لا تفسير للفن

لا تفسير للفن

نادرًا ما كانا يلتقيان، لكن الصدف كأنها القدر، هما كاتبان، واحد منهما شاعر يكتب الشعر، والثاني روائي، يكتب رواية، أنا أعرف الأول والثاني، قلت إنهما كاتبان، الأول يكتب الشعر ولا يشعر والثاني يكتب الرواية ولا يرويها.

كنت ومازلت أعتبرهما كاتبين فقط، هذا يكفي. والآن دور الحديث الذي دار بينهما، وسيرى القارئ أنه حديث إذا لم يحدث فإنه لن يغيّر شيئًا في حياتهما ولا حياة غيرهما. حديث بين شخصين يستعملان القلم الحبري الناشف للكتابة، ابتدأ كاتب الرواية بالسؤال:

- كيف الحال؟ صدفة سعيدة، قال سعيدة لكنه كان يكذب، وهذا تراه في عينيه. أجابه الشاعر، لم يجبه بل ابتسم له لكن ابتسامته كانت للأسف.. أسفًا على هذه الصدفة التي جمعتهما، كرّر الروائي: كيف الحال أين أنت الآن، هنا قفز الجواب من بين شفتي الشاعر: أنا هنا.. وأنت ماذا تفعل الآن؟ ماذا؟ هل تكتب، هل مازلت تكتب؟ أجابه الروائي: والله.. أنا أكتب الآن قصتي، أعني أكتب عن حياتي، ابتدأت منذ أشهر ومازلت أكتب. كان يعلم الشاعر ويعتقد جيدًا أن حياة محدّثه لم تكن غنية بحوادثها.. هز رأسه قائلاً: عال.. موضوع جميل أن تقص على العالم قصة حياتك، أرجو أن تدوم.. قال الرّاوي: ماذا.. تدوم من يدوم؟ أجابه الشاعر: أقصد عمرك أن يدوم عمرك ويطول.. لماذا تقول هذا؟ قال الروائي:

لا... أجاب الشاعر: أقصد أن من يروِ قصة حياته، فكأنه أنهاها.. أو أن حياته قد اكتملت وتوقّفت.. أن يكتب إنسان قصة حياته يعني أنه أنهاها، بل إنها هي انتهت، أجابه الروائي: أنا سعيد بلقياك اليوم، لا بدّ من فنجان قهوة في قهوة.

أجابه الشاعر: ما قولك بقلب الجملة؟ مثلاً..

لا بد من فنجان قهوة في مقهى، كأن هذه الجملة جعلت الجوّ بينهما جواً مقبولاً، راحا إلى المقهى، أشعل كل منهما سيجارة وحضر الفنجانان.. ولاحظ الشاعر أن الروائي وضع في فنجانه معلقتين من السكر حتى تحوّل لون القهوة إلى لون فاتح لم يرَه في فنجان قهوة من قبل. قال الراوي وهو يشرب مزّات من القهوة ويتلذذ بها: ليس من الضروري إذا كتب الروائي قصة حياته أنه أنهاها.. أنهى حياته، الحياة غنية بما يكفي لأن يغرف الكاتب منها ويطعّم كتابته بها أي بحوادثها..أجابه الشاعر: أنا مع حرية التعبير الفني كما تعرف، لكني أشبّه الكتابة الشعرية أو الرواية بالفن.. لا.. الكتابة فن.. هذا معروف أريد أن أقول إن الكاتب الذي يبدأ في كتابة حياته، هل يعلم إلى أين سيصل؟ ومتى ستنتهي حياته؟ وهل يستطيع أن يكتب حياته وقد فارقته الحياة؟ الرسام يبدأ في رسم لوحته، ولا يعرف كيف ستنتهي، وكيف ستطرده اللوحة وتطلب منه أن يكفّ عن رسمها وتلوينها.. لست أدري إذا كان كلامي مفهومًا. أراك لا تقول شيئًا ليتك أوقفتني عن حديثي، الكلام سهل أليس كذلك.. أجابه الروائي: فهمت شيئًا وغابت عني أشياء، قال ضاحكًا. ثم تابع: أنت تأخذ كل شيء بجدّه وبجد.. وكأن كلامي.. قاطعه الشاعر: أي كلام؟

أجابه الروائي: عندما قلت لك إني أكتب قصة حياتي كأن الاستغراب سيطر عليك، وكأني أنا أول كاتب يحكي قصة حياته.

