مال الصغير بجسده مطوحا يده اليمنى إلى الخلف بعد أن غرز ساقه اليمنى في العجينة البنية ثم رمى رميته بقوة، فلم تصب. والأب اخذ بدوره يلاعب إصبعا متوترا وابتسامة فضحها صوته حين قال:

ـ واحد.

والصغير على قبضة أصابعه يشد أكثر، مطلقا رميته الثانية التي فعلت كما الأولى ... بقبقة مكتومة رسمت على سطح النهر حلقة دقيقة ملتمعة كبرت في ابتعادها. والأب يرفع يده على شكل رقم (7) ويقول:

ـ اثنان.

ثم تلتها الثالثة والرابعة والأب كف بأربعة أصابع خاطئة تشع في عيني الصغير. عندها تردد الصغير لفترة، شاعرا بنعومة الحصى في راحته، فكانت أخيرا، رميته بقسوة زفرته المحمومة والطويلة التي أصابت أذني الأب وحافة العلبة المعدنية وحررتها من اشتباك العشب الداكن. فصاح متقافزا:

- أرأيت يا أبي الخامسة أصابت.

في تهدج صوته الخافت، ردد الأب:

ـ إنها أربع ... إنها أربع .

والصغير منتشيا يصيح:

ـ لا ... لا يا أبي الخامسة ... الخامسة أصابت.

والأب أربعة أصابع ترتجف في الهواء، فقال هامسا:

ـ نعم ، نعم .. الإبهام ضاع في الحرب.

لمح الصغير ارتعاشة كف بأربعة أصابع طويلة، فاختفت ضحكته وتلاشت في اصفرار وجهه وسار ملتصقا بأبيه.

10 قصص قصيرة جدًا
عمران عز الدين أحمد (سورية)

1 - وردة لحارس الغابة

وقف حمار أمام وردة صغيرة جميلة .. وقبل أن يهم بأكلها، بكت الوردة ، واستغاثت بأعلى صوتها .. ولما سمع حارس الغابة بكاءها وهم بإبعاد الحمار عنها، جاء صاحب الحمار وقتل حارس الغابة!

ومنذ ذلك اليوم دأبت الورود على أن تزهر في هذا الوقت من السنة إحياءً لذكرى حارس الغابة.

2 - قانون مؤجل

كانت جارتنا خديجة تشتري الخضرة من بقال حينا كل يوم, ولما تحسنت أحواله، ارتفعت أسعاره، فقصدت بقال الحي المجاور ، ولكن أسعاره ما لبثت أن ضربت أرقاماً قياسية هي الأخرى، فسارعت جارتنا إلى الأحياء الأخرى .

أخيراً توحدت الأسعار في جميع الأحياء ، ولكن الموت حال دون أن تهنأ جارتنا خديجة بالقانون الجديد .

3- سؤال مواطن صغير

بعد سنوات سبع من السلام،

عاد المحتل إلى بلادنا ، تتقدمه دباباته المدمرة ، فلذنا بالفرار، وتبعثرنا في الشوارع والطرقات على غير هدى ، فجأةً وفي غمرة هذا الشتات ، صرخ ابني الصغير بخوف :

إلى أين تأخذنا يا أبتِ ؟!

أجبته : إلى مكان بعيد نأمن فيه شر هؤلاء الغرباء .

فتساءل مرعوباً :

وهل ستأخذنا إلى ذات المكان الـــذي جــــاءوا منه يا أبي؟!

4- عهد شجرة

كانت في حارتنا شجرة تحمل ثماراً شهية ، عندما شاخت رميناها بالحجارة فلم تنبت في حارتنا منذ ذلك اليوم أشجار لها ثمار شهية.

5 - علي بابا والمليون «حرامي»

قرّر علي بابا ذات يوم أن يعتكف كي يحصي عدد اللصوص الذين زاد عددهم على الأربعين.

في اليوم الأول لم يخرج علي بابا، وفي اليوم الثاني لم يخرج علي بابا ... ذلك أنه مكث طويلاً وهو يحصي عددهم!

6 - ثمن بخس

هجعت المدينة بعد يوم حافل بالتعب والأرق، استقبلت الأسرّة جثثاً هامدة بأسمالٍ عتيقة .. فجأةً سمع دويّ قصف عنيف .. فبرقٌ ورعد ثم رصاصٌ ينهمر .. تبعثرت في الشوارع أوراق سوداء وأقلام خائنة باعت كل شيء!

7 - العانس

قررت بعد وفاة والدها أن تزج بنفسها في مغامرة ظلت طوال عمرها تخشى الخوض فيها ، فتعطرت وتغنجت وارتدت أجمل ثيابها وقلدت معصميها ورقبتها مجوهرات والدتها وخرجت مسرعة وصفقت الباب وراءها .

