الإنسان سيدفع ثمن تغير المناخ من صحته.. أحمد الشربيني

الإنسان سيدفع ثمن تغير المناخ من صحته.. أحمد الشربيني

حسم العلم في السنوات القليلة الماضية العديد من القضايا المرتبطة بتغير المناخ. فقد بات من الثابت علميا الآن أن كوكب الأرض آخذ في الاحترار، وأن الاحترار آخذ في التسارع بمعدلات تهدد بنتائج كارثية على البشر وعلى الحياة على كوكبنا. وثبت أيضا أن الأنشطة البشرية هي المسئول الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، عن الاحترار العالمي وتغير المناخ. ويحذر العلماء من أنه إذا استمرت اتجاهات الاحترار الحالية دون أن يتم كبحها، فإن البشرية ستدفع ثمنا فادحا للتغير المناخي.

ويخلّف المناخ والطقس، من المناطق الاستوائية إلى منطقة القطب الشمالي، آثاراً مباشرة وغير مباشرة بالغة على حياة الإنسان. وعلى الرغم من تكيّف الناس مع الظروف التي يعيشون فيها وتكيّف الفسيولوجيا البشرية مع التغيّرات المناخية الكبرى، فإنّ ثمة حدوداً لتلك القدرة على التكيّف.

ومن المتوقع أن تواجه البشرية المزيد من الإصابات والأمراض والوفيات ذات الصلة بالكوارث الطبيعية وموجات الحرارة وارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض المنقولة بالأغذية والمياه، والأمراض التي تحملها النواقل، والمزيد من الوفيات المبكرة والأمراض ذات الصلة بتلوث الهواء.

وبالإضافة إلى ذلك ففي كثير من أنحاء العالم ستنزح أعداد غفيرة من السكان بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر ومن جراء نوبات الجفاف والمجاعات. ومع ذوبان الأنهار الجليدية ستطرأ تحولات على الدورة الهيدرولوجية وتغيرات على إنتاجية الأراضي الزراعية. وقد بدأنا الآن فحسب نتمكن من قياس بعض هذه الآثار اللاحقة بالصحة.

ويمكن أن تخلّف تقلّبات الطقس القصيرة الأجل آثاراً وخيمة على الصحة، حيث يمكن أن تتسبّب درجات الحرارة القصوى (المرتفعة والمنخفضة على حد سواء) في حدوث أمراض قد تؤدي إلى الوفاة، مثل الإجهاد الحراري أو انخفاض حرارة الجسم، وفي زيادة معدلات الوفاة الناجمة عن أمراض القلب والأمراض التنفسية.

ويمكن أن تتسبّب ظروف الطقس الراكدة، في المدن، في احتباس الهواء الدافئ وملوّثات الهواء، ممّا يؤدي إلى انتشار الضباب والدخان بصورة متكرّرة وحدوث آثار صحية وخيمة.

ومن المؤكد أن تلك الآثار ستكون وخيمة. فقد تسبّب ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير عادي، في صيف عام 2003، في حدوث وفيات تجاوزت عدد الوفيات التي وقعت في الفترة نفسها من الأعوام السابقة بأكثر من 35 ألف حالة وفاة .

كما تخلّف بعض الظواهر الطقسية القصوى الأخرى، مثل الأمطار الغزيرة والفيضانات والأعاصير، آثاراً على الصحة. فقد شهدت فترة التسعينيات، على سبيل المثال، وفاة نحو 600 ألف نسمة في جميع أنحاء العالم بسبب كوارث طبيعية ناجمة عن تقلّبات الطقس؛ علماً بأنّ حوالي 95 في المائة من تلك الوفيات وقعت في البلدان الفقيرة.

ويذكر أنه في أكتوبر 1999، تسبّب إعصار وقع في أوريسا بالهند في وفاة عشرة آلاف نسمة، وتراوح عدد الأشخاص المتضرّرين منه بين 10 ملايين و15 مليون نسمة.

وفي ديسمبر 1999، أودت الفيضانات التي وقعت في كاراكاس (فنزويلا) والمناطق المحيطة بها بحياة نحو 30 ألف نسمة، كان الكثير منهم يعيشون في مدن الأكواخ التي بُنيت على منحدرات مكشوفة.

وتؤثّر الظروف المناخية، بالإضافة إلى تغيير أنماط الطقس، في الأمراض المنقولة بالمياه والنواقل، مثل البعوض. وتُعد الأمراض التي تتأثّر بالمناخ من أكبر الأمراض الفتاكة في العالم. فالإسهال والملاريا وسوء التغذية الناجم عن عوز البروتينات والطاقة هي أمراض تسبّبت وحدها في حدوث أكثر من 3ر3 مليون حالة وفاة في جميع أنحاء العالم في العام 2002، علماً بأنّ 29 في المائة من تلك الوفيات وقعت في إفريقيا.

الاحترار العالمي

يمتص سطح الأرض نحو ثلثي الطاقة الشمسية التي تبلغ كوكب الأرض، ممّا يؤدي إلى تدفئته. وينعكس الحرّ إلى الغلاف الجوي حيث تحبس غازات الدفيئة، مثل ثاني أكسيد الكربون، بعضاً منه. ومن دون "تأثير تلك الغازات" سيبلغ متوسط الحرارة السطحية درجة لا يستطيع الإنسان تحمّلها للعيش في كوكب الأرض.

وخلال السنوات الخمسين الماضية تسبّبت الأنشطة البشرية، وبخاصة حرق الوقود الأحفوري، في انبعاث ثاني أكسيد الكربون وغيره من غازات الدفيئة بكميات كافية للتأثير في المناخ العالمي. وقد ارتفع تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، منذ الفترة السابقة للتطوّر الصناعي، بأكثر من 30 في المائة، ممّا تسبّب في احتباس المزيد من الحرارة في طبقة الغلاف الجوي السفلى.

ويشير تقرير التقييم الرابع (2007) للفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ إلى أنّ الآثار تشمل ما يلي:

- شهد متوسط درجة الحرارة السطحية، في جميع أرجاء العالم، زيادة بنحو 65ر0 درجة مئوية خلال السنوات الخمسين الماضية.

- تم تصنيف 11 عاماً من الأعوام الانثى عشر الماضية (1995-2006) ضمن قائمة أشدّ الأعوام حرّاً منذ بدء تسجيل درجات الحرارة، علماً بأنّ تلك القائمة تضمّ 12 عاماً.

- شهدت معدلات الاحترار وارتفاع مستوى البحر تسارعاً في العقود الأخيرة.

- شهدت كثير من المناطق، وبخاصة البلدان الواقعة بين خطوط العرض الوسطى والعليا، زيادات في نسبة تهاطل الأمطار، كما سُجّلت زيادة عامة في تواتر الأمطار الغزيرة.

- شهدت مناطق يقع بعض منها في آسيا وإفريقيا زيادة في تواتر حالات الجفاف وشدتها في العقود الأخيرة.

- سُجّلت، منذ السبعينات، زيادة في تواتر أشدّ الأعاصير المدارية في بعض المناطق، مثل شمال المحيط الأطلسي.

والجدير بالذكر أنّ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لا تزال مستمرة على الصعيد العالمي. ويتم استخدام التقديرات الخاصة بنمو السكان واستخدام الطاقة في المستقبل كمدخلات لوضع نماذج المناخ العالمي، وذلك من أجل التنبؤ بتغيّر المناخ في المستقبل. وخلص الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ، بعد استعراض مخرجات طائفة من تلك النماذج، إلى الإسقاطات التالية فيما يخص القرن المقبل:

- سيشهد متوسط درجة الحرارة السطحية زيادة تتراوح بين 1ر1 و4ر6 درجة سلزيوس، وذلك يعتمد، جزئياً، على التوجهات المستقبلية في مجال استعمال الطاقة. وسيبلغ الاحترار ذروته على مساحات اليابسة وفي مناطق خطوط العرض العليا.

- ستشهد موجات الحرّ الشديد والأمطار الغزيرة وغيرها من الظواهر القصوى زيادة من حيث تواترها وشدّتها.

- من المتوقع أن يتواصل ارتفاع مستوى البحر بوتيرة مسرعة.

وتسعى كثير من البلدان، حالياً، إلى الحد من انبعاثات غازات الدفيئة في ظلّ اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية المتعلقة بتغيّر المناخ. ومن المؤسف ملاحظة أنّ التوجهات الماضية والمتوقعة فيما يخص التنمية واستعمال الطاقة تشير، بالرغم من تلك الجهود، إلى أنّ العالم سيواجه تغيّرات مناخية كبرى وارتفاعاً في مستويات البحر في العقود المقبلة.

