الموت طريق الحياة

الموت طريق الحياة

يميل الفكر السائد الآن فى بعض الأوساط العلمية فى الخارح إلى الاعتقاد بأن العلم سوف يغير كل شيء فى العالم بما فى ذلك الأمور التى كانت تعتبر دائما من الحقائق الراسخة التى لاينالها الشك كما هو الحال بالنسبة للموت، الذى يكاد يكون هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة لدى كل الشعوب وفى مختلف المجتمعات والثقافات خلال كل مراحل التاريخ. فثمة آمال عريضة تغزو أذهان الكثيرين من العلماء الآن، ويعملون على إخراجها من مجال الأمنيات أو حتى الأوهام إلى حيز الواقع حول إمكان التحكم فى بناء الوجود كله وتغييره إلى النقيض والقضاء على الموت، بحيث لاتكتمل دورة الحياة المألوفة من الميلاد والنشأة والنمو والنضوج والشيخوخة ثم الموت والاختفاء، كما تقضى طبيعة الأشياء، وكما ترسخت فى الأذهان على مر العصور.

ولقد شغلت مشكلة استمرار الحياة والقضاء على الموت عن طريق استرجاع الشباب من خلال التقدم العلمى جانبا كبيرا من أعمال الخيال العلمى فى العقود الأخيرة، كما هو الشأن مثلا فى رواية بيتر هاميلتون أو ملحمته الطويلة المسماة (نجمة بندورا)، التى لاتزال تثير كثيرا من الجدل والتى يظهرفيها العالم مليئا بالتعاسة والبؤس والأنانية واليأس والعنف والملل، بالرغم ازدياد الأمل والعمل على تحقيق الرغبة (الطبيعية) لدى الإنسان فى امتداد الحياة واستمرار الشباب والذكريات من خلال زرع الرقائق العصبية فى الجسم وتجديدها من حين لآخر، مما يعنى أن التكنولوجيا سوف تتحكم فى حياة ومصير الإنسان الذى لايزيد - كما تقول الرواية - عن كونه مجرد قطعة من (اللحم الشهوانى)، الذى ينقاد وراء شهواته ورغباته ونزواته.

ومن أعمال الخيال العلمى التى تحظى باهتمام خاص لدى بعض النقاد فى الخارج والمهتمين بالدراسات المستقبلية وجهود العلم الحديث فى مجال إطالة حياة البشر رواية الكاتب البريطانى إيان ماكدونلدIan McDonald بعنوان «مقهى المحطة الأخيرة» Terminal Café، وهى رواية طريفة وعميقة صدرت عام 1994, وتدور أحداثها حول استخدام تكنولوجيات النانو فى إعادة الحياة الأبدية للأموات، ولكنها تتساءل فى آخر الأمر عما إذا كان هؤلاء العائدون يعتبرون بشرا أو آدميين حقا. فالمؤلف يتخيل صورة المستقبل غير البعيد حين تفلح تلك التكنولوجيات المتقدمة فى بعث الموتى من قبورهم، بحيث يؤلفون «طبقة» من الأحياء الذين لايكادون يختلفون عن البشر فى شيء سوى القدرة على تجديد شبابهم باستمرار، من خلال بعض الأساليب والوسائل والطقوس التى تضمن لهم البقاء والحياة فى الفضاء مع إتاحة الفرصة لهم للاتصال بأحياء هذا العالم فى ليلة واحدة كل عام، فى مقهى يقع على الخط الوهمى الفاصل الذى يفصل بين عالم الأحياء الفانين وعالم الموتى الخالدين الذين يشعرون بأن أحياء هذا العالم الدنيوى لم يعودوا ينظرون إليهم على أنهم آدميون، مما يسبب لهم كثيرا من الانزعاج بل والألم لأنه لاينقصهم الفهم والحس والوعى والإدراك. وتكاد أحداث الرواية تجزم بأن فى إمكان العلم أن يحقق الرغبة العارمة لدى البشر فى القضاء على الحقيقة الأبدية التى تثير القلق وهى حقيقة الموت الذى يبدو أن لامفر منه حتى الآن.

ففكرة الحياة من دون موت تمثل إذن مشكلة أساسية فى كثير من أعمال الخيال العلمى، الذى يدور حول إمكان تحقيق اللاموت من خلال التطورات فى مجال الطب الحيوى أو استخدام أساليب التجميد والتبريد لاستعادة الجسد حياته وحيويته بعد فترة يتم تحديدها مسبقا. وقد تجاوزت بعض هذه الأعمال هذه المرحلة إلى تخيُُُُُُُُُُُّل ما سوف يحدث لهؤلاء الأحياء الجدد - أو الموتى العائدين - حين يجدون أنفسهم فى عالم جديد وغريب عليهم تماما لكى يعيشوا فيه مئات أو آلاف السنين، وما سيكون عليه الوضع حينئذ فى المجتمع حين يصل جميع سكانه إلى تلك المرحلة المتقدمة من الحياة وكبر السن والمشكلات التى سوف يواجهونها نتيجة لامتداد العمر إلى مالا نهاية مع القدرة على الإنجاب بحيث قد يفصل بين جيل الآباء وجيل الأبناء، بل وبين الإخوة الكبار والصغار عدة مئات من السنين. وقد يكون فى هذا مايذكرنا بأهل الكهف الذين ورد ذكرهم فى القرآن الكريم مع الفارق الشديد بطبيعة الحال. ومن الطريف أن مجلة LiveScience نشرت بتاريخ 22 مايو 2006 رسالة بعنوان «نحو الخلود : الأعباء الاجتماعية للحياة الأكثر طولا» Toward Immortality :The Social Burden of Longer Lives تشير إلى اعتقاد الكثيرين من العلماء فى الوقت الحالى بأننا أصبحنا قريبين جدا من تحقيق الحياة الخالدة أو الحياة بلاموت وأن هذه المعجزة سوف تتحقق ليس عن طريق تناول أدوية معينة أو ( أكسير الحياة) ولكن عن طريق الفهم العلمى لتركيب وعمل الخلايا والجزيئات البشرية ذاتها، ويبدو أن الرغبة فى استمرار الحياة ورفض اعتبار الموت هو النهاية الحتمية للوجود البشرى كانت أملا دائما، بل واعتقادا راسخا فى ضمير الإنسانية، ولذا نجد لها تعبيرات بأساليب وطرق وصور مختلفة فى كل الثقافات بما فيها الثقافات البدائية كما أنها تظهر بصور متباينة فى أساطير الشعوب القديمة ولكنها تبدو فى أرقى أشكالها فى الأديان والمعتقدات السماوية، التى تؤمن بالبعث والحياة الأبدية فى العالم الآخر. والواقع أن الدراسات الأنثروبولوجية لظاهرة الموت لدى الشعوب البدائية كانت كلها تنتهى إلى أن هذه الشعوب تعتبر الموت مجرد نقلة من عالم لآخر، وأن الشعائر والطقوس التى تمارس فى هذه الحالة هى مجرد ممارسات تساعد على هذا الانتقال، أو المرور بين العالمين. ولذا أطلق عليها عالم الأنثروبولوجيا الفرنسى أرنولد فان جنب Arnold Van Gennep اسم «شعائر العبور Rites de Passage». وليس الاعتقاد فى التناسخ والتقمص وما إليهما من تصورات وأفكار فى الديانات والفلسفات المختلفة سوى تعبيرات عن تلك الرغبة فى استمرار الحياة وتجديد الوجود البشرى إلى مالانهاية، وبغير توقف، حتى وإن اتخذ ذلك الوجود الجديد أشكالا وهيئات مختلفة وبعيدة تماماعن المظهرالأصلى.

إلا أن كل هذه الآراء والتصورات تصدر على مستوى الفكرالنظرى أو على المستوى الدينى والترانسندتالى البحت، ولذا فهى تختلف تماما عن الموقف الحالى الذى يهدف إلى تسخير العلم والتكنولوجيا لتحقيق فكرة/ رغبة اللاموت على أرض الواقع تماشيا مع النظرة الأساسية من أن العلم الحديث كفيل وقادرعلى تغيير الأوضاع المألوفة والراسخة تغييرا جذريا وإيجاد شكل جديد تماما من الحياة والمجتمع يخضع للإرادة الإنسانية التى سوف تتحكم فى الوجود كله بفضل التقدم التكنولوجى. فالبحوث العلمية المتقدمة فى مجالات تكوين وبناء الخلايا، وطريقة عملها سوف تساعد على التحكم فى عمل تلك الخلايا مما قد يؤدى إلى انقلاب الأمور تماما بحيث يمكن القضاء على الموت، كما أن التطورات التكنولوجية فى مجالات الوراثة والطاقة البديلة والكمبيوتر والهندسة الوراثية والمايكروبيولوجى وعلوم الصحة والاتصال وغيرها، أدّت بكثير من العلماء والمفكرين إلى الاعتقاد بأن الإنسان وصل إلى مرحلة جديدة من التطور هى مرحلة مابعد الإنسانية التى تتطلب مزيدا من الاهتمام بمشكلة التغلب على الموت، الذى يهدد استمرار الحضارة بوجه عام.

وليس من السهل بطبيعة الحال تحقيق هذه الفكرة / الرغبة، وإن كان بعض العلماء يرون أن الفكرة فى حد ذاتها مثيرة وتستحق العناية والاهتمام حتى ولو لم يؤد التفكير فيها إلى شيء إيجابى. فكثير منا - على ماتقول فلورا شنال Flora Schnall فى حوار معها نشرته مجلة Light Millennium (عدد خريف 2000 ) قام بزرع أسنان جديدة بديلة وتغيير عظام الفخذ أو العجز أو الركبتين وغيرها. فنحن لم نعد آدميين تماما كما كان عليه الحال فى القرن التاسع عشر مثلا أو حتى فى القرن العشرين. فقد دخل فى تكويننا أجزاء صناعية كثيرة حلت محل الأجزاء الطبيعية التى بليت واهترأت، ولذا فليس من الغريب أن نتصور أن يأتى اليوم الذى نعيد فيه تشكيل أجسادنا كليّةً بحيث نظهر فى هيئة جديدة تماما وبحيث يمكننا أن نعيش بذلك إلى مالا نهاية.... فكأن هناك احتمالا كما يرى الكثيرون فى أن يشهد الجنس البشرى خلال نصف القرن الحالى إمكان الحياة التى قد تمتد إلى آلاف السنين، وأن الفترة القادمة ستكون فترة عبور إلى مرحلة أقرب إلى الخلود - أو على الأقل استمرار البقاء لقرون عديدة وأن التغيير سوف يبدأ مع بداية القرن الحالى، حيث يُتوقع أن يدخل العالم أو الكون بأسره فى مدار جديد من مدارات التاريخ يتمكن فيه الجنس البشرى من الحياة ليس فقط فوق كل أنحاء كوكب الأرض وإنما سوف يعبر أيضا إلى الكون كله وبذلك تمتد الحياة البشرية زمنيا ومكانيا إلى مالا نهاية ومن دون حدود وبغير توقف، وسوف تكون حياته حرة طليقة من كل القيود الدنيوية المعروفة والمألوفة كما ستكون حياة أبدية خالية من الأمراض ومن العجز والشيخوخة إذ سوف يتمكن الإنسان من تجديد تركيبه الفيزيقى وإعادة بناء جسمه كلما تطلب الأمر ذلك، ولن تحدث الوفاة إلا نتيجة للحوادث العنيفة الطارئة التى يتأخر الإنسان فى تلافى نتائجها فى الوقت المناسب وبالسرعة المطلوبة.

***

من أهم الكتاب والمفكرين الذين نادوا وبشّروا بإمكان امتداد الحياة إلى مالانهاية واتخذوا الخطوات العملية لتطبيق ذلك على أنفسهم للتدليل على صحة ماينادون به، المفكر الأمريكى/ الإيرانى الأصل فريدون م. إصفنديارى، الذى كان يؤمن بأنه سوف يعيش حتى سن المائة، أى حتى عام 2030 على اعتبار أنه من مواليد عام 1930. وبناء على هذا الاعتقاد قام يتغيير اسمه إلى F.M.2030 ليتفق مع إيمانه بالحياة الطويلة التى يمكن أن يعقبها الخلود باستخدام نتائج التقدم العلمى فى مجالات النانوتكنولوجى والهندسة الوراثية وماإليهما. وقد اتخذ لنفسه هذه التسمية لأنه كان يعتبرالأسماء والألقاب المتعارف عليها تحدد الهوية وتقيد الحرية لأنها تربط الشخص بعائلة أو قبيلة أو جنسية محددة وبديانة أو عقيدة معينة وهو مايتعارض مع التوجه المستقبلى نحو الانطلاق للكونيّة ومابعد الإنسانية. ومن سخرية القدر أنه توفى عام 2000 وهو فى السبعين من عمره نتيجة إصابته بسرطان البنكرياس ولكنه - تماشيا مع فكرته الأصلية أو تمسكا بها - اوصى بأن يُحتفظ بجسده عن طريق التجميد فى مؤسسة Alcor LifeExtension Foundation بولاية أريزونا حتى عام 2030 لكى يعود بعدها إلى الحياة التى يمكن أن تمتد إلى الأبد. وكان يقول فى ذلك : «إذا كنت بصحة جيدة عام 2010 فإن هناك احتمالا كبيرا بأنك ستعيش حتى عام 2030، وإذا كنت على قيد الحياة عام 2030 فلن يهم كم عمرك لأن ذلك يعنى أنك سوف تعيش المستقبل إلى الأبد».

