على هامش الاتفاق الأخير: هل يصمد السلام في إيرلاندا الشمالية

على هامش الاتفاق الأخير: هل يصمد السلام في إيرلاندا الشمالية

وعلى الرغم من ان اتفاقية السلام الاخيرة هشة في أساسها ومعقدة في فحواها, فان جميع الاطراف المتخاصمة قد وافقت عليها سواء الحكومتان البريطانية والايرلندية, أو غالبية الأحزاب السياسية في شمال ايرلندا وجنوبها, ولم يعترض عليها إلا أقلية من الرافضين ذوي العلاقة بالمليشات المتحاربة, إلا أن الاحزاب البرلمانية البروتستانتية أبدت استعدادها للعمل على انجاحها بما فيها حزب "شين فين" وهو الجناح السياسي للجيش الجمهوري الإيرلندي. "وهو يمثل أقلية من الكاثوليك فيما يمثل الأغلبية حزب العمل الديمقراطي الاجتماعي".

ومن المفيد بالنسبة للقارئ العربي أن يتم وضع هذا الصراع في الإطار الزمني لتاريخ الشرق الأوسط, فقد كان هذا الصراع مستمرا, باشكال عدة بين الفرقاء, منذ أيام صلاح الدين الأيوبي والدولة العباسية. ومن المهم أيضا تصحيح مفهوم شائع ولكنه مغلوط. فالكثير من الناس يعتبرون أن الصراع الايرلندي مجرد نزاع مناهض للاستعمار بين القوميين الايرلنديين والإمبرياليين البريطانيين, ورغم أن هذا هو الشكل العام الذي اتخذه النزاع, حتى إعلان استقلال الجنوب الإيرلندي "جمهورية إيرلندا اليوم" في عام 1922, فإن النزاع في إيرلندا الشمالية الذي تفجر في أواخر الستينيات لم يكن مجرد نزاع مناهض للاستعمار بل صراع ثلاثي الأطراف لم ينشب فيه العداء الدموي بين الشعب الإيرلندي ككل والجيش البريطاني, بل بين مجموعتين من الإيرلنديين أنفسهم: الغالبية من البروتستانت في الشمال والأقلية الكاثوليكية. "يسمى البروتستانت الاقليم "ألستر" ويسميه الكاثوليك "إيرلندا الشمالية".

والأكثر من ذلك أنه حتى بين الكاثوليك ونسبتهم "40% من الشمال", فإن الغالبية منهم ليست منضوية تحت جناح حزب "شين فين", الذي نظم حرب العصابات المناهضة للنفوذ البريطاني, بل تناصر حزب العمل الديمقراطي الاجتماعي, الذي يؤيد العمل السياسي الدستوري وليس العنف, أما حزب الجيش الجمهوري الإيرلندي فيمثل نسبة مئوية لا بأس بها من الرأي العام في جمهورية إيرلندا, ربما تصل الى حوالى 15%, ولكنه يشكل جزءاً ضئيلاً داخل الأقلية الكاثوليكية في شمال إيرلندا, وهذه المنظمة التي تتبنى العنف لا تعتبر بالنسبة للسكان الإيرلنديين مثل منظمة التحرير الفلسطينية للعرب, أو حزب المؤتمر الوطني الأفريقي بالنسبة لجنوب إفريقيا, والتي هي منظمات تحرير شرعية ذات قاعدة كبيرة وتمثل مصالح شعوب مقهورة.

وفي السياق العربي فإن الصراع الإيرلندي الحديث لم يكن شبيها للصراع في فلسطين بل شبيه بذلك الصراع الذي نشب في لبنان. فهو نزاع بين مجتمعين عقائديين استغلتهما وتدخلت في أمورهما القوى الخارجية. ومع ذلك فإن المفتاح للسلام لا يرتبط باقامة العلاقات بين الشعبين الايرلندي والانجليزي. إن لندن على استعداد لان تترك ايرلندا الشمالية إذا أرادت الغالبية العظمى من السكان ذلك. وتود الغالبية الساحقة من الشعب البريطاني التخلي عن ايرلندا الشمالية التي تكلفهم 7 مليارات من الجنيهات الاسترلينية سنويا, وهي تعتبر للغالبية البريطانية مصدر متاعب. ويكمن مفتاح إحلال السلام فيها في إقامة تسوية بين الكاثوليك والبروتستانت في الشمال, وتلك الاتفاقية التي عقدت في شهر أبريل تورد احتمال وجود تلك التسوية.

