إلى أن نلتقي

 إلى أن نلتقي

(سحر الحكاية)

مثل كل الأمهات, كانت أمي قد أعدّتني إعداداً طيباً لأصبح فتاة هادئة وزوجة طيبة, وأما رءوما, غير أن القسوة التي قوبلت بها منذ اليوم الأول لمولدي كانت قد غرست في نفسي أول بذور الرغبة في تغيير المسار الذي رسمته كل الأمهات للبنات. وحين رأيت أبي يوليني ظهره, وكذلك أمه وشقيقتاه, حائط ممتد من الظهور والأقفية الغاضبة, قررت أن يكون لي الفعل نفسه. كانوا جميعاً ينتظرون مقدم (الولد) وما كان من أمي إلا أن حملتني غاضبة, (قطعة لحم حمراء) ملفوفة في جلبابها القديم المزركش إلى دار أبيها, إلى حين يبت في أمرها, وفي دار جدي تفتحت عيوني على وجه أمي الطيب وقد بللته الدموع التي كانت تنهمر وهي تنظر إليّ وكأنها تكيل لي الاتهامات, بأنني أحد أسباب طردها من جنة أبي. على الرغم من أن بيت أبي وأمه وأخوته لم يكن به ما يشي بالجنة على الإطلاق.

انتبهت لحواديت جدتي, رغم عدم الألفة مع الهواء الذي تتنفسه, ولم تكن تمثل لي شيئاً من المتعة, ربما لبشاعتها وبشاعة شخصياتها التي كانت شديدة القسوة والإيذاء لخيالي, وأبرزها صورة المرأة (صاحبة السبع دواهي) وهي امرأة لم تنجب, نصحتها امرأة (تعمل أعمالاً) في كفر مجاور بأن تأتي بسبع دواهي, سبعة أعمال نصب واحتيال حتى لقّبت بـ(أم السبع دواهي) وكانت داهيتها الأولى أن تزوجت من رجل له سبع بنات جميلات, فإذا بها وفي غيبة الرجل تقوم بذبح رقاب السبع بنات وتتركهن حتى تتصفى دماؤهن... صورة شديدة الإيذاء لمخيلة طفلة في السادسة من عمرها.

كانت امرأة العمدة التي أتى بها من خارج الكفر ربما لتحسين سلالته السمراء العجفاء, رأيتها ذات ليلة من ليالي الغضب من فوق سطح دارنا المعرشة بالحطب وزلع اللفت والمش وأقراص (الجلة).. (عجين من روث البهائم ممزوجة بالتبن), وكلها تسمّيها جدتي بـ(الخير) الذي (ينخ) به سقف الدار إذا ما أبديت وأمي غضباً على الطعام.

كنت أرى امرأة العمدة تقف على سطح دارها وتعرّض جسدها الأبيض لضوء القمر, وتظل تتحرك ببطء وتستدير, والقمر يسكب ضوءه على جسدها, كان هذا يحدث كل يوم, وفي الوقت نفسه من دخول الليل والدهشة تأخذني لفعل المرأة. كنت أمعن النظر جيداً إلى المرأة التي ترقص تحت ضوء القمر, وما إن نظرت بعيداً حتى رأيت كثيراً من شباب القرية يتابعون المرأة في فرح للقمر وهي تستحم في ضوء فضي.

كان هذا يحدث كل ليلة من ليالي الغضب, وقد أدمنت الغضب من أبي وجدتي لأفر إلى سطح الدار وأرى ما أراه. بعدها أمسكت بكوز صدئ وعصاية ونسجت لعيال الكفر حكاية امرأة العمدة التي ترقص تحت ضوء القمر نسيجا ناعماً تمتزج فيه خيوط البياض بالسواد بضوء القمر, مازجة مما حدث بالفعل بما هو من نسج خيالي, بعدها أيضاً زاد جمهوري وأنا أجوب حواري وأزقّة الكفر, أضرب الكوز بالعصاية وأحكي تفاصيل الحكاية, وفي نهاية اليوم, أراني أقود حشداً غفيراً من عيال الكفر ورجالها ونسائها, وقد سحرتهم الحكاية, وحين كبرت وتركنا القرية إلى المدينة, رحت أسعى إلى شكل آخر للكوز والعصاية فكان الورق والكتابة, وصارت امرأة العمدة هي التفاصيل البسيطة في الحياة التي تدفع بذلك الفوران الغريب إلى نفسي.

 

نعمات البحيري