أرقام محمود المراغي

أرقام

أموال عابرة القارات

عندما تفيض الأموال عن حاجتك فأنت تدخر، وعندما تزيد الأموال في بند الإدخار فهي تتحول إلى مجال الاستثمار.. فإذا زاد حجم الاستثمار بدأت رحلة البحث عن فرص أوسع داخل أو خارج حدود الوطن.. في هذه القارة أو تلك، لا يهم.

وقد لعبت ثورة الاتصالات دوراً ضخماً في نقل المعلومات وتداولها وشيوعها، بحيث اصبح متعذراً أن يعيش مجتمع ما منعزلا عن غيره.. ولكن نفس التقدم في عالم الاتصال قد لعب دوراً موازيا في مجال آخر هو انتقال رءوس الأموال.

ويقول رجال المال إنه بسبب فرق التوقيت قد أصبح متاحا أن تتحرك الأموال 24 ساعة كل يوم. أن تبدأ مثلا، وعبر أجهزة الكمبيوتر في التقاط أسعار بورصة نيويورك.. وعندما تغلق نيويورك ابوابها تكون اسواق الشرق الأوسط قد بدأت، فلما يأتي الظلام تكون أسواق طوكيو والشرق الأقصى قد دب فيها النشاط..و.. من ثم، يستطيع المستثمرون والمضاربون التحرك بأموالهم عبر برقيات تنقلها الموجات، ويتم من خلالها البيع والشراء!

والسؤال: ما هو الاتجاه العام في حركة الأموال في العالم؟.. وما هو موقف البلدان النامية التي تسعى دائما لجذب رءوس الأموال؟.. وماذا يفضل المستثمرون؟

تشير إحصاءات صندوق النقد الدولي إلى أنه بين الستينيات والتسعينيات حدث تحول كبير في تدفقات رءوس الأموال إلى البلدان النامية.

كانت الغلبة دائما للمنح والقروض الرسمية، ولكن اعتبارا من عام (1992) تحولت البوصلة فأصبحت تشير إلى ما يسميه الاقتصاديون الاستثمار الأجنبي المباشر والاستثمار في الأوراق المالية.

وتتفق هذه الأرقام مع المناخ الدولي السائد الذي تراجعت فيه عوامل السياسة مع انتهاء الحرب الباردة وتقدمت عوامل الاقتصاد والسوق.

ودون إهمال لأهمية المنح والقروض الحكومية التي بلغ مقدارها حوالي (52) مليار دولار عام 1993.. فإن الاتجاه الآن هو لتعظيم أهمية حركة رأس المال الخاص والذي يبغي الاستثمار، ويبغي الربح، ويبغي التملك خارج حدود وطنه الأصلي.

خلال الستينيات وطبقا لأرقام صندوق النقد الدولي لم يزد المتوسط السنوي لما يتم استثماره في أوراق مالية بأسواق العالم النامي على (13) مليون دولار في العالم.. ولكن، وفي عام 1993 بلغ الرقم (86.5) مليار دولار في عام واحد!

والقفزة لم تتم على مدار ثلاثين عاما، لكنها تمت على مدار ثلاث سنوات. في عام 1991 كان حجم الاستثمار في الأوراق المالية (17.5) مليار.. فزاد في العام التالي إلى (24.2) مليار دولار.. ثم زاد بنسبة (360%) في عام واحد ليفوق الثمانين مليارا.

الأمر يحتاج إلى تفسير، لكنه يحتاج أيضا إلى تأمل .. فالاستثمار في الأوراق المالية المتداولة يعني سيادة نمط تتسع فيه المسافة بين الاستثمار العيني المتمثل في عقار أو مصنع أو مشروع تجاري .. وبين صاحب رأس المال .. أما المشروع نفسه موضوع الورقة فهو تحت إدارة المديرين المحترفين الذين يصبحون مع الوقت أكثر انتماء للمشروع بعد أن أصبحت طبقة الملاك يدا طارئة تتغير كل يوم.. وفقا لأحوال البورصة.

و .. على عكس المستثمرين عن طريق "الفاكس"، والذين يراقبون شاشات الكمبيوتر ليتخذوا قرار البيع والشراء لهذه الورقة المالية أو تلك.. على عكس هؤلاء تأتي طبقة المستثمرين استثمارا أجنبيا مباشرا، الذين تتحدد اختياراتهم وفق معايير مختلفة.