عادت بعد ذلك إلى البيت والدماء تتراقص على وجنتيها, قبلت أمها وأختها الصغيرة ودخلت إلى غرفتها وهي تدندن «على بلد المحبوب وديني» وأخرجت من حقيبتها ساعة كان قد أهداها إياها من كانت معه قبل قليل ، وقبلتها هي أيضًا. لكنها كانت معطلة تماماً!

8 - الحب

سألت الفتاة المراهقة باستحياء والدتها المتوردة : ماما، هل تزوجت والدي بعد قصة حب..؟!

تنهدت الأم وقالت : نعم يابنيتي ... لم هذا السؤال ؟

أردفت الفتاة بمكر طفولي : وما هو الحب يا أمي ..؟!

ردت عليها أمها : شيء ثمين يجعلنا نحلق كالفراشات ونــخاف عليه فنخفيه في قلوبنا .

قررت الفتاة بعد ذلك أن تراقب الفراشات كي تتقن فن التحليق مثلها!

9- الوصية

جدي أوصى أبي قبل وفاته ببندقيته، وأبي أوصى بها لي، وأنا أوصيت بها لابني ، ولكن الذئاب أجهزت على آخر خروف في قطيعنا دون أن يستعمل أحد منا تلك البندقية

10 - لماذا تاب..؟

كان يسرق كل ما يقع تحت يده ، وقد اكتسب خبرة كبيرة، وأصبحت يده خفيفة جداً ، فهذا (كاره) وقد تربى عليه ، ولم يكن ينسى أصدقاءه ، إذ كان يصحبهم معه إلى الحانات والملاهي ويولم لهم . ولكنه في الفترة الأخيرة صدم بمَحافظَ خالية جدباء ، فلعن في سره كل الاختراعات الحديثة والكومبيوترات والبنوك والحسابات السرية ، وشعر بتأنيب الضمير، الأمر الذي دفعه إلى التوبة وارتياد دور العبادة والورع والتقوى!.

إثم مركّب
بثينة محمود الدسوقي ( مصر)

اسمي.. محمدحسين الغرباوى وفي رواية أخرى..محمد حسين شوقي الغرباوي.

هذه المرة تختلف..أشعر باليأس يكتنفني والعجز يقتلنى..الأمر صار أكبر من مشكلة صغيرة أحياها منذ زمن.. الرجل يصر على موقفه ويخبرنى أن علي تزويده باسم آخر ليصبح اسمي رباعياً.. وإلا فسيضطر لاستخراج جواز السفر باسم ثلاثى وهو ما لن تقبله كثير من الدول..فكرت أن أخبره عن شوقى.. ليدسه بين الاسماء الثلاثة المتوافرة..لكنى تراجعت..فالأوراق المطلة أمامه من ملفى البائس لا يأتى فيها ذكر شوقى مطلقاً، شعرت أن الأقدار ترفضنى..أننى أسعى للذهاب إلى البيت الحرام.. وهي ترفضنى بهذه العراقيل..

سألت أبي ذات يوم بعيد بكل براءة الأطفال: أين جدي شوقى يا أبى؟ هل مات قبل أن أُولد؟

فأجابني: جدك ليس اسمه شوقى .. بل عبد الله

- ومن هو شوقي؟

- أنا .. أنا اسمي حسين شوقي.. اسم مركّب

- ولماذا يكون لك اسمان؟

- حدوتة لطيفة تستحق أن أرويها لك.. عندما كانت جدتك تلدنى.. كانت هناك قابلة تقوم بعملية الولادة.. وتمنت على جدتك أن تسمى طفلتها شوقية كاسمها ..أو شوقى لو كان ولداً.. ولمّا كان جدك-أبي - يريد تسميتى حسين.. فقد تقرر أن يكون اسمى مركباً جبراً لخاطر القابلة