وإذا أصبح من الممكن الإبقاء على الاتفاقية فإنها ستعتبر تغييرا حاسماً ليس من اجل سكان إيرلندا الشمالية البالغ عددهم أربعة ملايين نسمة, بل من أجل ستين مليونا من سكان الجزر البريطانية. وبوصفي من مواليد جمهورية إيرلندا من أم إيرلندية تنتمي إلى الحزب القومي وأب إنجليزي فقد عشت حياتي السياسية في ظل هذا النزاع القاتل.

قد تواجه الاتفاقية تحديات, بل وربما تتعثر في مسيرتها ولكن من المستحيل إفشالها كما حدث للعديد من الاتفاقيات السابقة حول القضية الإيرلندية. ومهما كانت نتائج هذه الاتفاقية فقد وضعت خطا يؤكد بشكل ما على شرعية تاريخ العداوة التي سبقتها, فعند حدوث أي خلاف في المستقبل فإن الفرقاء سيعودون إلى هذه الاتفاقية التي يعود الفضل في توقيعها إلى السياسة رفيعة المستوى في جميع أشكالها الإيجابي منها والسلبي, وإلى التبصر الواعي لتأثيرات الضجر والرعب والإرهاب الذي ينتاب المجتمعين. وإلى الضغوط الدولية المباشرة من المجتمع الأوروبي ومن الولايات المتحدة الأمريكية. إن من غير الممكن سرد القصة كاملة لهذا الإنجاز, والواقع أن الاتفاقية قد أنجزت من خلال القنوات السياسية في أفضل حالاتها, أي عن طريق الضغط والتفاوض والإغراء والصبر الطويل والتطبيق الواقعي. ومثلما قيل عن أحداث أخرى كبرى فقد جاءت النهاية هنا بتعادل أطراف النزاع.

ومصادفة توقيع هذه الاتفاقية في الجمعة الحزينة عام 1998 يستدعي إلى الذهن ثلاث مناسبات سنوية متشابكة يتردد صداها عبر التاريخ الإيرلندي, كما توحي أيضا بجدول الأعمال المنتظر في المستقبل. ومن الممكن القول إنه يمكن أن يكتب لهذه الاتفاقية النجاح إذا تجاوزت جميع النتائج السلبية لتلك الذكريات الثلاث السنوية. وأولها قبل ثلاثين عاما أي في عام 1968 الذي تميز بانتفاضة الطلاب في أنحاء العالم, فإن اعتبرنا انتفاضة الطلاب الإنجليز هادئة مقارنة بتلك الانتفاضات الفرنسية والألمانية والأمريكية والفيتنامية والفلسطينية والتشيكية, فإن الانتفاضة الطلابية الإيرلندية في عام 1968 كانت متفجرة إذ كانت مرحلة انتقال إلى تفجر مشاعر طائفية ملتهبة اتسمت بها إيرلندا الشمالية من أثر التكتيكات وشعارات حركة الحقوق المدنية الأمريكية, والتي هي عبارة عن حركة حقوق مدنية يساندها الكاثوليك وقليل من شباب البروتستانت الذين يحاربون السلوك الطائفي لإيرلندا البروتستانتية المدعومة من بريطانيا. وقد قيل عن تشوه شكل تلك الحركة وتغيره الكثير, فقد نشأت دولية بشكل رسمي تنادي بعدم اللجوء إلى الطائفية والتعصب, ثم نأت عن بداياتها التي لا تتسم بالعنف وبدأت تميل إلى الخوض في العنف الذي تميزت به اضطرابات عام 1969 والسنوات التي تلتها. فقد أصبح جدول الأعمال, الذي يتضمن الحقوق المدنية الكاملة في إيرلندا الشمالية شرعياً, في لب اتفاقية الجمعة الحزينة.

