نجيب محفوظ و 10 سنوات من نوبل: قراءة في سيرته وشهادة نادرة لحرب تحرير الكويت

نجيب محفوظ و 10 سنوات من نوبل: قراءة في سيرته وشهادة نادرة لحرب تحرير الكويت

حديث الشهر

لأن نجيب محفوظ لا يريد أن يكتب سيرته الذاتية فقد أفرغ شحنات قلبه وعقله في هذا الكتاب المهم.

من منا لا يعرف نجيب محفوظ, ومن منا لم يشاهد أعماله التي تعرض في السينما والتلفزيون ومن منا لا يعرف شخصياته التي أبدعها فتحولت من دنيا الكلام إلى عالم الواقع أمثال شخصية أحمد عبدالجواد, أو سي السيد كما كانت تناديه زوجته المكسورة في الثلاثية المشهورة, أو العالمة زنوبة أو سعيد مهران في "اللص والكلاب" أو سنية عمران في "الطريق" ? الحقيقة أن من يريد أن يعرف أحوال مصر في القرن العشرين, لابد من أن يطالع أعمال نجيب محفوظ.

لذلك فإن كتابا جديدا عن هذه الشخصية الأدبية العربية الفذة لابد أن يفرض نفسه على الإنسان المتابع خاصة ان كان هذا الكتاب يتميز بثلاث ميزات, الشخصية التي يدور حولها الكتاب, وهو الفنان نجيب محفوظ, والثانية مؤلف الكتاب الناقد رجاء النقاش, ذو القلم السلس والفكر النير الباحث المدقق, وهو أستاذ في فنه النقدي, له مدرسة تتصف بالموضوعية والذوق والحدس وهي صفات يجب ألا يفتقدها أي ناقد مبدع, أما الميزة الثالثة فهي أن الكتاب يكشف برضا محفوظ نفسه خبايا حياة أدبية غنية, وصراحة شاهد الأجيال.

لبعض هذه الأسـباب أقبلـت على قراءة ثبت في نهايتها أنها ممتعة حقا لهذا الكتاب الذي أخذ عنوانا بسيطا وواضحا: "نجيب محفوظ, صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته". "1"

ولا أعتقد أن أحداً في جيلنا لا يعرف نجيب محفوظ, بعضنا يعرفه من خلال أدبه, وبعضنا يعرفه لأنه استمتع ببعض ما قدم له من أدب على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة, وبعضنا يعرفه لأنه انتمى ـ أو هكذا قيل ـ لدعوة سياسية, خاصة إبان صعود الناصرية في مصر وتأثيرها العربي الفياض.

لقد استطاع رجاء النقاش أن يأخذ القارئ في رحلة ممتعة من خلال أربعة وعشرين فصلا هي مجمل فصول هذا الكتاب, سرد لنا فيها بالتفاصيل المشوقة, رحلة حياة غنية وإنسانية دون تهويل أو تهوين, قصة حياة شخص, ولكنها أيضا قصة حياة جيل, ليس مصريا فقط, ولكن عربيا أيضا ,حمل آمال وآلام مجتمع يحاول الانفتاح على الآخر فيرى عيوبه ونواقصه فينقدها, ويرى أيضا إيجابياته وإمكاناته فيتمنى أن يتبناها. لقد قدم لنا الكتاب نظرة بانورامية من الداخل بعيني رجل له بصيرة نافذة في فهم ما حوله دون ادعاء أو تشنج ويملك آليات القدرة على الرصد, وربما كان من حسن حظ الثقافة العربية أن عاش هذا الرجل الراصد في فترة تحولات كبرى, فقد ولد في سنة 1191 ميلادية ـ مد الله في عمره ـ ونضج مع أحداث ما بعد الحرب العالمية الأولى, وشاهد كيافع ومدرك أحداث الحرب العالمية الثانية, تم امتد به العمر ليرى التحولات الجذرية في بلده مصر وما حولها, وهي أحداث جسام, دانت لها أعناق رجال, واشرأبت أعناق رجال آخرين, غر بعضهم السلطان فشهدناهم في سلطانهم عاتين, وفي انزوائهم مستصغرين. ظهرت دول واختفت أخرى, كما اختفت طبقات وصعدت طبقات وسبحان من له الدوام فعرف الحياة من زاوية المراقب النشط, كيف تعطي وتأخذ, تجود وتحرم, تعز وتذل.

