شخصيات.. حدائق توقاي

شخصيات.. حدائق توقاي

بين مخلبٍ للبردِ، وقبضةٍ للجوع، وذراعين لليُتْم، وصراع مع صراخ مُرَبيةٍ عجوز، يبدأ وعيُ الصبي «عبد الله توقاي» بالحياة.

ولد في 26 أبريل 1886 لربِّ أسرةٍ متدين؛ توفي قبل أن يشعر الطفل الصغير بحنانه. تُسلمه العجوز التي بدأت بتربيته وهو يتيم إلى عائلة أخرى، وينتقل إلى كنفِ أسرة ثالثة، وهكذا، حتى تربيه عمتُه، ولينتقل من كوشلافوتش حيث ولد، إلى أتشيل حيث نشأ، وكيرلاي حيث عاش، وقازان عندما استقر، تمضي حياة شاعر التتار عبد الله توقاي، صعبة ومتقلبة، ولكنها على قصرها مليئة بالأحداث الجسام، جعلت منه شاعر أمته القومي، مثلما جعلت من يوم مولده عيدًا سنويا للشعر في تتارستان.

منذ مائة عام كتب عبد الله توقاي: «البهجة؟ قلْ لي ماذا تعني البهجة؟ أقدارُنا أن نعيشَ لنرى ما في الحياةِ من خير، لكنَّ في التضحيةِ من أجل شعبي تكمنُ سعادتي، وفيها أبصرُ أكثر أشكال الحياة بهجة وإمتاعًا».

عام 1894 ترسله مربيته وعمتُه عزيزة في مدينة ياييك، إلى المدرسة المتقية ليدرس برغبته اللغات العربية والتركية والروسية ولينهل من الأعمال الأدبية العالمية العظيمة، وليخط كذلك أولى قصائده.

كانت الحياة في بواكير القرن العشرين تلبس أقنعة التغيير في كل وجه من وجوه الحياة، أحداث جسام في روسيا وأوربا والعالم. وعلى حدود كازاخستان، حيث كان نصف السكان من التتار، بدأت دوريات تنشر وصحف تصدر تواكب هذه التغييرات السياسية والثورية، فيطالع الناسُ (العصر الجديد)، و(فكر)، و(أولكار) - وتعني السهام - وقد بدأ عبد الله توقاي حياته الصحفية في سنة 1904 بالعمل في هذه الصحف، وذاعت شهرته بين الناشرين وهم لم يزل في سنة السابعة عشرة.

حين يصل إلى العشرين من عمره إلى قازان، مركز الثقافة التترية، يضع أفكاره الثورية في صحف ساخرة مثل ياشين (التنوير)، ويالـْط يولـْط (السطوع). وفي السنوات القصيرة التي عاشها يملأ الحياة الأدبية إبداعًا ثريًّا، لتمثل قصائده العاطفة الجياشة والخيال القوي، مثلما تمثل حياته حربًا ضد الجهل والنفاق في أي شكل.

خلال عمل عبد الله توقاي الصحفي يتحول الشاعر من طور الصبا إلى مرحلة الشباب، ويولد صوتٌ غنائي مثَّل لأبناء جلدته صوتهم في النضال والسلام، وفي الحرب والحب. يولد شاعرٌ يأخذ من فن التتار الشعبي سواء من الحكايات الخرافية، أو نسيج الأساطير والمرويات والأغنيات، وليصبحَ شعره وسرده رسالة إحياء للروح التترية.

يقول توقاي: «ترجمتُ كثيرًا من الأفكار الجَلل إلى لساننا، واعتدتُ الترجمة كما لو كنتُ أؤدي الصلواتِ الخمس، بعدها كانت تضيءُ القلبَ اليائسَ شمسٌ تجعله كزهرة داليا أتاها الربيع، وبعدها، وحين أركن للهدوء أوقات الفراغ، أترجمُ كلماتِ تولستوي، ولم تصعب عليَّ أبدًا مفردة في النَّقْل والاقتباس، لأنَّ لغتَنا وسِعت كلَّ شيءٍ، هكذا أقول لكل شخص».

