محمد الماغوط وسناء زعير الحوار الأخير

محمد الماغوط وسناء زعير الحوار الأخير

محمد الماغوط
رحيل شاعر عظيم المقام

يبدو فوضويا ولا مباليا وهو يتحدث عن نفسه وعن إنجازه الشعري والمسرحي, ولابد أنه تلقى الموت بالدرجة نفسها من اللامبالاة, كان محمد الماغوط شاعرا فطريا عظيم المقام, رحل عن دنيانا بعد 72 عاما ملأها صخبًا, هشم أوزان القصيدة العربية وأبدلها نثرا, واقتحم عالم المسرح فملأه بالضحكات المرة, ولم تفلت منه شاشات السينما ولا التلفزيون, وقد فعل ذلك كله من خلال مرجعيته الذاتية فقط فهو يقول: أنا لست مدينا لأحد, صنعت نفسي بنفسي, ويعترف أنه لا يجيد أي لغة غير العربية ولا يبالي بذلك, وحتى في هذه اللغة لم يقرأ فيها إلا نتفا من أشعار كبار القوم, بل إنه لم يقرأ الكثير أصلا, ولا يشاهد التلفزيون, حتى إن بعض المسلسلات التي قام بتأليفها لم يشاهدها, إنه شاعر برز من صلب الحياة نفسها, من تفصيلاتها الوضيعة والسامية, وليس من الثقافة والكتب, ربما قرأ جبران كاملا, وربما أحب طه حسين لإرادته وريادته, ولكنه تعلم سحر اللغة العربية من منبعها الأصلي, من القرآن الكريم, وشارك في كل ثورات تجديد الشعر العربي وهو لايدري, فقد كان يسعده المشاركة في كل رغبة تخريبية, وكره القصيدة العمودية منذ النظرة الأولى, ولكنه عشق المسرح بالتأكيد, فقد أتاح له فضاؤه مساحة من السخرية المريرة التي كانت نفسه الجامحة تتوق إليها, كان يريد أن يشبع حياتنا العربية نقدا لاذعًا وسياطًا لاسعة, وأن ينزع الأقنعة الملونة عن كل وجه زائف, كل البلاد كانت بلاده, ولم تكن كذلك في الوقت نفسه, كان ينتمي إلى أرض الله, التي لا تعرف حدودا ولا جوازات سفر, وبالرغم من المرض العضال الذي ألم به في أيامه الأخيرة فقد ظل حريصا على أن تبقى روحه سليمة, الجسد يخون أما الروح فتظل مادامت الرغبة في الحياة باقية, وحتى الكرسي الذي يتحرك علية في الأيام الاخيرة تحول إلى صديق له, لأنه كان يمنحه القدرة على مقاومة خيانة الجسد. ولد الشاعر محمد الماغوط في عام 1934 في بلدة سلمية بالقرب من حماة, وأصدر أول ديوان له تحت عنوان حزن في ضوء القمر عام 1959, أما آخر دواوينه فكان البدوي الأحمر عام 2006, وبين ذلك أبدع عشرات الدواوين والمسرحيات والأفلام, أشهرها مسرحيًا ضيعة تشرين وكاسك ياوطن, اللتان قام ببطولتهما الفنان دريد لحام, ولقيتا نجاحا كبيرا في كل أنحاء الوطن العربي, وكذلك فيلما الحدود والتقرير اللذان قام بهما الممثل نفسه, وأكثر من مسلسل تلفزيوني, ورحل دون أن يتخلى عن سخريته المريرة:

يا أمهات الكتب.. أخبروني
ما حل بمؤلفاتي المتواضعة
لقد عانيت طويلا في كتابتها
وأريد أن أعرف ما آلت إليه
وعلى أي رف ترقد?

العربي

منذ خلق البرد والأبواب المغلقة وهو مادٌ يده كالأعمى بحثًا عن جدار, أو امرأة تؤويه, ولكن.. ماذا يفعل البلبل الأسير بالأفق الذي يلامس قضبانه?

إنه محمد الماغوط.

حين سُئل عن دافعه إلى الكتابة في سن مبكرة قال:

كان عمري عشر سنوات, عندما كنت في القرية, شاهدت رجلاً يركب حصانًا أسود, وعندما كان يضرب الحصان بالسوط كان يصيب الناس من حوله.

كان عمره ثلاث عشرة سنة وكان وقتها وحيدًا في قرية أكثر وحدة وفقرًا.

وبينما كان يتجول في زواريبها المظلمة الميتة كان يهطل مطر خفيف, لم يكن يعرف كيف يهرب من وحدته, في ذلك الليل الرهيب, حاول دخول البيت ولكن الباب كان مقفلاً, حاول الذهاب إلى السينما ولكن الجيوب كانت فارغة, من النقود.

ولأن طريق الحياة كان مغلقًا أمامه فقد قرر أن يبني محكمتهُ الخاصة على الرصيف, مدخلاً الوطن والمواطن إليها ليحاسب الجميع بشجاعة, بحب, وأيضًا بكراهية.