الكتاب الذي بين يدينا ليس هو الكتاب الأول الذي يكتب عن حياة نجيب محفوظ, فقد ألف حول حياته وأعماله الكثير ولرجاء النقاش نفسه فصول مطولة عن أدب نجيب محفوظ, ولكنه الكتاب الأول الذي ـ في تقديري ـ أفاض فيه نجيب محفوظ نفسه عن حياته وسيرته ربما بقليل جدا من التحفظ, وهو بذلك يرفع الستار قليلا عن سيرة حياته الموحدة التي لا يروي منها إلا شذرات مخفية في كل عمل أدبي, ولقد ذكر لنا المؤلف أن هذا الكتاب هو نتيجة تسجيلات دامت لمدة خمسين ساعة كاملة, تم معظمها في مقهى صغير مطل على ميدان التحرير في وسط القاهرة بين سنتي 09 و19 وقد أخذت من الكاتب وقتا طويلا لإنجازها, فصدر في 8991 ولكن الكاتب كان له طموح كبير كما قال فقد أراد أن يقرن هذه السيرة الحياتية الغنية بأعمال نجيب محفوظ الفنية, ولكنه لم يستطع, حيث أشار: "لقد علمتني تجارب الحياة أننا مهما حاولنا إخضاع الأمور للتخطيط والعقل والمنطق, فسوف تظل هناك مساحة مهمة للأقدار تتصرف فيها وحدها بغير شريك, وتختار لنا الزمان والمكان لتحقيق ما نحلم به ونفكر فيه".

بعد قراءتي للكتاب وجدت أن المؤلف قد أحسن فعلا إذ لم يؤخر المادة عنده كي يقارنها بأعمال الكاتب الكبير, فهي بحد ذاتها كنز من المعلومات, وربما تأتي مهمة ناقد آخر للمقارنة في القادم من الأيام.

التكوين الأول

ولد نجيب محفوظ في حي شعبي في القاهرة, التي كانت في مرحلة تكوينه الأولى مثلها مثل مدن عربية أخرى تضج بعناصر التغيير, سواء كان ذلك سياسيا أو اجتماعيا, وعندما تقرأ مرئيات نجيب محفوظ في سنواته الأولى وعلاقته بالمكان والناس, لا تستبعد أن هذه المشاعر طافت بعقول رجال آخرين في مدن عربية أخرى, بعيدة أو قريبة من القاهرة, فالعلاقات الأسرية هي هي, والتحولات الاجتماعية هي هي في كثير من المدن العربية, لذلك فان قصة النشأة لا تختلف إلا في التفاصيل, نجيب محفوظ إذن هو ابن المدينة العربية التي تعتبر القاهرة أمها, فمن حي الحسين الذي بقي في الذاكرة المحفوظية حتى اليوم, إلى العباسية الحي الناشئ وقتها الذي انتقلت إليه الأسرة, تشعر بأنه قد تعلق بالمكان, وهي خاصية ليست له وحده, بل تكاد تكون في مجتمعنا العربي عامة مع أبناء دول النهر, وهي مختلفة عن دول الجبل أو أبناء الصحراء.

