رائحة الخطو الثقيل و النحنحات فاروق عبدالقادر

قراءة نقدية..
للقاصّ السّوري، إبراهيم صموئيل

كان الحديث يدور حول واقع القصة القصيرة في الإبداع العربي المعاصر حين سمعت باسمه، وجاءت أعماله مفاجأة مبهجة ومنعشة. إن مجموعتي القاص السوري إبراهيم صموئيل: " رائحة الخطو الثقيل، 1988 " و " النحنحات 1990" تعيدان للقصة القصيرة نضارتها التي كانت لها في الأعمال الأولى ليوسف إدريس وزكريا تامر وسواهما من أساتذتها الكبار.
لست أعرف عن القاص ذاته الشيء الكثير، لكنني أحدس أن حياته لابد أن تكون ملتحمة- على نحو من الأنحاء- بحياة بطله، (هو ذات البطل في معظم القصص، بل ويحمل في أكثر من واحدة الاسم نفسه)، فمثل هذا البطل يصعب أن يكون إبداعا خالصا، (في كلمات قليلة على غلاف المجموعة الأولى يحدد لنا الشاعر السوري الكبير شوقي بغدادي بعض المعلومات عن القاص: إنه بدأ النشر في 1986، وحين تعرف به فوجئ الأستاذ شوقي بأنه " أكبر سنا مما تصورت.. "، و " أن حياته الشخصية بحد ذاتها قصة معاناة إنسانية رائعة، جديرة أن تكتب، وتمده بالإلهام طويلاً.. ").

أبطال بسطاء وحياة قاسية

المجموعة الأولى- قدَّم لها ممدوح عدوان- لا تتجاوز صفحاتها الستين صفحة، وتضم تسع قصص، والثانية تقارب المائة صفحة، وتضم اثنتي عشرة قصة. أكثر من نصف قصص المجموعتين ينتقي لحظات من حياة ذات البطل: مناضل يقوم بنشاط سياسي معارض، ومن ثم يقضي أيامه مطارداً، ملاحقاً، متخفيا، تجَّد في أعقابه الشرطة والمتعاونون معه، ثم نراه- وقد سقط بين أيديهم- سجيناً أو معتقلاً. يكتب ممدوح في تقديمه: " ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة من القصص القصيرة التي تنزف بفعل السياسة، أنها تخلو من كلمة سياسية واحدة. إنها- أيضاً- خالية من مشاهد التحقيق، والتعذيب، والضعف أو البطولة أمامهما.. ".

وهذا صحيح. فالشائع في "أدب السجون" عندنا هو تلك المشاهد (راجع- على سبيل المثال- أعمال سعيد حورانية وشريف حتاته وعبدالرحمن منيف)، وهي ما يتجنبه إبراهيم صموئيل. إنه يلتقط أحداثاً صغيرة، تبدو من مألوف ما يحدث كل يوم، ثم يصوغها برقة وهدوء بحيث تقدم دلالاتها كاملة، دون مباشرة، ودون فجاجة في التعبير، أو إلحاح على مشاعر قارئه، أو سعي لابتزازه وكسب تعاطفه الذي يعني- على نحو ما- لوناً من الرثاء المقنع للذات، ومنح المناضل أجره قبل أن يجف عرقه!.

لكن البطل ليس وحده، هو فرد يعيش في المدينة، وحين يتركه القاص فهو لا يبتعد كثيراً، بل يلتقط ممن حول أشباها ونظائر (أليس أحد تعريفات القصة القصيرة أن بطلها واحد من " الجماعة المغمورة "؟. إن كل الأبطال هنا.. دون استثناء- يمثلون هذه الجماعة بامتياز!): معلمة فقيرة تهم بسرقة ليرات تلاميذها الصغار المحبين لها أمام قسوة الحياة التي تعيشها، هي الحياة نفسها التي تدفع امرأة أخرى لأن تفكر في بيع جسدها، الشيء الوحيد الذي تملكه. وتفاتح زوجها بالفكرة: " وماذا نخسر يا رضوان؟ أغمض عيني وأتخيلك معي، هي ساعة، نعيش بعدها مثل الخلق والناس.. ". بلسان أبطال المجموعتين جميعاً يقول بطل " الصقيع ": " هم حاصرونا.. والبلد أصبحت مثل جهنم.. ".