آثار تغيّر المناخ

يعتمد ضمان الصحة العمومية، إلى حد كبير، على مياه الشرب النقية والأغذية الكافية والمأوى الآمن والظروف الاجتماعية الجيدة. ومن المحتمل أن يؤثّر تغيّر المناخ في جميع تلك العوامل. وتشير الدراسات التي أجراها الفريق الحكومي الدولي المعني بتغيّر المناخ لاستعراض الآثار المحتملة الناجمة عن ذلك التغيّر إلى إمكان جني بعض المنافع المحلية من احترار المناخ، مثل انخفاض عدد وفيات فصل الشتاء في المناطق ذات المناخات المعتدلة وزيادة إنتاج الأغذية في بعض المناطق، لاسيما مناطق خطوط العرض العليا. وستمكّن الخدمات الصحية العمومية ومستويات العيش المرتفعة من حماية بعض الفئات السكانية من بعض الآثار المعيّنة؛ فمن غير المحتمل - على سبيل المثال - أن يتسبّب تغيّر المناخ في عودة ظهور الملاريا واستحكامها في شمال أوروبا أو أمريكا الشمالية. غير أنه من المحتمل، إجمالاً، أن يغلب الطابع السلبي على الآثار الصحية الناجمة عن تغيّر المناخ، وبخاصة في أشدّ المجتمعات المحلية فقراً، علماً بأنّ تلك المجتمعات هي الأقلّ إسهاماً في انبعاثات غازات الدفيئة. ومن الآثار الصحية المذكورة ما يلي:

زيادة تواتر موجات الحرّ: تشير التحاليل التي أُجريت أخيراً إلى أنّ تغيّر المناخ الناجم عن النشاط البشري أسهم، بقدر وافر، في حدوث موجة الحرّ التي اجتاحت أوروبا في صيف عام 2003.

من المحتمل أن تسهم أنماط تهاطل الأمطار، التي مافتئت تتغيّر، في عرقلة إمدادات المياه العذبة، ممّا يؤدي إلى زيادة مخاطر الأمراض المنقولة بالمياه.

ومن المحتمل أن يسهم ارتفاع درجات الحرارة وتغيّر أنماط تهاطل الأمطار في الحد من إنتاج الأغذية الأساسية في كثير من أشدّ المناطق فقراً، ممّا يزيد من مخاطر سوء التغذية.

يسهم ارتفاع مستوى البحر في زيادة مخاطر الفيضانات الساحلية، وقد يستوجب تهجير السكان. ويعيش أكثر من نصف سكان العالم، حالياً، داخل نطاق لا يتجاوز 60 كيلومتراً انطلاقاً من ساحل البحر. ومن أكثر المناطق عرضة للمخاطر دلتا النيل في مصر، ودليتا غرانج-براهمابوترا في بنغلاديش، والعديد من الجزر الصغيرة، مثل جزر المالديف وجزر مارشال وتوفالو.

من المتوقع أن تسهم التغيّرات المناخية في إطالة مواسم سراية الأمراض الرئيسية المنقولة بالنواقل وتغيير نطاقها الجغرافي، ممّا قد يؤدي إلى انتقال تلك الأمراض إلى مناطق حيث يفتقر السكان إلى المناعة اللازمة لمقاومتها و/ أو تفتقر السلطات إلى بنية تحتية صلبة في مجال الصحة العمومية لمواجهتها.

ولا يوفر قياس الآثار الصحية الناجمة عن تغيّر المناخ إلاّ بيانات جدّ تقديرية. بيد أنّ التقييم الكمّي الذي أجرته منظمة الصحة العالمية، بمراعاة مجموعة من الآثار الصحية المحتملة فقط، خلص إلى احتمال أن تكون الآثار الناجمة عن تغيّر المناخ الجاري منذ منتصف السبعينيات قد تسبّب في حدوث أكثر من 150 ألف حالة وفاة في العام 2000. كما خلص إلى احتمال استمرار تلك الآثار في المستقبل.

وهكذا، فإن التغيّر السريع الذي يطرأ على المناخ يشكّل مخاطر كبيرة على صحة البشر، ولاسيما أشدّ الفئات فقراً. وعليه تلعب الإجراءات الرامية إلى الحد من تأثير البشر في المناخ العالمي دورا مهما في الحفاظ على صحة الإنسان. وتعود سياسات الحد من المخاطر، المُحكمة التخطيط، بمنافع صحية مباشرة. فيمكن، على سبيل المثال، أن تسهم نُظم المواصلات الحضرية المُصمّمة بشكل جيّد في الحد من انبعاثات غازات الدفيئة والحد، في الوقت ذاته، من الآثار الصحية الرئيسية الناجمة عن تلوّث الهواء والخمول البدني في المناطق الحضرية، علماً بأنّ تلك الآثار تودي بحياة الملايين من الناس كل عام. كما يمكن أن تسهم المساكن المزوّدة بوسائل العزل الحراري الفعالة في الحد من استهلاك الطاقة وما يتصل بذلك من انبعاثات غازات الدفيئة، والحد من الوفيات الناجمة عن البرد والحرّ على حد سواء، والحد، في البلدان الفقيرة، من الحاجة إلى حرق وقود الكتلة الحيوية ومن آثار تلوّث الهواء داخل المباني.

 


أحمد الشربيني