لذلك فان المدينة ـ والقاهرة بالذات ـ هي محور كل أعمال نجيب محفوظ, وقد قال النقاد اكثر من مرة إن الرواية هي فن المدينة, ولم يكتب محفوظ عن الإسكندرية, المدينة التي عرفها بعد ذلك ,الا في مرحلة لاحقة من حياته, ولكنه لم يكتب عن الصعيد المصري مثلا ولا عن الفلاح المصري, وإن كان قد كتب عن النيل هذا النهر العظيم مصدر حياة المصريين, وسبب من أسباب أخلاقهم في التكاتف والتسامح والاستيعاب الإنساني يقول عن النيل "في الأوقات التي كنت أجلس فيها بمفردي على شاطىء النيل, كنت أشعر وكأن هناك علاقة حب ومودة تربطني بالنيل, فأناجيه وأتحاور معه كأنه شخص آخر, أحيانا كنت أحدق فيه ولا أشبع من النظر إليه" ولهذا الحب خصص عدداً من رواياته عن النيل أو أنها تحدث فوق موجه وتحت قمره وقد قال في اكثر من تصريح له انه عندما كان يفكر في السكن لم يفكر أبدا أنه يمكن أن يعيش بعيدا عن النيل, وايضا دون أن يغادر مدينته المحببة اليه القاهرة.

النيل يرتبط بالارتواء, وهو رمز معادل لصورة الأم التي تمثل المصدر الأول للارتواء النفسي والعاطفي, خاصة مع انشغال الأب, لذلك فإن الظاهر من سيرة حياة كاتبنا ان والدته قد لعبت الدور الاساسي في تكوينه الاول, فهي كما يقول سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب ـ ربما مثل كل الامهات في جيله وما بعده, ولكنه يقول "كنت أعتبرها مخزنا للثقافة الشعبية.. كانت دائمة التردد على المتحف المصري وتحب قضاء أغلب الوقت في حجرة المومياوات, لا أعرف السبب لذلك ولا أجد له تفسيرا.. كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية, ومن كثرة ترددها على الدير نشأت صداقة بينها وبين الراهبات.. كانت تعشق سيدنا الحسين وتتردد عليه ـ على ضريحه ـ باستمرار, كانت تتردد عليه يوميا حتى عندما غادرنا الحي الذي نسكن "الحسين".. وفي كل المرات التي رافقتها فيها لزيارة سيدنا الحسين كانت تطلب مني قراءة الفاتحة عندما ندخل المسجد وأن أقبل الضريح, وكانت هذه الاشياء تبعث في نفسي معاني الرهبة والخشوع" يعلق نجيب محفوظ على تصرفات والدته بقوله: "عندما كنت أسألها عن حبها للحسين وماري جرجس في نفس الوقت كانت تقول: كلهم بركة.. والحقيقة انني تأثرت بهذا التسامح الجميل لان الشعب المصري لم يعرف التعصب وهذه هي روح الإسلام الحقيقية", ولا يكتفي نجيب محفوظ بالطابع الإنساني والثقافي الشعبي لوالدته, بل ويعطيها دورا سياسيا أيضا "فقد وضعت أمي بصمتها على التوكيل الشعبي لسعد زغلول للمطالبة نيابة عن الأمة بالاستقلال".

وقد تحدث نجيب محفوظ عن والده بصورة اقل, ربما لانه لم يتعايش معه مباشرة لانشغاله بعمله, ولوفاته مبكرا في عام 7391 "قرأ بعض القصص لي.. ولم يطلع على أولى رواياتي" ولكنه ينبئنا عن بعض سلوكياته "حيث يعود إلى البيت كل يوم بعد انتهاء العمل, ويمضي وقته في الصلاة وقراءة القرآن, وكانت له قدرة غريبة على الجلوس في حالة صمت تام لساعات طويلة" "2".

لعل أحد مفاتيح شخصية نجيب محفوظ انه الابن الأصغر في عائلته, والطفل الأصغر كما اكدت بعض دراسات في مجال علم النفس التربوي, له الحظ في القدرة على النبوغ أكثر من بقية الإخوان والأخوات الأكبر سنا, ولو أحصينا المشاهير في السياسة والرياضة والأدب, لوجدنا الكثيرين منهم الأبناء الأصغر في العائلة, يقول: "كان لي شقيقان وأربع أخوات, ومع ذلك نشأت وكأني وحيد أبويه" ويكمل في موضع آخر عند الحديث عن طفولته: "كانت المنطقة التي عشنا فيها في حي "الجمالية" أشبه ببيت جحا, شوارعها معقدة وضيقة, لذلك كانت والدتي تحرص على بقائي في البيت خشية أن تفقدني, فقد كان مألوفا في ذلك الوقت أن تسمع صوت المنادي يبحث عن طفل ضائع" المنظر ذاته يتكرر في مناطق مختلفة من المدن العربية الأخرى, طفل ضائع أو بهيمة مفقودة إنها مهمة المنادي التي سطت عليها الجرائد والتلفزيون اليوم.