- جميلة الحكاية، الآن اكتشفت سخافة الحكاية بل وغباءها..ليس الآن فقط .. بل كل سنين عمرى التى كنت أحار فيها بين ذكر شوقى أو إخفائه.. يلازمنى دوماً إحساس بالذنب إن أخفيته .. ويلازمنى إحساس آخر بالذنب لو ذكرته وظنه الناس اسمى الثالث.. واختلط علي الأمر..فكنت تارة أكتبه فى أوراق رسمية وتارة أخفيه، أشعر به دوماً شبحًا يسكن بينى وبين نفسى.. يبزغ كل حين لأطالع وجهه القميء.. يهاجم سكوني وطهارتي.. يحرضني على أن أكونه..بل لعله ينبئنى أنى بإمكانى أن أكون أكثر من شخص.. ويعلمنى كيف أتلون كالحرباء.. وأغير من جلدى.. بل وألفظ نفسى حيناً.. إذا اقتضى الأمر.. فهناك دوماً نفس أخرى قابعة فى الانتظار.. شخص بديل يمكن أن أدّعي وجوده ليتحمل عنى أوزارى .. شوقى هو سنام الجمل الذى برز فى حياتى دون رغبة منى.. مُحيلاً أيامى للحظات متتالية من خداع النفس والغير على حد سواء، وسألت أبى مرة أخرى ذات يوم بعيد: أين جدى عبدالله ياأبى؟ ولماذا لم يًُكتب اسمه فى شهادة ميلادى؟ فأجابنى: أنت طفلى الوحيد المحظوظ فى هذه الأسرة كلها..أنت الوحيد دون إخوتك جميعاً الذى يحظى باسم العائلة.. عائلة الغرباوى

- ولكن عبدالله..أين عبدالله؟

ـ إنها قصة لطيفة سأرويها لك.. لقد وُلدت يا عزيزى وقت أن كنّا مهجّرين من مدننا التى أصابها القصف.. وأرسلت والدتك إلى العاصمة وهى حامل بك بينما حوصرت أنا فى المدينة.. وعندما فاجأتها آلام المخاض.. قام خالك الطبيب بتوليدها.. وأرسل أحد أصدقائنا ليسجلك بين المواليد.. ولمّا كان الصديق يعرف ان اسمى حسين الغرباوى فقد اسماك هكذا مباشرة ودون تفكير.. محمد حسين الغرباوى.

- جميلة القصة.

لم تعد القصة جميلة.. بل غدت عذاباً أتجرعه عندما ينظر لى موظف فى شك كبير وأنا أقدم ورقاً شائهاً أدرك وحدى إثمه وإثمى فيه.. لكنى تعودت على استدعاء ابتسامات الثقة ونظرات التعالى.. تولّدت بينى وبين كل سائل عن هويتى علاقة شر يجهلها تماماً .. بينما أحياها وحدى..أتنمّر باحثاً عن مخالبى إذا باح بشكه.. لأقر بسلامة كيانى المتواطىء فى جريمتى حتى النخاع.. ناظراً فى حدة إلى الأوراق مشيراً بإصبع ثائرة إلى صحتها وبيروقراطية الجالس أمامى يحاكمنى.. ويعلو صوتى متشدقاً بشعارات جفت وتشققت وتكسرت أحرفها على صفحات الجرائد.. تشجب وتندد بروتين يحيل حياة المواطنين الشرفاء أمثالى إلى جحيم من الانتظار المهين، لكن الأمر يختلف تماماً هذه المرة.. أشعر باليأس يعصف بكل أبجديات دفاعاتى التى توطنت عليها.. لم أجرؤ هذه اللحظة على ادعاءات اعتدتها.. ولم يجعلنى احتفاظى وحيداً بلقب العائلة شامخاً بالقدر المطلوب.. فالعائلة لم تؤازرنى يوماً فى مواجهاتى.. إننى مجرد رجل مًُختلَف على هويته، لعل ما فكرت فيه وأنا ناظر إلى فراغ الأيام أمامى جعل الدموع تطفر من عينى مما حدا الرجل على إنهاء الموقف .. وتزويدى بجواز سفر يحمل اسماً ثلاثياً..يخلو من شوقى..وعبدالله الذى لا يعرف به أحد.. ويحمل هوية مبتورة لمن يُدعى..أنا.

معرض الروح
سلوى صعب (لبنان)

وصل إلى البيت منهكا من الألم ، يكتم صراخا يضج به صدره :

هل انتهى كل شيء حقا؟!

وقف في المدخل قبالة درج الطابق العلوي مسترجعا مشهدا كان يتكرر مرارا كلما دخل المنزل معلنا وصوله برنّات ثلاث متتاليات على جرس الباب :

كان يراها عند سفرة الدرج تطل عليه باسمة ، تقف هنيهة ثم تدرج باتجاهه وريشتها لاتزال في يدها وأثر الألوان يزين مريلتها فتلقاه ويلقاها بلهفة وشوق ما جف أو وهن يوما طوال سنوات زواجهما الاثنتي عشرة..