لذا يشرع بعض أبطاله في الرحيل، إلى جانب بطل "الصقيع" في المجموعة الثانية، هناك بطل "الصناديق " في الأولى. التقطه القاص في اللحظة النموذجية، وهو يكدس أشياءه في الصناديق تأهبا لأن يترك غرفته لصديقه ويرحل. وأثناء انهماكه في عمله هذا يستعيد حواره مع صديقه حول ضرورة الرحيل. يقول لصاحبه: " نعم يا سيدي. أنا أفهم الوطن خبز وجبن ومواصلات ومشفى وبيت.. "، وحين يحتد بينهما الجدل يتذكر ماضيه المثقل: " ماذا أجدت الاجتماعات والقراءات والحوارات وجلسات الشباب وسهر الليالي؟ لا أكلنا عنب ولا قتلنا الناطور! .. (..) صدقني يا وليد لم أعد قادراً.. سبع سنوات في المعتقل وسنوات في البحث عن عمل.. وأخرى في تأمين غرفة أسكنها.. يعني.. ما الذي عشته هنا؟..". "وحين يفرغ من تكديس كتبه وأوراقه وصوره وذكرياته يختفي وجهه من المرآة: هل اختفى وجهه القديم حين قرر الرحيل.. أم أنه رحل حين كدَّس حياته الماضية كلها في " الصناديق "؟

التلاقي وحدة المطاردة

البطل الملاحق، الغزال الذي تقفوه كلاب الصيد، يتبدى لنا في أكثر من قصة: حين صدر الأمر لسعد بالتخفي، لم تتح له فرصة أن يرى حبيبته " عناد "، وبعد عام ونصف بدا له الأمر يستحق المغامرة: لا رسوتُ، بعد طول تردد، على بر القرار، وضعتُ ترتيباتي الخاصة وأقنعت نصفي المتردد: إن أنت رأيتها، مت، وإن لم ترها، مت، فرها ومت.. "، وحين التقيا لم يجدا مكاناً آمناً يتسع للقائهما سوى "المقبرة". المقبرة؟ نعم. غير أنها ليست سوى صورة للمدينة كلها، لم يلجأ القاص أبداً للمباشرة كي يؤكد هذا التطابق، لكنه استخدم ذات الأوصاف والكلمات وهو ينتقل من وصف الأولى للثانية: " كانت المقبرة كئيبة إلى حد رهيب، سكونها موحش مفزع... إلخ.

هذا اللقاء- رغم كل ما أحاطه خارج المقبرة وداخلها - لاشك أفضل من اللقاء الذي لم يتحقق بسبب "رائحة الخطو الثقيل ": دبَّر الرفاق اللقاء بعد عامين، قالوا للزوجة: إن كانت محفظتك معلقة على كتفك اليمنى كان لقاؤكما آمنا.. عند أي تخمين أو توجس أو شك، علقي محفظتك على كتفك اليسرى ولا تقتربي منه. لاحقها صاحب الخطو الثقيل، ولم يشأ أن يتجاوزها، فتوجست، ورأته يقف- حسب الموعد- تحت شجرة الكينا الوحيدة.. " دنت فلمحت وجهه المشدوه وسط لحيته التي طالت، يقول ويسأل مذعوراً دون صوت، هجمت عليه بعينيها، ضمته إليهما، ثم أسبلتهما وهي تتجاوزه، وقد خلفت قلبها يئن مختنقاً برائحة الخطو الثقيل الممض خلفها.. ".

مرة ثانية: أن تراه ولا تستطيع أن تحادثه، لاشك أفضل من أن تنتزعه وقع الخطى البعيدة من دفء الفراش في لقاء مختلس: دخل بيته في جوف الليل متدلياً من غصن شجرة، لم يوقظ أولاده رغم أن الشوق ذبحه لحظتها، ثم ضم زوجته وبصمت أخرس، وغابا معاً. في أوج اللقاء سمعت " مثل انغلاق أبواب سيارات في أول الحارة.. "، وكان لابد أن يلملم ثيابه ويمضي رغم البرد والظلام والمطر، وهو يهم بأن يدفع جسمه إلى الشجرة " التفت إليها، فما باحت أو قالت شيئاً، فردت يديها، ضمته وشدّت، شدت حتى أحست أنها تكسر صدرها وتسكنه بين أضلاعه.. (..) شدَّت، تخفيه في عينيها اللتين اشتاقتا. عن عتم الدنيا ووحشتها، وعن الانتظارات، واللهفة، والترقب، والغياب.. وعن " الشتاء الطويل " الذي لما ينته من حياتهما.. ".