الوظيفة والمقهى والحارة

عالم نجيب محفوظ الروائي كما يقول يدور في إطار محدد يبدو ضيقا بشكل مدهش فمصادره هي "الوظيفة والمقهى والحارة" هذه المصادر الثلاثة هي منابع عالم محفوظ الروائي, الوظيفة عرفت كاتبنا عن قرب بنماذج بشرية عديدة, بل إن العديد من الروايات كانت تدور حول الوظيفة والموظف وقد شرب نجيب تجربة البيروقراطية الحكومية المصرية كلها من موظف صغير إلى رئيس لمجلس الإدارة ولم يعرف طعم التفرغ ككاتب إلا متأخراً جدا, لقد كره الوظيفة ولكنه لم يجد سبيلا آخر غيرها "فلقد اخذت الوظيفة نصف يومي لمدة سبع وثلاثين سنة, وفي هذا ظلم كبير" كما يقول.

لقد اكتشف القليل من أدباء مصر اهمية الاستغناء عن الوظيفة الحكومية, منهم توفيق الحكيم وعباس محمود العقاد اللذان كانا من هذا الاستثناء ويشير محفوظ إلى الأخير بقوله "وأصبح ـ أي عباس ـ عظيما ومرموقا بلا وظيفة او مكانة بيروقراطية.. وكان أي وزير يتجنب هجوم العقاد عليه لسطوته ونفوذه بين الناس, فهم العقاد أن مصر بلد وظائف.."!!

يروي لنا محفوظ إحدى قصصه المحبطة مع الوظيفة, ويصفها بأنها "من أشد المواقف التي صادفته حرجا" فقد أخبر عن تعيينه في الدرجة الرابعة, وبشر أصدقاءه وأهله بذلك الخبر السعيد, الذي وقع عليه الوزير المختص, ولكن وكيل الوزارة ـ وهو قريب الوزير ـ مزق الكشف, ووضع كشفا آخر استبدل به اسم شخص مرضي عنه بدلا من نجيب, والعجيب أن محفوظ يشير إلى ما يعتقده أهم عوائق الوظيفة ولا يسميه تزلفا أو محاباة ولكنه يقول "كما اصطدمت في الوظيفة بأشياء كثيرة مثل الشذوذ الجنسي بين الموظفين, وهو ما أتاح للبعض الحصول على وظائف كبيرة لا لشيء إلا بسبب ممارسة الشذوذ مع كبار الموظفين"!

كما كان العمل بالأدب والكتابة مدعاة لتفويت الفرص الوظيفية "فقد نصحني كامل كيلاني "3" وقد عمل معنا في وزارة الأوقاف بضرورة ألا يعرف أحد أنني أديب" فقد "حمل له الموظفون كراهية شديدة بسبب منزلته الأدبية".

وقد أعطى عالم الوظيفة والموظفين لنجيب محفوظ بقدر ما أخذ منه, فقد أخذ منه الوقت, وأعطاه التعرف على نماذج بشرية التقطها ببصيرته الفذة وخياله الروائي فحولها إلى نماذج ناطقة.

وإذا كانت الوظيفة قد أخذت منه نصف يومه الوظيفي لمدة سبع وثلاثين سنة, فقد أخذ المقهى ربما أكثر من ذلك بكثير, فحتى عندما ترك الوظيفة الحكومية ظل يرتاد المقهى, وفي حياة نجيب محفوظ أكثر من مقهى, من قهوة الفيشاوي في الحسين إلى علي بابا في ميدان التحرير, مرورا بقهوة عرابي, ومقهى ريش, وكازينو أوبرا, وهناك في المقهى يقابل الأصدقاء, ويشرب القهوة ويتأمل سلوكيات الناس وتصرفاتهم من حوله.