في سنة 1998 تكون قد مضت مائتا عام منذ 1798, عندما وقعت انتفاضة أخرى في إيرلندا استحثتها أحداث راديكالية في الخارج وهذه المرة كانت الأحداث هي الثورة الفرنسية التي أرسلت البحرية وقوات الجيش لمساندة المتمردين, وقد ثار البروتستانت والكاثوليك معاً في بعض المدن في ذلك العام, أما في أماكن أخرى فقد ساد العنف الطائفي, تماما كالذي حدث في لبنان فقد كان من السهل تفكيك وتشويه الحركات الاجتماعية التي كانت تعبر عن الأهداف العامة على يد التكوينات الاجتماعية المسكونة بالمخاوف الطائفية السرية. ولم تكن النتيجة لذلك في إيرلندا الهزيمة فقط ولكن زيادة الانقسام والفجوة بين البروتستانت والكاثوليك. وما يمكن حدوثه الآن نتيجة لهذه الاتفاقية الجديدة والحكم المحلي لـ "أسكتلندا" و"ويلز" التي سبقت تلك الاتفاقية بأشهر قليلة في إطار التنظيم الجديد لبريطانيا الذي قاده حزب العمال, ما يمكن أن يتم هو إقامة علاقة أكثر تعقلاً وثراء وأقل عدوانية بين إنجلترا والشكل السياسي المقترح لإيرلندا الشمالية في الاتفاقية. فبريطانيا الآن تتسم في حد ذاتها بالتغييرات الكثيرة, والتي تحدد العلاقات بين الشعوب الثلاثة في هذه الجزر. "وهي الشعوب الإيرلندية والولزية والاسكتلندية المنحدرة من الاثنية "السلتية"".

ويعتبر عيد الفصح في إيرلندا, فوق كل شيء, مناسبة لإحياء ذكرى عام 1916 وهو العام الذي هزمت فيه الثورة المسلحة ضد الوجود البريطاني في دبلن والتي مجدها الحكم الجمهوري القومي اللاحق بعد الاستقلال. كما كانت تلك الثورة نتاجا لسياق الأحداث الدولية, ومنها الحرب العالمية الأولى والوهم الذي ساد أثناءها بأن بريطانيا أصبحت واهنة لدرجة أن قيام العصيان المسلح في وسط "دبلن" قد يحقق الاستقلال الإيرلندي. وبهذا المعنى فإن الثورة الإيرلندية مشابهة بمعنى من المعاني للثورة العراقية في عام 1941.

لم تكن أحداث عام 1916 الشرط المسبق لحصول إيرلندا الجنوبية "جمهورية إيرلندا اليوم" على الاستقلال. كمثل ما بينت سنوات ما بين الحربين لكندا وإستراليا وجنوب إفريقيا في انعطاف تاريخي شمل جميع دول "الدومنيون البيضاء" التابعة للإمبراطورية البريطانية التي تحركت في اتجاه التحرر. إن الصفقة التي عقدت قبل 1914 قللت من احتمال حصول إيرلندا على حكم ذاتي. إلا أن احداث عام 1916 خلقت منها أسطورة خرافية في ذهن القوميين الإيرلنديين في وقت لاحق وأرجع إليها الفضل في استقلال إيرلندا وهو فضل لمن لا حق لهم في المطالبة به وهم المتمردون المناهضون للديمقراطية والعسكريون داخل الحركة القومية الإيرلندية. وقد ظلت الحركة القومية الإيرلندية سجينة لتلك الحادثة أو هذا الوهم منذ ذلك الوقت, الذي كانت نتيجته تفضيل قعقعة السلاح على ما تفرزه صناديق الاقتراع كرمز للشرعية.