قال الشاعر: يا صديقي أنا أقول ما تفكّر أنت به.. ولسنا سوى محاورين في موضوع الكتابة.

وأنا كما تعلم، قاطعه الراوي: أنا لا أعلم شيئًا أعتقد أن لا أحد يعلم شيئًا.. الحياة تمر ولا تسأل عن أحد.. قال الشاعر: أسمع.. أريد أن أقول إن الكاتب عندما يبدأ في كتابة قصة حياته، كأنه يعلم مسبقًا كيف ستنتهي الحياة ومتى ستقف حياته.. الفنان.. أعني الرسام مثلاً عندما يعتبر أنه وصل إلى مبتغاه في فنه كأنه ابتدأ عارفًا إلى أين سيصل، أريد أن أقول إنه يسير في عمله ويعلم أين سيصل.. وهذا مستحيل في الفن الكبير.. أو عند الفنان الأصيل أعني عند الرسام والموسيقي والشاعر، جمال العمل الفنّي أنه عندما يبدأ فهو لا ينتهي.

الإنسان يبدأ في انتظار غيابه الأبدي منذ ولادته، الفن الكبير

لا عمر له هو يحيا مع الحياة. لا يعرف الموت. الإنسان يمضي - أعني الإنسان الفنان - فنه يبقى، إذا كان فنًا كبيرًا.. والفن الكبير لا تفسير له. مع التفسيرات الكثيرة التي تحوم حوله.. الفن كالحياة. في نورها وظلامها. لا تفسير لجمالها.. الجمال الحامل بين جانبيه الحياة والموت. الجمال والحب، نعم، إن لفن الحياة سرًا لا وصول إلى تفسيره.. كالشعور.. كالشعور بالحب.. تكتب القصائد وتؤلف الموسيقى والألحان وترسم اللوحات التي تعتقد أنها تعبّر عن الحب أو عن الشعور به.. إلاّ أنها تدور حول الحب ولا تصل إلى أعماق الحب .. لنقل مثلاً إن الحياة هي عطاء ولا عطاء أجمل من عطاء الحب. ساد صمت لثوانٍ ثم قال الروائي: لقد أسكرتني.. و.. أضعتني.. أنا أتساءل إذا لم يتوحد الفن ماذا كنا نسمي هذه التعابير المكتوبة والمرسومة والملحّنة.. ماذا كنا سنسمّيها؟ أعني لو لم يوجد الفن فكيف نستطيع أن نتكلم عنه؟ أجابه الشاعر: وجد الإنسان فنانًا.. ما عليك إلا أن ترى رسوم الكهوف.. رسوم ما قبل التاريخ الفائقة الجمال.. ترى أن الإنسان لايكفيه أن يتكلم بلسانه فقط، الرسم كان اللغة الأولى ثم أتت الكلمة.. أمّا كلمة «الفن» اليـوم فهي كلمة قداسة فقدت معناها, طغت عليها المادة.. بعد أن كان الإنسان يحوّل المادة إلى روح, أصبحت الأشياء الفنية الروحية في الأوحال المادية المالية.. الفن ياأخي اليوم قد فقد معناه كالكلمات الكبرى مثل الحرية والجمال والحق والخير، كل هذه الكلمات صارت مستعملة في كل مجالات الحياة التي لم يبق فيها سوى كلمة أو كلمتين: الجهل والكذب.

لا والذي تسجدُ الجباهُ لهُ، ما لي بما دون ثوبها خبرُ
ولا بفِيها، ولا همَمتُ به، ما كانَ إلاّ الحديثُ والنظرُ


جميل بثينة

 

 

أمين الباشا