أما الحارة الشعبية فهي التي لم تغادر وعيه, لقد ثبتها في أعماله الكثيرة, ويعود إليها حتى اليوم بحنين غامر, الحارة هي المجتمع الذي تدور فيه أحداثه الروائية التي يتخيلها نجيب ثم يضعها على الورق, إنها الحياة بنبضها وإيقاعها الإنساني.

الغناء والشعر والرواية

لا يعرف إلا قليلون أن نجيب محفوظ ذو صوت جميل, وكان يغني في صغره, كان يغني من نافذة بيته ليطرب "الشماع" المسئول عن فتح حنفية المياه وتسكيرها في وسط الحارة التي كان يطل بيت نجيب عليها في الجمالية, كما قرض صاحبنا الشعر "في تلك الأيام كان أمامي طريق ممهد هو طريق الشعر, كنت أحب الشعر وكتبته, وكان في إمكاني الاستمرار فيه خاصة أن الشعر له تراث عريق في الأدب العربي" ولكنه بعد صراع مع النفس اختار طريق الرواية, ويفسر ذلك بقوله "إن الأدب العربي كان يفتقر إلى فن الرواية بشدة, وكان التراث الروائي ـ حتى ذلك الوقت ـ محدوداً للغاية, والأعمال الموجودة هي أقرب إلى فن السيرة الذاتية, وكان هذا الطريق يقتضي مني قراءات واسعة في الأدب العربي والعالمي على حد سواء".

وحتى استقراره على فن الرواية لم يكن قد نضج, فالأعمال الأولى كانت روايات تاريخية, متأثرا ببعض الكتابات الأجنبية والعربية خاصة الكاتب جرجي زيدان: "وعندما بدأت قراءاتي تتسع وتتعمق خاصة في الأدب الحديث قل حماسي للكتابة التاريخية, بل مات, بعد أن أدركت أن الرواية يمكن أن يكون لها دور مؤثر في معالجة قضايا المجتمع والتعبير عن هموم الناس ومشكلاتهم ومن هنا اتجهت للرواية الواقعية".

لعل الواقعية بدأت مع أعمال نجيب محفوظ بعد صمت طويل نسبيا, في سنوات الفوران في مصر قبيل الثورة المصرية وبعدها بقليل, لم يكن محفوظ قد تكلم بعد, وكان العمل الأول بعد سنوات الانقطاع وبعد الثورة هي رواية أولاد حارتنا, والتي أحدثت جدلا كبيرا فيما بعد وربما مازالت تفعل "في كتاباتي أعتني بالجزء المادي أعطيه حقه في الواقعي, وربما بسبب هذا حدثت مشكلة رواية أولا حارتنا, ولو كنت معنيا بالرمز وحده لكنت غيرت من رسم شخصيات هذه الرواية إلى شخصيات نظيفة في المظهر والسلوك.." ويعود في موقف آخر للرواية نفسها فيقول: "ان المذاهب الأدبية لم تجذبني لذاتها, ويظل المذهب الفني بالنسبة لي مجرد أداة..".

السياسة والحياة

على الرغم من أن بعض من كتب سابقا عن أعمال نجيب محفوظ الروائية ناقدا, خاصة في فترة الستينيات والسبعينيات ألصق به صفة "المنتمي" وهي تعني في تلك الفترة, انه منتم إلى الفكر والتطبيق الاشتراكي كما طرحته الناصرية.