لم يكن الجمهوريون الإيرلنديون وحتى يومنا هذا يكنون أي احترام للديمقراطية, فقد صادق البرلمان المنتخب للجنوب على انفصال إيرلندا الشمالية عام 1922 كما صادق عليها لاحقاً جمهور الناخبين الجنوبي, غير أن هذا الأمر لم تكن له أهمية تذكر لدى شباب جيش الحزب الجمهوري "الشين فين". فقد كان المحك بالنسبة لهم في اتفاقية "ستورمونت" هو ما إذا كانوا على استعداد الآن لقبول قيود اللعبة الديموقراطية أم لا.

كما قد ينظر إلى اتفاقية الجمعة الحزينة ليس في السياق الإيرلندي فقط, بل وفي السياق الدولي الأوسع. وقد لعبت تلك العوامل الدولية دوراً مهماً في تغيير المواقف في إيرلندا. فزيادة الثقة في الجمهورية الإيرلندية والازدهار الاقتصادي الذي ساد فيها يدينان بالفضل الكثير للدور الذي تلعبه إيرلندا في أوربا ليس كمتلقية للمنح السخية فقط, بل أيضا كقبول بالمرجعية الأوربية التي تخفف أو تزيل الهواجس مع إنجلترا.

وما يعرف اليوم باسم "النمر السلتي" قد يواجه وبسهولة أكثر مضطهده السابق المقابل له على الشاطئ الآخر من البحر الإيرلندي, كما فعل "بيرتي اهيرن" رئيس الوزراء الإيرلندي بكل شجاعة في الكف عن المطالبة غير الشرعية التي تجاوزها الزمن لإيرلندا الشمالية. لقد كان للضغط والاغراء الأمريكي دور إيجابي على الدوام, مما أعطى "جيري آدامز" زعيم حزب "شين فين" مكانة تخدم مصالحه في بلاده وأعطى كذلك "ديفيد ترمبل" الزعيم البروتستانتي الدعم المطمئن الكافي لتقديم بعض التنازلات. فقد تم مباشرة الضغط الأمريكي عليهما مشفوعاً بالحجج والإقناع معاً. كما قدمت واشنطن أفضل شخصية للمحادثات, وهي الرئيس السابق لمجلس الشيوخ السيناتور "جورج ميشيل" الرجل الذي نشأ كلبناني ماروني ويتمتع بحساسية شديدة تجاه الأطراف المتصارعة ذات التوجه الطائفي.

وفي سياق أوسع, فلعل الاتفاقية المفروضة على إيرلندا تشكل جزءا من مجموعة من الاتفاقيات أمكن توقيعها في التسعينيات, حينما زال شبح الحرب الباردة وأوهام نمو السيادة المطلقة, وانتقلنا إلى عالم يتجه إلى العولمة وأكثر تسامحاً. كما يربط المراقبون المتشائمون التسعينيات بازدياد النزاع العرقي والقومي وظهور مرحلة جديدة من انعدام الهيمنة السياسية, أما على الصعيد العالمي فهذه الحالة الإيرلندية في الوفاق لا تنطبق على كل حالات التنافر والصراع.