شُوْرَالِي

على الرُّغم من أن صور توقاي الحقيقية التي تحتفظ بها الذاكرة التوثيقية في تتارستان كانت قليلة، فإن الأعمال الفنية التي خلدت حضوره أكبر من أن تُحصى، وبين يديَّ مجلدٌ ضخمٌ فيه أكثر من 300 صفحة من القطع الكبير يحمل عنوان «حدائق توقاي المصورة»، يجمع بعضا من هذه الأعمال في النحت والتصوير والرسم بمختلف الوسائط. إن كلاً منها يمثل طورًا من أطوار حياته، أو يصوِّرُ عملا من تراثه الشعري، وخاصة عمله الأكثر شهرة: شُوْرَالِي:

توجدُ قرية قُرْب «قازان»،
تحمل اسم «قِيرَلاي» الآن،
نسمعُ فيها ديوكَ القريةِ،
تصيحُ بلحن كالأغنيةِ
ومع أني لم أولدْ فيها،
فإن إقامتي بها لا أنساها
فقد حَرَثتُ حقولها،
زرعتُ، وحَصَدْتُ غلالها
أتذكَّرُ أيضا غاباتٍ،
سمراءَ بأشجار كثيفاتٍ،
تشبهُ سورًا حول القريةِ
أتذكَّرُ مرجَ الأعشاب الخضْرا،
يستقبلُ بنعومتِهِ الفَجْرَ
ليست «قِيرَلاي» كبيرة،
بل هي يا عزيزي صغيرة!
يَعْبُرُ فيها ماءُ غدير،
ينبعُ من عين بسرور!
عذبٌ ليس بثلج أبدًا،
وليس بحارٍ، بل حلوٌ جدًّا
وثمار التوت بقرب الماء،
وبجانبها فراولة حمراء
وبطرفة عين تملأ دلوك في حرية
ما أجمل الأرض التي تسحر!
وحراسها أشجار الصنوبر!
وكثيرًا ما أستلقي أدناها،
فأحس بقوة مرآها!
وهنا، وهناك، طحالبها،
ونبات الحميض يقاربها
وبراعم أزهار طالعة،
كالحور الرجراج الرائعة
وهواء شاف يتبختر،
بنسيم الأزهار معطر!
زرقاء وصفراء وحمراء وبيضاء
وباقات ليلك وردية!

هذا المشهد الافتتاحي لقصيدة (شورالي) يمهِّدُ للدخول إلى عالم الأسطورة الخالدة التي يحكيها التتاريون لأبنائهم، ولكن قصيدة عبد الله توقاي تنقل الأسطورة من مَخْدَع حكايات الأطفال لتصبح عملا شعبيا؛ يرسمه الفنانون، وتعبر عنه أعمال على شاشة السينما وفوق خشبة المسرح وعلى درجات السلم الموسيقي وفي عالم الباليه والأوبرا والتزلج على الجليد!

يتحدث عبد الله توقاي في قصيدته التي تستلهم صورة الغابة الأثيرة في المخيلة الشعبية عن عزف الفراشات بالألوان، وسلام الزهور مع الربيع، وزقزقة الطيور ورنين الأجراس التي تعلق في أعناق القطعان، وصور من حياة التتار المتخمة بالموسيقى والرقص وأشكال الفنون وألاعيب السيرك، وتتحول الغابة إلى مسرح عابر من شوارع يملأها المحاربون وعازفو الكمان. إنه غابة «عامرة بالعطر، أكبر من البحر وأعلى من السحاب»، أشجارها تشبه جيشا تتريا!

مثلما يغني عبد الله توقاي للربيع والصيف، في قيرالاي، يولي الخريف عنايته والشتاء، فهو يخاطبنا: «أواه، يا شعري لا تعذب روحي بالذكريات، ولكن توقف، لقد غرقت في أحلامي، وهذه الصفحة لا تزال بيضاء على طاولتي، تنتظر أن أحكي عن شورالي وأحوالها، وسأبدأ الآن، أيها القارئ، فلا تلمني، فأنا أفقد عقلي كلما تذكر فقط قريتي».

ففي هذه الغابة السوداء الواسعة، حيث تمرح الذئاب، وتلهو الدببة، وتقفز الأرانب، وتعدو السناجب، وتتخابث الثعالب، يتذكر المرء حكايات الجن، والعفاريت، وهو سؤال يرد لذهن شاعرنا يخرجه من تأمله لقفزات الغزلان الشاردة:

«ذاتَ مساءٍ، والليلُ مُطلْ،
والقمرُ وراء سحابته اكتملْ.
خرجَ الحطابُ من القريَة،
شابٌ في يدِهِ الفأسُ قويَّة
طق، طق، طق، طق، دق النصلْ،
هزَّ الصوتُ سكونَ الليلْ!
ليلُ الصيفِ الباردُ صامتْ،
هَجَعَتْ فيهِ طيورٌ، نامتْ!
كان فتانا مشغولا في التحطيب،
حتى صَدَرَ صريرٌ غير قريب!
ظهر أمام الشاب كائن ليس يبين،
إن كان من الإنس أم الجان!