أما تصنيف نفسه سياسيا فيقول إنه لم ينتم إلى تيار سياسي "من أجل الأدب ابتعدت عن العمل السياسي, فلم أنضم إلى حزب أو تيار سياسي لا قبل الثورة ولا بعدها, لقد كنت من أنصار حزب الوفد, بل من عشاقه, وكانت وفديتي مصدرها الرئيسي هو الشارع..", لقد كانت أعمال نجيب محفوظ قبل ثورة الثالث والعشرين من يوليو حاضة على التغيير, وعندما بدأ التغيير تريث فترة استمرت خمس سنوات قبل أن يعاود الكتابة الإبداعية مرة أخرى, وعندما عاد إليها برر هذا التغيير الذي يراه أمامه وبارك فنيا الكثير من خطواته, فأصبح بذلك أحد المبشرين بالعصر الجديد "فقد أعلنت عن تأييدي وقتها للكثير من القرارات ـ التي اتخذتها الثورة ـ التي ظننت وقت ذاك أنها سليمة".

وبدأت خطوات الفراق بين نجيب وبين نتائج أعمال الثورة المصرية بعد هزيمة يونيو 7691 ثم اتسعت بعد ذلك, لهذا فإن إشارته بالقول "إنه في مقابل الحرية التي تمتع به الفن في العهد الناصري, تعرض الفكر لتضييق شديد, ذلك أن الفكر لا يعرف الرمز أو الالتفاف أو التحايل الموجود في الفن" قد يكون ذلك مبررا لنفي صفة "الانتماء" التي ألصقت بالكاتب في الفترة الأولى من الحكم الناصري, حيث إن من الصعب فنيا, وواقعيا الفصل بين مقاصد الكاتب فيما يريد أن يذهب إليه في عمله الفني وبين قراءة الجمهور لهذا العمل, واستنباط القارئ لايماءات العمل وإسقاطاته, ولقد ظهر من سرد الكتاب الذي بين يدينا أن محفوظ لم يكن يقصد كما قال للكثير مما فسرت به أعماله, ولكن إشارته للرمز تكفي لتبرير تلك التفسيرات التي ذهب إليها آخرون, وإن لم تقبل على علاتها, وتعني أيضا وعيه باستخدام هذا التكنيك في أعماله, بل بمقاصده المباشرة بعد انتهاء فترة عبدالناصر بدليل حديثه عن رواية الكرنك التي "وردت إلى ذهني فكرتها وأنا أستمع إلى أصدقاء مقهى "ريش" وهم يقصون علي ما لاقوه من صـنوف التـعـذيب أثناء فترة اعتقالهم", وكان ذلك في سنة 27, ولكنه يعترف في مكان آخر بقوله "أستطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير أنني قلت كل ما أريد قوله في أعمالي الروائية, وعـبرت عن كل آرائي خلال فترة حكم عبدالناصر, والرأي الذي لم أسـتطع المجاهرة به أوصلته للناس عن طريق الرمز".

روايته التي أحدثت كل تلك الضجة الأولى بعد الثورة, وهي رواية أولاد حارتنا, يفسر نجيب ان تلك الضجة بدأت بعمود نشر في صحيفة "الجمهورية" القاهرية, لفت كاتب العمود الأنظار لما بين أحداث الرواية وبين سيرة الأنبياء من تشابه. ولعلنا نلاحظ أنه لحرص نجيب محفوظ على عدم الاصطدام بالعهد الجديد لم تناقش الرواية الجديدة كما في الأعمال السابقة مشكلات اجتماعية مباشرة "بل هي أقرب إلى النظرة الكونية الإنسانية العامة" كما قال, ومتروك بالطبع للمفسرين والنقاد فهم هذا العمل الإبداعي, ولقد عرفنا من أكثر من عمل تاريخي إبداعي أن التفسيرات قد تختلف حتى باختلاف العصور, إلا أن البعد الإنساني الذي نعرفه ربما ليس للمرة الأولى هو الغيرة الطبيعية من الكاتب من بعض جنسه, حيث إن أغلب العرائض الاحتجاجية التي أرسلت للنيابة العامة تشكو نجيب محفوظ بسبب هذه الرواية "أرسلها أدباء", وهو بعد إنساني لا يستطيع من قرأ الكتاب تجاوز معانيه, ولعلي أستعير هنا المثل المصري الذي يقول "عدوك ابن كارك" ـ والكار هنا هو العمل, أو المثل العربي الذي يقول "عدو المرء من يعمل عمله", ولقد عادت من جديد قضية أولاد حارتنا إلى الصدارة بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل, وهاجم العديد من الكتاب نجيب محفوظ وقتها وادعوا أنه حصل على الجائزة الدولية بسبب ما أعلنه عن رضائه عن معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل, وهو تفسير قاصر فسره محمود السعدني بأنه فقدان الثقة بالنفس, حيث إن لسان حال هؤلاء يكاد يقول إنه لا يحصل على الجائزة العالمية إلا الجواسيس والعملاء, وهو إنكار غير مبرر لكفاءة وإبداع المبدع العربي الكبير نجيب محفوظ بجانب أنه جزء من التفكير في نظرية المؤامرة العاجزة.

ولكن نجيب يعود إلى "الإخوة الأعداء" بعد موقف سياسي آخر عندما أقنعه توفيق الحكيم بتوقيع عريضة مع مثقفين وكتاب مصريين آخرين يعترضون فيها على حالة اللا سلم واللا حرب في بداية السبعينيات, إبان حكم السادات, ومنع موقعوها بعد ذلك من الكتابة في الصحف, ومنعت الأفلام المأخوذة من روايات وقصص نجيب محفوظ من العرض في التلفزيون "أما العقاب الذي كان أشد إيلاما في نفسي, فهو ذلك الهجوم الجارح الذي شنه علي كتاب كنت أعتبرهم من الأصدقاء".

نجيب محفوظ والعدوان على الكويت

يعرف نجيب محفوظ بين أصدقائه بأنه غير ذي باع طويل في السياسة, وهي مقولة يقصدها الأصدقاء والمحبون عنوة من قبيل التخفيف عن الهفوات السياسية التي قد يقع فيها كاتب كبير مثل محفوظ في الجو السياسي الذي غالبا ما يكون عرضة للتغير السريع, ولقد استحسن محفوظ هذا الأمر إلى درجة التأكيد عليه في أكثر من مناسبة, وهو نوع من "التقية" إن صح التعبير أولا لحفظ موقعه في التاريخ الأدبي والفني, فالسياسي عادة ما تكون آراؤه قابلة للنقد القاسي مهما وفق في رؤاه في وقت ما, والثاني يتيح له القول في الحاضر ما لا يستطيع أحد تفسيره مباشرة إلى واقع سياسي معين, حتى يبعد نفسه عن المسألة الشخصية المباشرة, وفي كلتا الحالين فهو موقف مطلوب في أجواء سياسية يتهاوى سريعا هامش الحريات لديها تحت أي ضغط, رغم كل ذلك فلنجيب محفوظ رؤية استراتيجية تلتمع في مواقف تاريخية, وأذكر شخصيا عندما زرته بين كتاب وأدباء آخرين في الأهرام سنة 8891 بمناسبة فوزه الكبير بجائزة نوبل العالمية, وكان بين الحضور كتاب عرب عديدون على الرغم من الموقف السياسي الذي واكب الجائزة, وكان العرب وقتها تحت تيار المقاطعة لمصـر, أنه قال بعد الترحيب ما معناه ان ما ينقصنا كعرب هو تعددية عقلانية, ولعله يشير إلى مرحلة ذهبية في تاريخ مصر السياسي لا يخفيها وهي حكم الدستور وحزب الأغلبية وقتها الوفد.