ذلك ما فعلته " ميساء " مع "حسان "، أما "زينب " فقد فعلت مع " علي" الذي يحبها شيئا آخر، أسلمته لأعدائه باسم الحب، أعدَّت له كميناً محكماً ووقفت تشهد النهاية: اقترب من السيارة التي حددتها له، ونطق بكلمة السر " مثل قنابل موقوتة. انفتحت الأبواب الأربعة، ارتطم وجهه وارتد إلى الخلف، فزعوا نحوه، استدار هارباً فأمسكوا به من قميصه، ونتر نفسه والتف، فالتفَّ أحدهم لملاقاته، زاغ عنه راكضًا فتعثر وسقط، نهض يحاول ثانية فلمح زينب لمحاً. بأقل من طرفة عين رأى ضحكتها الوحشية الغامضة تندلق من وجهها، انبطح أرضًا وتدحرج، فأحس بركلة عنيفة على رأسه.. ".

ولعله- هذا الأخير- هو الذي سيصحبنا إلى المعتقل، أو- ثم السجن حيث تدور ست من قصص المجموعتين.

لحظات نموذجية للقص

في هذه القصص كلها يختار القاص اللحظات النموذجية في حياة السجين، وطبيعي أن تشغل "الزيارة " مكاناً مهما في تلك اللحظات، فهي الرباط الباقي الذي يشد السجين إلى العالم وراء الأسوار، وهي التي تأتي له بمن أحبهم وتركهم وراءه: هذا " أبوخلدون " يرى طفله الصغير لأول مرة، فقد قبض عليه والطفل لا يزال جنيناً، وهو الآن يقترب من نهاية عامه الثالث، ويحاول الرجل كسب ود الطفل الذي لم تسبق له رؤيته، لكن " الأزعر " الصغير لا يبالي به، يتشبث بثوب أمه ويعلن رأيه: " ما بدي.. ما بدي.. بدي غيره!.."، وتنتهي " الزيارة " دون أن يبادله الطفل مشاعره، ودون أن تتمكن الأم من الإفضاء إليه بما تشاء. (دع عنك ما فعله خالد بأبيه: كانت للأب صورة وهو متحف، بلحية وقبعة ونظارة، تفتحت عينا الطفل- منذ ولد- عليها، فأصبح الرجل الذي فيها أباه، وحين خرج الأب أنكره ابنه، وظل على يقين بأنه " عمو "، أما الآخر الذي في الصورة فهو الأب، يتحدث إليه، ويأتي له برفاقه. ورغم شيء من المبالغة في هذه القصة إلا أنها تعبر عن لحظات إنسانية مؤثرة).

ويوماً أرسلت أم خلدون لزوجها خمسين ليرة، وكان وجه انفاقها مقرراً ومفروغاً منه " فالفرج، في حصار القبو، وتراكم العرق والدهون على أجسادنا كان يعني لنا- نحن نزلاء القبو العشرة- وصول أي مبلغ يتيح لنا شراء الصابون أو سراويل جديدة عوضاً عن تلك التي انتنت تحت إلياتنا.. "، انزوى يتشمم رائحة أنامل امرأته في الورقة المالية، وذهل حين رأى أنها كتبت له عليها كلمات قليلة: "من أم خلدون إلى أبوخلدون الحبيب.. ". آه. لم تعد مجرد ورقة مالية إذن، لكنها أصبحت هي امرأته الحبيبة البعيدة، وهي طفله الوحيد " ولأول مرة بعد زمن طويل من التشتت تجتمع العائلة الصغيرة معاً: خلدون وأمه وأنا.. "، لكن انتماءه للجماعة يدفعه لقهر مشاعره، فينخرط معهم في البحث عمن يقرع الباب، ويطلب من السجان السراويل.

لحظات التواصل مع العالم الخارجي هي اللحظات النموذجية في حياة السجين، وحين تتعذر الزيارة- لسبب أو آخر- لا يبقى أمام " قصي " سوى أن يتسلق سقف " المرحاض " كي ينظر إلى أمه وامرأته وابنه، وكان مفروضاً ألا يصدر عنه صوت، لكنه حين رآهم لم يتمالك نفسه، فصرخ باسم امرأته، معرضاً نفسه ورفاقه للخطر، وماذا كان بوسعه أن يفعل وقد رأى انفساح الدنيا أمام عينيه.. " الضياء الفضي تسبح فيه الشوارع الأسفلتية والحواف الترابية والدكاكين المشرعة على الرحب، الأشجار المدلاة بغنج حنون، نساء، رجال، وأطفال يتجهون كيفما شاءوا، يتبضعون أو يتسامرون أو يقفزون من رصيف إلى آخر، من بقعة إلى أخرى، طلقاء، طلقاء مثل غزلان شاردة.. "؟

أداة للتواصل

حتى " النحنحات " يمكن أن تكون أداة من أدوات التواصل بين السجناء، وقد استطاع هذان السجينان اللذان لم ير أحدهما الآخر قط، أن يطوَّعا النحنحات كي تعبر عن كل حالاتهما، وتكاد أن تصبح كاللغة المنطوقة، تتيح التواصل الذي يكسر رتابة الأيام ويؤنس الوحدة ويوسَّع جدران الزنزانة الكئيبة، لكنها ما إن تصبح كذلك حتى تصبح من " الممنوعات " يطاردها السجان ويوقع العقاب القاسي بطرفها الآخر "وكما تطبق قوقعة على عتمتها، انسحبت حزم الضوء من زنزانتي، وأطبقت جدرانها على جسدي البارد، البارد.. ".

في هذه القصص.. ربما أكثر من غيرها بطبيعة التجارب التي تعبر عنها- تتمثل براعة القاص في اختيار اللحظات المثقلة التي تتكثف فيها كل أبعاد التجربة، فكأنها بللورة صغيرة تعكس صورة العالم الكبير، أو " عينة نموذجية "- كما يقول أصحاب علم النفس، لأشواق صاحبها وتوقه المشروع للاتصال بالعالم الذي حرم منه قهراً وقسراً، بما فيه من ضوء وأحبة وحرية في الفعل والحركة " لا الأكل بميزان، ولا وقت الزيارة بالثواني "، وثمة إحكام في المراوحة بين الواقع المعيش من ناحية. وذكريات الحرية ومستدعياتها، من الناحية الأخرى، إلى جانب الاقتصاد في العبارة، والحساسية المرهفة في انتقاء الألفاظ التي تفجر الدلالة في الحدث الصغير، فتوسَّع من آفاقه، وترتفع به لمستوى أكثر إنسانية وشمولاً، وتؤكد الثقة بالإنسان، وجوانب الخير فيه، التي لا تقوى الجدران والحياة القاسية على حجبها.

وجه الامتياز أن ينجح القاص في " تفنين " تلك الخبرات المعذبة، وصياغتها على هذا النحو المندى بالفهم والتعاطف.

النضال واليأس

ترى.. هل داخل المناضل اليأس من جدوى نضاله؟

أكاد أقول نعم. فثمة نغمة باطنية مترددة حول عدم إحساس الناس- من أجلهم يخوض المناضل الصعاب المتمثلة في حياة التخفي والملاحقة ثم السجن والاعتقال - بجدوى هذا النضال، ولا مبالاتهم إزاءه. تعلو هذه النغمة عند من قرروا الرحيل، وقد فات علينا بعض ما قالوه، وتعلو أكثر في قصته، "مثل حجر في نهر.. ": مناضل صغير يحمل رزمة منشورات، يُقبض عليه وسط نهر الشارع الضاج بالزحام والحركة.. " وآن أطبق رجال السيارة على الشاب، راح يصرخ كمن يفضح سراً: " كذابون.. أمسكوهم عني.. كذابون.. أمسكوهم عنكم.. "، فيما الشفاه السفلى للناس الذين انفرطت دوائرهم، تنقلب متحيرة، وعيونهم تجحظ بحياد، أو تغور بِدعةٍ وشيء من الحزن، وفيما التوت أعناق بعضهم مستغربة بين أكتاف متقوسة تسأل، واستقرت حبة مسبحة بين اصبعين هامدين، ولاذت امرأة برجل، وتحوقل شيخ، وبسملت عجوز.. "، وما أسرع ما تطايرت أوراق الشاب الذي ألقي به في مؤخرة السيارة، وعاد الناس ينسابون متلاحقين في نهر الشارع. لم يفعل المناضل سوى أن ألقى حجراً في مجرى النهر، انداحت من حوله دوائر، ثم غاص الحجر، وتابع النهر مجراه.