بالإضافة إلى كتابات إصفنديارى العلمية وتدريسه بالجامعة، حيث كان يهتم منذ أوائل الثمانينيات بتدريس موضوع «التحولات الكبرى فى السنوات العشرين القادمة»، فإنه كان له نشاط ملحوظ فى مجال الرواية، فقد كتب ثلاث روايات كلها متأثرة بنظرته إلى المستقبل وإمكان امتداد الحياة إلى مالانهاية بفضل التقدم العلمى. ولكن أهم هذه الروايات والتى تعبر بشكل واضح وقوى عن توجهاته العلمية المستقبلية، إلى جانب بعض الأبعاد السياسية المتعلقة بنظم الحكم فى الشرق الأوسط، الذى انتمى إليه فى بداية حياته هى روايته بعنوان «يوم التضحية Day of Sacrifice» التى يعتبرها البعض أفضل عمل روائى لعام 1959، والتى تُرجمت إلى أكثر من عشر لغات كما أن وزارة الخارجية الأمريكية اعتبرتها من الأعمال التى ينبغى على العاملين بها قراءتها. وفى هذه الرواية تتمثل رؤيته المفعمة بالأمل عن المستقبل والتقدم التكنولوجى، وقدرة الإنسان على التغلب على كل متاعب الحياة الحالية والتخلص تماما من مأساته الأبدية وهى الموت مما يحقق بالتالى كمال الوجود.

ولقد كان إصفنديارى شديد الولع بالارتباط بالمستقبل، كما كان قوى الإيمان بما يسميه «عبر الإنسانية»، حيث الانطلاق من كل القيود الزمانية والمكانية على حد سواء، وله فى ذلك عبارة طريفة وكاشفة يقول فيها «إننى شخص ينتمى إلى القرن الحادى والعشرين، ولكن المقادير ألقت به عن طريق المصادفة البحتة فى القرن العشرين، فهو يشعر بالحنين الشديد نحو المستقبل».

***

حين سئلت فلورا شنال أثناء الحوار الذى أشرنا إليه عن احتمال يقظته وعودته إلى الحياة من جديد عام 2030 قالت: «سيكون هذا رائعا، ولكن المسألة المهمة هى أنه حين يعود للحياة هل سوف يتذكرمن هو؟ فقد كان شديد الاعتقاد بأن العلم كفيل ببعثه من جديد عام 2030 فى جسم جديد يتولى هو نفسه أمر اختياره، والذى أرجوه هو أن تكون ذاكرته عن القرن العشرين حيّة ومتكاملة».

وقد ذكرت أنهم يحتفظون له بمجموعة من الصور وأشرطة الفيديو والكتابات والمراسلات،مما عسى أن يساعد على تنشيط ذاكرته.

***

والسؤال المهم الذى يجب أن نثيره نحن هنا: ماذا سيفعل العلم بالإنسان؟

والسؤال الآخر الذى لايقل عن ذلك أهمية هو : ماذا سيفعل الإنسان إزاء التضارب بين طموحات العلم ورسوخ القيم الدينية والأخلاقية ؟

قد لاتكون لدينا إجابات جاهزة.

-----------------------

لعمريَ، ما استودعتُ سريَ وسرها سوانا، حذاراً أن تشيعَ السرائرُ
ولا خاطبتْها مُقلتايَ بنظرة ٍ، فتعلمَ نجوانا العيونُ النواظرُ
ولكن جعلتُ اللحظَ، بيني وبينها رسولاً، فأدّى ما تَجُنّ الضمائر


جميل بثينة

 


أحمد أبوزيد