ويفرد الكتاب فصلا كاملا لرأي نجيب محفوظ في تلك الأزمة التي زلزلت أركان الأمة العربية. وأعني بها الاحتلال العراقي للكويت ويبدو هذا بعيدا عن السياق العام للكتاب للوهلة الأولى, ولكن إذا أدركنا أن فترة إعداد الكتاب كانت بين عامي 0991 و1991 تلك الأيام المشحونة بكل تفاعلات هذه الأزمة لعرفنا أن ذلك طبيعي جدا بل إن هذا الفصل بالذات جرى إعداده بعد قيام قوات التحالف ببدء حرب تحرير الكويت في يناير 1991 بخمسة أيام. ونجيب يقدم هنا رأيا متكاملا في تلك المأساة السياسية دون أن يفقد رؤيته للواقع العربي. وهنا لا ينحاز الا للحقيقة مؤكدا أنه ضد اعتداء أي جار عربي على جاره ويقول منذ الأيام الأولى للحرب: "لقد وقع الغزو وهو أمر مرفوض ويعتبر خرقا لميثاق الجامعة العربية والأمم المتحدة وكل المواثيق الدولية. وكنت بطبيعة الحال أؤيد انسحاب العراق وعودة الحكومة الشرعية إلى الكويت.." ويؤكد نجيب محفوظ إن فكرة الاستعانة بالقوات الأجنبية لم يكن هناك مناص منها "فهي ليست قوات أجنبية. بل قوات عالمية احتشدت بناء على قرار من مجلس الأمن ولم يكن سبب مجيء هذه القوات إلى بلادنا الكويت أو السعودية ولكن السبب كان غزو العراق للكويت واللوم يوجه لمن خلق هذه الظروف.." وهو هنا يضع النقاط فوق الحروف ويحدد الأسباب في وجه الذين داروا حولها دون أن يلمسوها بشكل مباشر, فهو يرى أن فكرة تكوين جيش عربي كانت صعبة ومثالية أكثر مما ينبغي, ولن يمكن تحقيقها إلا بعد أن يكون العراق قد اجتاح باقي البلاد الخليجية أيضا.

وبنظرته الثاقبة يرى العنصر الإيجابي وراء حرب تحرير الكويت إنها مرارة التجربة التي تجعل كل حاكم عربي لا يفكر في العدوان على أي جار عربي له. لقد كان الثمن قاسيا كذلك فإن الدول الخليجية سوف تعيد حساباتها من أجل مساعدة الدول العربية الفقيرة وهو يعترف بالدور الكويتي الرائد في هذا المجال "ساهم صندوق التنمية الكويتي مساهمة فعالة في حركة التنمية في عدد كبير من الدول العربية والنامية بشكل عام". وفي نظرته إلى صدام حسين كحاكم فرد ينفي وجود أي شبه بينه وبين إحدى شخصيات الفتوات في روايته "الحرافيش" وهو شخصية عاشور الناجي الذي حاول أن يحقق العدل بينما كان الطمع هو الذي حرك صدام حسين فلم يكتف ببلده ليدمرها بل امتدت انظاره إلى جيرانه.

إن نجيب محفوظ بحسه الصادق يضع يده على جذور المأساة العربية التي "فرقتهم أيدي سبا" وهو لا يتردد في التمييز بين الضحية والجلاد فالروائي الواعي لا يكتب إلا عن وعي شديد بالواقع.

لم أتطرق عامدا إلا لبعض ما جاء في هذا الكتاب الوثيقة, ومن الكتاب العرب الذين كتبوا سيرتهم بشكل مباشر أو غير مباشر من أمثال طه حسين في "الأيام" أو توفيق الحكيم في "زهرة العمر" أو احسان عباس في "غربة الراعي" وغيرهما, يبقى هذا الكتاب نموذجا لمن يريد ان يعرف كيف يفكر نجيب محفوظ وقد أمد الله في عمره, وأغنى تاريخ الأدب العربي المعاصر بروائع من فن هو بكل المعايير حديث على الأدب العربي وأعني به فن الرواية التي ازدهرت وأينعت بعد ولوج الرواد الأوائل لميدانها, ومن بينهم عن حق نجيب محفوظ, وسيأتي قراء آخرون ليغرفوا من هذا الكتاب ومن الروايات نفسها التي أبدعها الكثير من العبر والدروس, ويتعرفوا على مجتمع وأحوال بلد ناقشها هذا المؤلف والروائي الكبير بالتلميح تارة وبالتصريح تارة أخرى.

ومن يرد الاستزادة فما عليه إلا قراءة هذا الكتاب.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





رجاء النقاش