على مستوى آخر، نجد النغمة ذاتها تتردد في قصة "الناس.. الناس ": يتخلى الناس في " الباص " عن الرجل الذي تطوع للحديث عنهم، وطلب إلى السائق ألا يسرع على هذا النحو في مثل هذا الجو المطير، وهذا الطريق الزلق، تخلى الناس عنه، بل وأرغموه على مغادرة " الباص، كما طلب السائق.. وكأنما لذ لهم انكسار الرجل. وعلامات الظفر على وجه السائق.. "، لم خذلوه؟ السبب الواضح أنهم يريدون الوصول لأعمالهم، ومن ثم ارتبطت مصالحهم القصيرة العاجلة بالسائق، لا سواه "!.

وثمة قصص تتناول تجارب أخرى أكثر شمولاً: موت الأب (ماذا قلت يا أبي؟). تتحقق في القصة درجة عالية من إحكام الانتقال بين احتضار الأب وجهود الأطباء لدفع الموت عنه، من ناحية، وذكريات الابن عنه، من الناحية الأخرى، كذلك يتحقق مثل هذا الإحكام في قصته النفاذة "صباح ذلك الأحد ": بين مشاعر الراوي الصبي قبل أن يتعرف إلى حقيقة " المناولة " أو " التناول ": إن دم المسيح ليس سوى النبيذ الأحمر الذي اعتادوا شربه في ليالي الأعياد، ولحمه ليس سوى فتات من الخبز، وبينها بعد أن عرف، لقد تغيرت رؤية الصبي تغيراً، كاملاً، والمقارنة بين الأوصاف التي يصف بها الصبي الكنيسة والكهنة قبل المعرفة، ثم بعدها، توضَّح كيف يستخدم القاص مختلف العناصر، ويوظفها بحيث تكشف عن داخل البطل وموقفه الشعوري (هذه بعض الأوصاف قبل انبثاق وعي الصبي: " القديسون يطلون من أطر خشبية عتيقة على الجدران، وهم يحدقون بنا، رنين الأجراس الصغيرة لطرد الشياطين، فوحان البخور الرمادي الكثيف ذي الشذى الغريب، رداءات الكهنة الفضفاضة الطويلة المزركشة، تلتمع عليها خيوط مذهبة مفضضة، رأس التنين في نهاية العكاز الذهبي الذي يحمله المطران، تراتيل الجوقة تخفت وتصدح في فضاء الكنيسة ... إلخ "، أما بعد أن عرف السر، وتفتحت عليه عيناه، فطبيعي أن تريا ما حولهما في ضوء آخر: " عيون القديسين لم تكن ترنو شاخصة إلينا كما رأيتها. وجوههم مطرقة، كابية، وألوانها باهتة، جرداء!، رائحة البخور بدت منفرة، خانقة! الجوقة ترتل بتراخ ممل، عكاز المطران تشبه قضبان الحديقة قرب دارناً.. (..) والكاهن داخل الهيكل يخلع ثوبه الفضفاض فيظهر بنطاله البني المهترئ ".).

أما قصة " هذه المرة " فإن نهايتها المفاجئة تكسر القلب: لم تكف الطفلة عن حركتها ونزقها إلا لأنها كانت ميتة!.

كاتب عاشق للقصة القصيرة

وراء أعمال إبراهيم صموئيل يمتد ظل يوسف إدريس. فمن الواضح أنه قارئ محب لمعلم القصة القصيرة الراحل، متأثر به، وكثير من قصص إبراهيم تحيل إلى أعمال ليوسف: " النحنحات، تحيل إلى "مسحوق الهمس"، و " ماذا قلت يا أبي؟ " تحيل إلى " اليد الكبيرة " و " الرحلة"، و " الناس.. الناس.. " تحيل إلى أكثر من قصة ليوسف حول علاقة الفرد بالجماعة: " الرأس " و " الأورطي ".. إلخ.

لكن هذا هو التأثر الصحي، لو صح التعبير: أن يتمثل الخبرة التي قدمها يوسف، ثم يعمل على تجاوزها، وهذا ما تحقق في عدد كبير من قصص المجموعتين.

عمدت- فيما سبق- إلى " التقديم " أكثر من "التقويم "، وكان هدفي محاولة رسم صورة لعالم القاص السوري الموهوب والمتميز: إبراهيم صموئيل.