صعد الدرج بخطى متعبة ودلف إلى الغرفة الجانبية التي حولتها منذ سنتين إلى مرسم بعد أن كانت منذ أثثا المنزل غرفة لطفل لم يقدر له الوجود ، كان عطرها مازال ينسل من أشياء المكان مختلطا بعبق الألوان الزيتية ، وقف عند اللوحة الأخيرة التي مازالت معلقة على حامل اللوحات والتي بها كان قد اكتمل مشروع معرضها الأول، كانت باقي اللوحات معلقة على حيطان الغرفة بعشوائية مقصودة ... وقع نظره على الشريط الأحمر المقصوص عند مدخل الغرفة وابتسم بألم.

بالأمس قادته إلى الغرفة مغمض العينين وضعت المقص بيده وباليد الأخرى ناولته الشريط قائلة:

- غدا تنقل اللوحات إلى قاعة العرض ولكن هنا أعرضها لك وحدك فادخل يا زائري الأهم مفتتحا معرضي الأول بعد أن افتتحت قلبي وسكنت فيه إلى الأبد ... ادخل وامنن على لوحاتي من بريق عينيك لتصير أجمل .

وقبل أن ترفع يديها عن عينيه التي كانت تبرق فرحا بكلماتها الشغوفة طبع قبلة على كفيها ثم تركها تقوده ناحية اليمين قائلة:

- ابدأ بهذه اللوحة فهي الباكورة، من هنا تبدأ الحكاية ، اقرأني لوحة لوحة.

كانت اللوحة الأولى صورة نصفية واضحة المعالم لامرأة يظهر خلفها ظل رجل ، لمح في عينيها مسحة حزن .. علق قائلا:

- لماذا هي حزينة ؟

- هي ليست حزينة ! ألا ترى الابتسامة الظاهرة على شفتيها؟!

مال برأسه غير مقتنع ثم انتقل إلى اللوحة التالية : كانت لامرأة تنام على أرضية مبللة ملتفة على بعضها كما الجنين في رحم الأم، كان ظل الرجل يظهر ضبابيا .

أمعن النظر في اللوحة ثم ارتد إليها بنظرة عميقة، فبادرته قائلة:

- هل أعجبتك ؟

رفع حاجبيه تعجبا ولم يجب، وانتقل بملامح متغيرة إلى اللوحة الثالثة .

كانت صورة كاملة لرجل بملامح جامدة يقف مكتوف اليدين وفي طرف الصورة تمتد إلى أقصاها يدا امرأة باتجاه الرجل .

بدا الوجوم على وجهه وسألها بنبرة متغيرة :

- ماذا تستجدي المرأة من الرجل وهو مستنكف متكتف ؟!

ردت مستنكرة :

- إنها لاتستجديه بل تبثه شوقها وهو الحبيب الذي عرف مكانه فتدلل.

تركها وتابع جولته على اللوحات، بينما وقفت مكانها تفكر بتعليقاته مستغربة عدم فهمه قصدها وهو الحبيب اللبيب الذي يفهمها عادة من دون أن تتكلم أو حتى تشير, يكفي أن تشعر فيشعر.

وبينما هي مسترسلة بأفكارها انتبهت لصرخة خرجت من أعماقه :

- كيف لم أفهم؟! كيف كنت غافلا إلى هذه الدرجة ، كيف؟

أصابها الجزع واقتربت منه تحاول إحاطته بذراعيها فانتفض من بين يديها كطير جريح ، صرخت باكية :

- بالله عليك ماذا جرى لك؟!

- انظري، انظري إلى كل هذه اللوحات أتعرفين عنوانها الرئيس ؟! إنه الحرمان ، الحرمان ولا شيء سواه ..

صدمت وصرخت صرخة مكتومة . تابع قائلا:

- نعم لم أقرأ في كل هذه اللوحات أكثر من امرأة محرومة من الأمومة .

جلس على الأرض مكسور الفؤاد منهكا وأكمل :

- آسف ، آسف يا حبيبتي لم استطع رفع الحرمان عنك، سامحيني، لم استطع منحك الطفل الذي تتمنينه من أعماق أعماقك .

- جلست القرفصاء قبالته وواجهت وجهه بدموعها وبجهد قالت :

- لم أقصد ذلك أبدا .. صدقني أنت عندي أغلى من كل غال ... أنت ابني وأبي وزوجي وحبيب عمري .

قام منتفضا :

- لا .. لا أتحمل إيذاءك أكثر ..

وقبل أن تفوه بكلمة غادر مسرعا...

وها هو يعود إلى المرسم الذي بات شاهدا على نهاية قصة حب استثنائية «توجت» بطلاق منحها إياه ومعه منحها فرصة أن تحقق رغبة دفينة، هي نفسها لم تكن تعلم بأنها ما ماتت أبدا...

 


طالب الرفاعي