ولأنه طالما كره السين والجيم فقد سمح بهذا الحوار شريطة أن يكون ممتدًا عبر أسابيع, ففي كل زيارة كانت المحاورة تقتنص منه سؤالاً أو سؤالين ولكنه اقتناص بإرادته بكل تأكيد. وقد قامت بهذا الحوار الصحفية السورية سناء زعير.

  • في مجموعتك الأولى (حزن في ضوء القمر) عام 1959, قدمت مفهومًا إبداعيًا جديدًا للشعر بتخطيها الشكل الخارجي للقصيدة العربية حيث طرحت قصيدة النثر.
    ما كان الدافع برأيك, أهو التمرد على النموذجي الموروث, أم أنه الرغبة في تفجير جذور اللغة?

- قصيدة النثر التقطت توترات الحياة اليومية ولحظاتها الإنسانية المستمرة, التقطت الأشياء الصغيرة وفتشت في مشاعرها فكونت وجدانًا فنيًا, دخلت في إشكالات غير معروفة, عملت على الاستقصاء والكشف بأشكال مختلفة, قصيدة النثر كانت أكثر التصاقًا بالواقع ونفاذًا فيه وبهذا شكلت موقفًا من العالم.

أما عن تفجيرها جذور اللغة فهي لم تفجر اللغة, وإنما فجرت الكلام العادي اليومي, ارتقت به ليكون شعرًا وأنا عملت على كشف ملامحها إلى أقصى الحدود لأنني ملتصق بالشارع والرصيف, بالهم الوطني والاجتماعي.

نبع الكلام

  • إذًا لغتك أو أسلوبك, بث طاقة أو لنقل توترًا شعريًا في الكلمة العادية?

- أعتقد أنني حققت توافقًا بين المضمون وبين تقنية أخذ ملامح قصيدتي من نبع الكلام اليومي, لذا تجدين فيها الدفء مثلما تجدين الألفة, وهذه من قصيدة غرفة بملايين الجدران:

(بعض الكلمات زرقاء أكثر مما يجب
صعبة وجامحة
ترويضها كترويض الوحش
ولكنني سأكافح بلا رحمة
بلا أزهار أو طبول
متكئًا على طاولتي كالحداد
مستلقيًا على قفاي كالشريد
حتى أحس الحياة كلها
الحياة والحب والدمار
العسل والريح والسياط
تتطاير وتلتهب
تتطاير وتهوي كأوراق الغابات في الخريف)

  • للنقد أشكال متنوعة في كتاباتك, ما مدلول (الطرفة) الناقدة عندك?

- استعملت كل أنواع النقد الساخر, وحين أكتب, أكتب عاريًا حتى وسطي, كالعبد المساق إلى ساحة الجلد, ولا شيء يحميني من المحيط إلى الخليج سوى الغطاء الجوي للكرة الأرضية, أينما شرقت وغربت, في ربوع هذا الوطن العربي الحبيب, لا تسمع ولا تقرأ إلا: الأمن القومي, الأمن الوطني, الأمن الجنائي, الأمن الغذائي, الأمن العام, الأمن الثقافي, الأمن الزراعي, الأمن المائي, أمن المتاحف, أمن المعارض, أمن السفارات, أمن الفنادق.

ومع ذلك ينام المواطن العربي, وهو غير آمن على ثيابه الداخلية.

ضد القهر

  • وماذا عن التهكم والاستهزاء بدون تلوين?

- كل ما كتبته يخص الإنسان, الإنسان العربي, وأنا صادق معه, إنه مقهور, مؤرق, حلمه مكسور, حقه في الخبز والكرامة مسلوب عنقه مطوق, لماذا وجدت اللغة أصلاً?

كيف ألون وأزوق, وكل الجسور محطمة في قلبي وطفولتي الموحلة تتبعني كالشبح, والخوف يصدح كالكروان, والإنسان العربي مفجوع بأبنائه وأرضه ومستقبله وكل الأنوار مطفأة في الشرق.

  • وكيف تتعايش مع الواقع الجديد?

- أي واقع.

  • كل الواقع?

- مع تقدمي في السن, تقدمت أحلامي في السن أيضًا وصارت أكثر إزعاجًا, وخرفًا, واعتباطًا وعددًا, وصرت أحلم ذات الحلم, في البيت, في المقهى, وفي وسائط النقل, وعلى إشارات المرور, لقد زادت الأعباء على قدمي الوحيدتين, ولكن كل المعطيات الجديدة, واختلال موازين القوى - الهيمنة الأمريكية والتقوقع الأوربي, كلها أمور لا تعنيني أكثر مما تعنيه الزلازل أو الجاذبية الأرضية لعصافير الدوري وأسماك المحيطات.

سأظل أستمع إلى خطابات عبدالناصر وأغاني عبدالحليم حافظ وفايدة كامل, وتعليقات أحمد سعيد وأحمد فراج وغيرهم من مذيعي صوت العرب على الرغم من كل ما فيها من تهويل وصراخ ومبالغات.

أنا وأبو سلمى

  • هلاّ أخذنا, أو أعطيتنا شيئًا من حقيبة سفرك?

- يضحك مطرقًا رأسه ويقول:

تعرفت على الشاعر الفلسطيني الكبير (أبوسلمى) في مطعم حلويات (مهنا) الذي كانوا يأكلون فيه الفطائر باللحمة وهم يناقشون القضايا الكثيرة, وعلى رأسها قضية فلسطين.

غاب أبو سلمى والتقيته من جديد - وحين سألته قال: كنت في مصر من أجل القضية, وبعد أشهر التقيته وعاودته السؤال نفسه, فعاودني الجواب نفسه, ولكن في الجزائر ثم في بغداد ثم في أبوظبي وكله من أجل القضية.

وبعد غياب طويل كانت حرب يونيو, وكانت وفاة عبدالناصر, تطورات كبيرة حصلت, دعيت بعدها إلى الاتحاد السوفييتي السابق ضمن وفد لاتحاد الكتّاب العرب, وبينما كنت في صالة فندق (روسيا) أحدق في الوفود القادمة من إفريقيا وآسيا وأوربا رأيت أبوسلمى يدور في أرجاء القاعة بحقيبته وقضيته.صحت بانفعال بعد أن فوجئت بوجوده في فلسطين, شعر حديث, شعر قديم, كفاح مسلح - كفاح مهذب, لكنه لم يسمعني ولم يلتفت إليّ وهنا صرخت بشكل عفوي (فطائر بلحمة) وإذا به يلتفت إليّ.مددت يدي وصافحته قائلا: فطاير بلحمة يا (أبوسلمى) أجابني والدموع ملء عينيه (نعم.. فطاير باللحمة).

لا مهرب من الذكريات

  • هذا من الحقيبة, ماذا عن الذكريات?

- هي الشيء الوحيد الذي لا نستطيع أن نهرب منه حتى لو تنكرنا بالقبعات والنظارات السوداء, أو اختبأنا خلف أي جدار, سأحدثك عما حصل معي عام 1988.

وجهت لي وزارة الثقافة دعوة لإحياء أمسية شعرية في مكتبة الأسد في دمشق, ومن بين الحاضرين كان صديقي الشاعر (عمر أبو ريشة) وبالطبع وزيرة الثقافة يومها السيدة نجاح العطار, يومها ألقيت عدة قصائد وهممت بالنزول ولكن الوزيرة سارعت وصعدت إلى المنصة ثم اقتربت مني وهمست في أذني: ما قلته قليلاً إننا نريد المزيد, أجبتها على الفور دون حرج إن قصائدي من الوزن الثقيل وهذا ما استطعت أن أحمله لكم هذه الليلة فضحكت الوزيرة وانسحبت وأنا أضحك.

  • نتوقف قليلاً عند العديد من نصوصك, أرى أنها لا تكشف إبداعك وحسب, بكل تكشف إخلاصك لطبعك الحقيقي بعيدًا عن تعرجات الوهم الشعرية - هل نستطيع أن نعتبر أن مرد ذلك عائد لانفعالاتك العفوية?

- أي عمل إبداعي يتطلب من قوة الطبع ما لا يقل عن الإنجاز الكامل فكريًا وفنيًا, لذا أرى أن إصراري على حزني أمر لا يناقش, الحزن الذي ينتابني عندما نلوي شجرة, أو نكسر غصنًا, أو نهدم منزلاً, أو نتلف قصيدة لا يريد أن يسمعها أحد.

ولأن كل شيء تريد أن تعرفه تفقده, فإنني أشعر بالخوف والعار كلما كشف النقاد أو المتابعون أي حكمة أو هدف أو مزية فيما أكتب, فأنا أريد أن أكون وحيدًا في حبي وعذابي وكبريائي وعطائي وكراهيتي وسريري.

  • من جديد يستهلكك القلق, ومن جديد تحطم كل الحواجز ومن جديد تتكشف أكثر رغباتك عنفًا وحنينًا, ومن جديد تحضر الراحلة سنية صالح - زوجته وحبيبته - صورة من المستقبل?

- سنية صالح, وحدها من عرف مأساتي, كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعال على ما يحيط بنا. رافقتني في عزلتي كغريب, واستمرت معي في عزلتي كرافض.ركضت من البرد القارس والشمس المحرقة لتشبع رغبتي الجنونية في القراءة - التقطت أغلى الكتب وأثمنها, وجمعتها من فوق الأرصفة, غسلتها من بقع القهوة وجففتها لتقدمها لي.

إنها زنوبيا بلباس الميدان
وجان دارك بقميص النوم
ظلّ الوردة
والسيف
والقلم
والقصيدة
في الظهيرة
إنها باختصار: قصة حب طي الكتمان.
ومهما افترقت عن سنية
بالمأكل والمشرب والملبس والطباع
فلا بدّ أن نلتقي في نهاية المطاف كشفرتي المقص.





محمد الماغوط





محمد الماغوط





سناء زعير