أضواء على سيرة عنترة «إلياذة العرب»!

أضواء على سيرة عنترة «إلياذة العرب»!

في مجلة العربي العدد رقم 590 لشهر يناير 2008، قرأت بحثًا أدبيًا فلسفيًا، بقلم الدكتور جميل قاسم. يتحدث فيه عن المظاهر الملحمية في سيرة عنترة بن شداد العبسي الشاعر الجاهلي.

وقد أجاد الباحث في تعليل رغبته في التفوق والبطولة للوصول إلى مرحلة الإنسان الأعلى، شارحًا بشكل جليّ عقدة الدونية وما يرافقها من محاولة للتعويض وفق رأي الفيلسوف أدلر، ويعتبر سيرته إلياذة العرب.

وأنا متفق مع الباحث المؤلف على أن هذه السيرة مستمدة من أصول تاريخية، لكن لابد من أن أشير إلى بعض النواحي:

1- إن الملحمة، وفق تعريفات النقاد ومنهم العلامة سليمان البستاني، هي حكاية شعبية تتحدث عن معارك ملتحمة بين أمتين في مرحلة معينة من الزمن، وتستمد أصولها من التاريخ القديم، وتدور حوادثها المختلفة في جوّ من المبالغة مع تدخل الآلهة. ويرى «بوالو» عميد أدباء فرنسا في القرن السابع عشر، أن أحداثها تجري في جو من الخرافات لغرض معيّن وهو تهذيب الأخلاق. ويرى الناقد الإيطالي «فيكو» أنها تصوّر عادات الشعوب وتقاليدها.

وقد تحدث الفيلسوف أرسطو منذ ثلاثة وعشرين قرنًا وهو يشرّع للشعر والشعراء فقال إن الملحمة يمكن أن تكون شعرًا ويجوز أن تكون نثرًا.

والعلاّمة البستاني سبقنا عندما اعتبر سيرة عنترة إلياذة العرب في مقدمة ترجمته لإلياذة هوميروس، ووجد تشابهًا في أبيات شعرية عدة لعنترة مع أقوال الهكتور بطل طروادة وحامي حماها، ومع كلام لأخيل بطل الأغريق متحدثًا عن دوره الكبير في انتصار أمته وأمجادها.

وحسب التعريفات السابقة نجد أن سيرة عنترة الشعبية لا يمكن أن تكون ملحمة لأنّها حروب أهلية بين قبائل عبس وذبيان واشتراك قبائل أخرى، وكلها عربية وترتبط ببعضها بروابط الأصل والنسب والدم. وقد دامت أربعين عامًا لسبب تافه جدًا وهو سباق الفرسين داحس والغبراء، وليس بسبب حرب البسوس كما نقل المؤلف عن الدكتور فيليب حتي بأن عنترة اشتهر في هذه الحرب.

وهذا خطأ تاريخي.. فحرب البسوس، اندلعت عام 494م، تقريبًا إثر مقتل الأمير كليب وائل بن ربيعة - نقلاً عن فؤاد أفرام البستاني - من قبل جسّاس بن مرّة، بينما جرت حروب داحس والغبراء، والتي تحدث عنها الشاعر زهير بن أبي سلمى في قصائده في نهاية القرن السادس الميلادي، وفق آراء جميع مؤرخي الأدب العربي، طه حسين، وحنا فاخوري وجبران مسعود ورئيف خوري.

2 - يرى الباحث أن مؤلف سيرة عنترة هو عبدالملك الأصمعي.. والمعروف تاريخيًا وفق الكتب الأكاديمية أن مؤلفها هو يوسف بن إسماعيل، استجابة لرغبة الخليفة الفاطمي العزيز بالله (925 - 996م) بسبب ريبة حدثت في قصره فلهج الناس بها، عندئذ طلب الخليفة إلى ذلك القاص أن يضع سيرة تلهو بها الجماهير وتتسلى بما هو أروع.. فوضعها في اثنين وسبعين جزءًا تمتع بها الناس في مجالس القاهرة وغيرها من البلدان.

3 - ذكر الدكتور المؤلف أن مسرحية «السيد» Le Cid وبطلها رودريك بن دون دياغ، والتي ألفها كورناي عام 1636. فقال بأن بطلها قتل في محاربة العرب عام 1099.

لكن المعروف تاريخيًا أن كورناي قد اقتبسها عن مسرحية وضعها غيّيان دي كاسترو الإسباني عام 1618، وتتحدث عن فروسية هذا البطل «السيد»، خلال منافحته للغزاة المغاربة العرب، لكنه لم يقتل خلالها، والجدير بالذكر أن العرب الأسرى المغاربة هم الذين أطلقوا عليه هذه التسمية «السيد» كما ذكر كورناي.

أما الذي قتل في المعارك ضد العرب الفاتحين فهو رولان الكبير ابن أخ الامبراطور شارلمان بتاريخ 15 أغسطس عام 778م، إثر هزيمته أمام عرب الأندلس في مكان يدعى «رونسفو».. وقد أنشد شاعر مجهول قصائد ملحمية تتحدث عن بطولة رولان وموته خلال هذه الهزيمة النكراء. ثم غنّاها فيما بعد الشاعر النبيل ألفريد دي فينيي في قصيدة شهيرة عنوانها «البوق» Le Cor عام 1825، عندما كان ضابطًا في الجيش الفرنسي.

4 - ليس في الشعر العربي ملاحم، وفق التعاريف السابق ذكرها، لكن هناك مظاهر ملحمية عند بعض الشعراء الفحول، ومنهم عنترة بن شداد، وقد ذكر الباحث بعض أبياته الشعرية، ولدى أبي تمام في وصف معركة زبطرة التي قام بها الخليفة العباسي المعتصم بالله، لنصرة امرأة هاشمية قالت: وامعتصماه، فقال: لبيك.

وقد ذكر ذلك أبو تمام في قصيدته العصماء «السيف أصدق أنباء من الكتب» وكذلك لدى الشاعر البحتري في وصفه لمعارك الثغور مع البيزنطيين التي قام بها أسد الثغور أبو سعيد محمد الثغري في زمن الخليفة العباسي المعتصم، كله، وولده يوسف بن محمد الثغري في زمن المتوكل.

ثم في قصائد أبي الطيب المتنبي في وصف معارك سيف الدولة الحمداني مع الغزاة البيزنطيين في القرن الرابع الهجري، خاصة قصيدته عن الحدث الحمراء، وهي معارك ترفع الجبين العربي شممًا وشموخًا. لكنها ليست ملحمة كالإلياذة والأوديسة لهوميروس.

5 - أما السيرة الشعبية التي تستحق لقب إلياذة العرب وفق التعاريف السابقة، فهي سيرة بني هلال وتغريبتهم إلى المغرب العربي عام 440 هجرية الموافق عام 1043 ميلادية. وقد حدث ذلك بناء على تكليف من الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (1030 - 1094م) بغية محاربة والي القيروان في تونس المعزّ بن باديس الذي تنكّر لمولاه وللخلافة الفاطمية وحارب وقتل دعاتها، ثم أعلن الولاء للعباسيين مدعومًا بقبائل البربر: صنهاجة وزناتة ومدرار وغيرها، وهي شديدة الشكيمة، كثيرة الشجاعة والصمود.

وبسبب بعد المسافة عن القاهرة واتساع الصحراء، أرسل الخليفة المستنصر قبائل بني هلال برئاسة الأمير حسن بن سرحان الهلالي، وزوّدهم بالمال والسلاح والخيول والجمال، بناء على نصيحة وزيره محمد الحسن بن علي البازوري، وكتب لهم ولاية إفريقيا، من القيروان حتى نهاية المغرب العربي الأقصى.

وقد انتصرت القبائل الهلالية على جميع ملوك البربر، خاصة وزير تلمسان - تونس في السيرة، أبي سعدي الزناتي، واشتهر من الأبطال الهلايين أبو زيد الهلالي، ودياب بن غانم، وكان من نتائج هذه التغريبة كما يرى ابن خلدون وغيره من المؤرخين أن ازدادت نسبة العرب على البربر كثيرًا، وبقيت اللغة العربية، لغة القرآن ترفرف في سماء المغرب الإفريقي خفاقة.

ولا مجال هنا لدراسة العناصر الملحمية في هذه السيرة الشائعة وفق التعريفات السابقة، لكنني أنصح الباحث الدكتور قاسم أن يقرأها وسيصل إلى القناعة السابق ذكرها.

ختامًا، أقول إن الأخطاء التاريخية الواردة في الدراسة، حدثت لأن المؤلف اعتمد على ذاكرته، والذاكرة نسّاءة، ولاشك، وهو الأكاديمي، لو راجع المصادر، لما وقع فيها.

عبدالكريم إبراهيم قميرة
طرطوس - حارة البرانية - سورية