ومع ذلك فإن سجل اتفاقيات ما بعد عام 1989 يعتبر سجلا مختلطا, فاجراء دراسة مقارنة والاستشهاد بعمليات سلام ناجحة تتطلب مقارنة تلك الدراسة بدراسة أكثر دقة للمشكلات التي لم تلق النجاح. لقد تعثرت بعض اتفاقيات السلام في أواخر الثمانينيات والتسعينيات في كل من: نامبيا, وجنوب إفريقيا, وموزمبيق, ونيكاراغوا, والسلفادور, وكذلك الاتفاقيات بين العراق وإيران. فجميع تلك النزاعات وصلت إلى درجات شديدة من الدموية والشهرة الدولية لم تألفها إيرلندا الشمالية. وما يؤسف له عدم توصل بعض النزاعات إلى حلول, ومثال ذلك أن السلام لم يسد بعد في أفغانستان, كما أن هناك بصيصا من أمل بعيد في السلام في "أنغولا" بينما استمرت بعض الاتفاقيات في التأرجح بين الانهيار والنجاح, مثل عملية "أوسلو" للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين, والاتفاقية التي روجت لها الأمم المتحدة في "كمبوديا". وبرغم جميع العقبات والعراقيل فلم يحدث أي انتكاسة إلى حالة الحروب التي سبقت الاتفاقيات. أما في البوسنة فقد استمرت اتفاقية "دايتون" لكن بفضل الضغط الدولي المستمر, فإذا أراد المرء إيجاد حالة سلبية شبيهة بايرلندا الشمالية حيث يوضع السلاح جانباً ولا تصفو القلوب فهي إذن البوسنة. كما يستحسن عدم التطرق إلى الوضع في "قبرص" على الإطلاق.

وتركز حالات المقارنة الدولية تلك على ما قاله المعلقون سلفاً: وهو أنه بما أن الاتفاقية التي تم التوصل إليها في إيرلندا الشمالية في الجمعة الحزينة كانت طارئة وقد تمت نتيجة للعمل السياسي والضغط أو الحظ, فكذلك ستكون النتائج طويلة المدى لهذه الاتفاقية. وزاد الأمل الآن بعد أن صادق الاستفتاء الشعبي على الاتفاقية بأغلبية كافية كما قال "ديغول" في عباراته الرنانة في أحد الاستفتاءات الفرنسية في عهده: "إنها موافقة صريحة وهائلة". "جرى الاستفتاء في شهر مايو 1998 ووافق على الاتفاق 17% في إيرلندا الشمالية و94 % في الجنوب".

قد تظهر هناك معارضة وقد نسمع عن كثير من الاتهامات بالخيانة بل ستزيد جعجعة البنادق, ولكن ما لم تتم الإطاحة بالقيادات السياسية للأطراف الموقعة على الاتفاقيات فقد لا يقع الأسوأ وتأتي لاحقاً الانتخابات وتحدث تطورات دستورية أخرى.إن المشكلة في إيرلندا الشمالية لا تكمن في هذا التطبيق قصير الأمد, بل في إيجاد حلول لمشكلات طويلة الأمد من "موروثات" ومخلفات الذكريات السلبية الطويلة والتي جمعها توقيت اتفاقية الجمعة الحزينة بمحض المصادفة, تقطع اتفاقية "ستورمونت" وعودا باتخاذ اجراءات تعمل لتطبيق الديمقراطية في الشمال الإيرلندي, والعمل على إنهاء سيطرة حكم الحزب الواحد للبروتستانتيين, وبداية فإن هذا يعني تسوية الخلافات عن طريق التفاوض: ويبقى الأمل في لمس استعداد الأحزاب المختلفة للعمل معاً بالفعل, وعدم التتشاحن حول كل نقطة من التفاصيل الدقيقة, مثل أي أسرة غير سعيدة تعاني الانقسام ولكنها مجبرة على العيش تحت سقف واحد. ومن جانبهم فإن مطالب الاتحاديين "البروتستانت الذين يريدون الاستمرار في الوحدة مع بريطانيا". تتركز حول نزع سلاح الجيش الجمهوري الإيرلندي وهي النقطة الأكثر صعوبة في التفاوض, ومن وجهة نظر الجمهوريين فإن النقطة الأكثر صعوبة هي دور الشرطة "شرطة ألستر المسلحة", حيث إن من بين النقاط الأربع التي كان يشير إليها الكاثوليك دائما كمجال للتفرقة, والتي كانت من أسباب الانفجار في نهاية الستينيات: الاسكان, الانتخابات, التوظيف, والشرطة وظلت الأخيرة هي الأكثر حساسية.

إن ميراث عام 1798 كان يطالب بتقسيم إيرلندا إلى شعبين لا يطيقان العيش تحت سيطرة حكم سياسي واحد. وهذا ما تعترف به اتفاقية "ستورمونت", ولكنها تحوي ضمناً احتمال التغيير, ويبدو أن نص الاتفاقية في الوقت الحالي يسمح بالتغيير في وضع إيرلندا الشمالية في حالة مطالبة غالبية بسيطة من الناس بذلك. وهذا, بلاشك, مما يريد أن يحتفظ به الجمهوريون, فمن سخرية القدر ومن المخجل أنهم سيقومون, بنشر التقاليد الدستورية الإنجليزية, وهي القبول بالغالبية البسيطة ـ مقابل ـ المبدأ الديمقراطي واسع الانتشار الذي يقضي بأن التغييرات الدستورية الكبرى تتطلب شيئا أكثر من أغلبية بسيطة ـ إما ثلثا أصوات الناخبين أو الغالبية العظمى من المواطنين.

قام حزب "شين فين" وحزب العمل الاشتراكي الديمقراطي بطمأنة أتباعهما بهدوء بأن نسبة المواليد وحدها كافية بأن تفي بتوفير غالبية الأصوات تلك في بضعة عقود قادمة. والكلمات السرية لهم هي "سيأتي زمننا" كما تحدث "جيري آدامز" في خطابه في صبيحة تلك "الجمعة الحزينة" عن "الاتجاه" الذي تنحوه الاتفاقية. ولكن قد لا يصح هذا الأمر: لأن نسبة مواليد الكاثوليك في انخفاض, وقد تتوقف هجرة الطبقة الوسطى من البروتستانت من إيرلندا الشمالية عند إحلال السلام, كما قد لا يرغب جميع الكاثوليك تلقائيا في أن يكونوا جزءاً من الجنوب الإيرلندي. كما قد يكون للتغييرات التي طرأت على دستور الجنوب تأثيراتها فما قاله "أهيرن" عند تخليه عن المادتين 2و 3 من الدستور الإيرلندي اللتين تطالبان باستعادة الشمال, هو شيء لا يرغب في سماعه الكاثوليك الشماليون, ولكنها عبارة تقال بصراحة في الجنوب وهي: "نحن لا نريدهم هنا".

إن ميراث العصيان المسلح لعيد الفصح في عام 1916 يشمل شيئاً آخر, وهو صعوبة الحركة لمواكبة عمليات السلام, ففي خطاها في السنوات القليلة الماضية لاشاعة القبول المتبادل بين الطائفتين. اعتمدت عمليات الصلح تلك على التماس يطالب باحترام التقاليد الثنائية للأحزاب المختلفة, المطالبة بالوحدة مع بريطانيا "الوحدويون", والأحزاب المطالبة بالانضمام إلى إيرلندا "القوميون".

هذه الشعارات كثيرا ما تظهر في بيانات الزعيم القومي الاشتراكي والدستوري "جون هيوم", التي كثيرا ما كانت مسهبة ولكنها أصبحت الآن مبررة ومحمية, حيث إنها تتطرق إلى لب الاتفاقية, ويعتبر عام 1916 بالنسبة للجمهوريين حدثا رئيسيا كما هي معركة "بوين" في عام 1689 بالنسبة للبروتستانت حينما أنزلوا الهزيمة بالكاثوليك, كما يحتفظ حصار "دري" بمكانته الرئيسية لديهم. غير أن تكافؤ الاحترام للتراث كما يسمى بين الطائفتين قد يتحول إلى تكافؤ في عدم التساهل, وهو مبدأ انقسامي وجامد ومتحجر للمجتمع الإيرلندي السياسي يقسمه إلى معسكرين يصعب انتقادهما لماضيهما, وقد سلما السلطة إلى ممثلين عن ذلك التقليد.

بالنسبة لجميع من لا يؤيد التعريفات الجامدة للتقاليد من النساء والمفكرين وأعضاء مجموعات الأقلية الدينية والمفكرين الأحرار من جميع الأنواع فإن شعار "تكافؤ الاحترام بين التقليدين" هذا يمكن أن يصبح بمنزلة الكمامة للأفواه. وهناك دليل كئيب لما يعنيه هذا في مدينة "ديري": حيث ساد سلام نسبي واقتسام سلطة سياسية في الثمانينيات, ولكن على حساب انفصال يكاد يكون كاملاً للبلدة: فهناك الغالبية الكاثوليكية في الوسط وضواح بروتستانتية على الجانب الآخر من "فويل". وهنا يكمن صراع واضح بين المصالح قصيرة وطويلة المدى. فالمصلحة قصيرة المدى التي تقضي بتثبيت هذه الاتفاقية تتطلب كما يتطلبه السياق العربي ـ الإسرائيلي السيطرة المستمرة بل والمطلقة على جمهور الناخبين على يد زعمائهم السياسيين, وهو الحل الأفضل لإحلال سلام دائم.

أما على المدى الطويل فإن الشعارات الرنانة للتقليدين قد تكشف حقيقتها وهي أنها غير ديمقراطية وغير ليبرالية. إن ما تحتاج إليه إيرلندا, وفوق كل شيء ليس مساواة رسمية للتقليدين أو عقد اتفاقيات بين القيادات الطائفية وكل واحدة منها يسيطر عليها هاجس أعضائها المنشقين والمزايدين, ولكن ما تحتاج إليه هو إنماء الفضاء الاجتماعي والسياسي الذي يعتمد على الماضي الإيرلندي بعيدا عن هؤلاء التقليدين.

ومن حاول في الماضي عمل ذلك دفع الثمن: تلك هي دروس الأعوام 1798 و1916 و1968. وقد التهمت جميع تلك الانتفاضات الثلاث كل من رفض قيود التقليدين. ويذكرنا اليوم لأهميته بمصير الشاعر "ويليام ييتس" البروتستانتي والقومي, فهو الشاعر, الذي انطوى في النهاية وبكل ازدراء تحت رداء الدولة المستقلة. فمن لا يتكيف مع تقليد أو آخر سيتم إقصاؤه. فلنأمل أن تكون الاتفاقية التي عقدت في "ستورمونت" في يوم الجمعة الحزينة واحدة من اتفاقيات التسعينيات التي تتحمل اختبار الزمن. وليحدونا الأمل أكثر أن تقدم تلك الاتفاقيات بدايات لا لإحلال السلام بين التقليدين فقط, وهما اللذان يتحملان مسئولية آلام ومعاناة السنوات الماضية, بل ولإنعاش حياة سياسية إيرلندية أكثر حيوية وحماساً. قد يتفوق ذلك التقليد الثالث المنبعث من المعاناة, ويرفض يوماً ما الزنزانتين, اللتين حبستا الشعب الإيرلندي في القرون القليلة الماضية, تحت سيطرة الهيمنة الإنجليزية غير الليبرالية.

ويجب ألا تستقي شعوب العالم العربي الجانب الوطيد الصلة بقضيتهم من النزاع الإيرلندي في الصورة الزائفة للكفاح المناهض للإمبريالية أو فعالية الكفاح المسلح على يد أقلية بل ما يجب ان تستقيه هو الحاجة والقدرة على التوصل إلى حل للنزاعات عن طريق التسوية والتفاوض. فقد ضربت إيرلندا في الماضي لبقية العالم مثالاً سيئاً. ونرجو أن تتمكن, في أعقاب هذه الاتفاقية, من أن تتوصل إلى جزء لحل أكثر اتساعاً ودولية للنزاعات العرقية والطائفية.

 

فرد هاليداي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




نتائج التصويت على مشروع السلام في إيرلندا الشمالية





عراقة التاريخ الإيرلندي لم تمنع اندلاع النزاع الطائفي





ممارسة الحياة الطبيعية في ظل الحرب الأهلية





مبان عتيقة وشوارع متسعة وهدوء لم ينغصه سوى وقع الانفجارات