يتفنن توقاي في وصف القبح الذي تبدو عليه (شورالي)، كما لو كان يصف أمنا الغولة في تراثنا الشعبي، بالأنف المقوس كصنارة صيد، والساقين اللتين اعوجتا، والعينين اللتين تطلقان الشرر، والجبهة السوداء، ذات القرن، واليدين اللتين تثيران الخوف نهارًا بأصابعهما المستقيمة كالمخالب، فما بالنا والمشهد الليلي يقدّم له هذا الكائن العاري كثيف الشعر. لم يهرب الحطاب الشجاع، بل فاجأ الغولة بالسؤال عما تريده منه، وتكون الإجابة أكثر عجبًا:

أيها الفتى، لست بلصة فلا تخف مني، كما أنني لا أقطع الطريق، ولست قديسة كذلك، لكنني فرحتُ بقدومك رغم أنني اعتدت أن أقتل الناس بدغدغتهم، بأصابعي الطويلة، التي خلقت لتزيد من ألم الدغدغة، فأنا أقتل الإنسان مجبرة إياه على الضحك، فتعال نلهو بأصابعنا ونجربها، ولكن الفتى يجيبها: «إني أقبلُ ضمن شروطِ، هل نتفقُ قبل الشوطِ؟!»

يشترط الحطاب، الشجاع والذكي، أن تساعده (شورالي) قبل اللعب في حمل الشجرة الضخمة إلى عربته، فعليه أن ينهي العمل قبل أن يبدأ اللهو، وأن هناك شقا في شجرة يمكن أن تضع فيه الغولة أصابعها لتستطيع بقوتها أن تحملها، وبالطبع يخمن قارئنا أن تلك لم تكن سوى مجرد حيلة ليثبت الأصابع في الشق قبل أن يدق الشجرة بقوة فينغلق الشق على الأصابع، ولا تستطيع شورالي حراكًا، ويقول لها الحطابُ وهو ذاهب عنها ناجيا: اصرخي ما شئت!

الفنُّ رفيقًا لتوقاي

هكذا تنمو أزهار أعمال عبد الله توقاي من براعم الحكايات الشعبية، بخفتها التي تخفي عمقها، وسلاستها التي تغطي حكمتها، وهو يكسب الحكايات ألوانا من الصور، سواء كان يتحدث عن سوق شعبية، أم غابة مطلسمة، أم نبع جار، أم بحيرة آسرة، كما يبدو في مجموع اللوحات التي تصاحب هذه الكلمات. بدأ الفن يرافق أعمال توقاي ويعبر عنها في سنة 1906، حين صدرت مجموعاته الشعرية في حياته، وحمل رسم لفنان مجهول يوقع بالحرفين (ن.ك) أول تعبير فني لقصائد توقاي، الرأس الزجاجية، وهي قصيدة تفيض بالسخرية.

وفي أعماله المنشورة في صحف قازان رافقت أعمال توقاي رسوم الفنان أ. كمال الشارحة والكارتونية الساخرة. ولم يتوقف اهتمام الفنانين بتصوير أعمال الشاعر بعد رحيله في ربيع 1913، بل انطلقت الأحبار والألوان، على أطراف الأقلام والريشات، تصور تلك الحياة التي بثها توقاي في مفردات معبرة:

بالأمسِ، سَمِعتُ صوتًا منشدًا لأغنية،
صاغ كلماتها شعبنا،
أغنية دعتني أتأمل: كم تخفي من الحزن الحروف،
وكم يسكنها الوجعْ
لقد آلمت فؤادي،
وهي تبثه روح التتار التي عانت،
قمْعِ القرون الماضية،
ولكنها رغم قسوتها، تفيضُ بالجمال.

 

 

أشرف أبواليزيد 




 





لوحة عنوانها الشاعر، بريشة الفنان يافيم سيمبرين، وفي الصفحة المقابلة اسم عبد الله توقاي بخط الطغراء بريشة الفنان التتاري نجيب نقاش





القصيدة الأسطورية شورالي وشاعرها في عدة أعمال فنية: نحت للفنان رئيس صافين لتوقاي وشورالي





حفر على الخشب لدارسيل صدر الدينوف





الغولة في حفر على النحاس للفنان إ. يارموشكين





الغولة والحطاب الشاب، خزفية للفنان جورجي زيابليتسيف





في قرية قيرلاي، حيث عاش الشاعر، استعادت كلماته صورًا من حياة الريف وكائناته، وبريشة زمفيرا بيكتاشيفا، نرى ألوان الديك في هذه اللوحة البديعة التي تستلهم أعمال عبد الله توقاي