في أرقام الصندوق أن هذه الفئة أيضا قد نمت نموا كبيرا. كان صافي الاستثمارات الأجنبية التي انتقلت للبلدان النامية ذات متوسط سنوي مقداره (304) ملايين دولار في الستينيات .. فقفز الرقم إلى عشرة أضعافه في السبعينيات (وهي الحقبة البترولية) .. ثم تضاعف الرقم في الثمانينيات قياسا للحقبة التي سبقتها أربع مرات .. واستمر التزايد حتى بلغ حجم هذا الاستثمار سبعين مليارا من الدولارات عام 1994.

أين.. ولماذا؟

حركة انتقال الأموال إذن في تصاعد مستمر.. فأي المناطق أكثر جذبا.. للأموال الطائرة؟

لقد أجرى صندوق النقد دراسة حول التوزيع الجغرافي للاستثمارات الأجنبية المتجهة للبلدان النامية خلال أعوام (90 - 1994).. فجاءت الأرقام تقول إن (52%) من الاستثمارات تتجه إلى شرق آسيا والمحيط الهادي .. و (29%) منها تتجه لأمريكا اللاتينية .. ثم .. تأتي المناطق الأقل جذبا شرق أوربا وآسيا الوسطى (9%) .. وإفريقيا جنوب الصحراء (4%) .. وهو نفس الرقم الذي يحتله الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي لا يليه غير رقم أصغر لجنوب آسيا وهو: (2%) من الاستثمارات.

شرق آسيا إذن لها حظ الأسد حيث جذبت وحدها عام (93) (36.4) مليار دولار وبما يفوق ما جذبته كل المناطق الأخرى.. فإذا انضم لها عدد من دول أمريكا اللاتينية لأصبح هناك (11) بلدا تستقبل 76 % من إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي!

كانت دول شرق آسيا وعدد من دول أمريكا اللاتينية هي النموذج المبكر لما يمكن تسميته السوق العالمية.. أو العوطة حيث تعمل الشركات متعددة الجنسية.. وحيث تفتح الأسواق أبوابها.. وقد صحب هذا التطور تطورات أخرى تشير لها الدراسات فلم تأت هجرة رءوس الأموال أو توطنها في هذه البلدان البعيدة عن أصحاب الأموال لمجرد أنها قد رفعت الحواجز، إنما لأنها قد مثلت نموذج الأسواق الصاعدة فجاءت الأموال لاقتصادات تنمو وتزداد قوة، فتبادل الاثنان التأثير المتبادل: الاقتصاد الوطني ورأس المال الوافد. فضلا عن أن نقطة الجذب التقليدية لأسواق الدول النامية وهي العمالة الرخيصة قد تراجعت، وأن الاعتماد على السوق المحلية التي تقبل أي مستوى من الجودة والأسعار لم يعد قائما. فالشركات تعتمد على التكنولوجيا الحديثة.. وليس على اليد العاملة الرخيصة.

التطورات كثيرة تبدأ من تراجع نسبي في التدفقات المالية الرسمية التي تقدمها الحكومات وبما يعني أن القطاع الخاص قد تسلم الراية أو كاد.. وتمتد لطبيعة هذه الأسواق التي أصبحت جاذبة لرأس المال وتحمل اسم "النمور" أو غير ذلك من أسماء تشير للمكانة الاقتصادية العالية التي احتلتها هذه البلدان في وقت قياسي.

إنه سر آسيا التي تنتقل من التخلف إلى التقدم.. وسر العصر الذي ينفصل فيه رأس المال عن صاحبه، وتتحول الاستثمارات إلى أوراق تتداول.

السؤال: وإذا كان ذلك كله قد حدث قبل "الجات" واتفاقية التجارة العالمية التي تحرر السلع والخدمات والأموال.. فماذا سوف يحدث بعد أن يصل العالم للتحرير الكامل وهو ما تستهدفه الاتفاقية؟

قديما قالوا: "المال لا وطن له".. إلا أنه واحد من عناصر التقدم الأربعة التي يتحدثون عنها في علم الإدارة: الرجال، والإدارة، والموارد الطبيعية، والأموال.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات