جاكلين كنيدي: ماذا بقي من الأسطورة الغامضة؟
جاكلين كنيدي: ماذا بقي من الأسطورة الغامضة؟
كانت جاكلين كنيدي أقرب شخص إلى الملكية في أمريكا, ولاتزال الكتب تتناولها بعد أربع سوات على موتها. ويصعب القول إن الفضول تجاهها ينحصر في الجيل الذي عرفها لارتباطها بالرئيس الشاب الذي تواطأت عائلته وإدارته وزوجته والصحافة على أنباء أسطورته. بعد موته همست لبيار سالنجر, الملحق الصحافي في البيت الأبيض, أن جون كنيدي كان لحظة عابرة مضيئة في الزمن مثل أسطورة كاملوت. نقل سالنجر قولها إلى الصحافة وندم في ما بعد لأنه ساهم في صنع الخرافة. أعطى الرئيس الأشقر الشاب وزوجته الأرستقراطية الأنيقة واجهة براقة للأمريكيين الذين يحنقهم غياب ثقل التاريخ والعراقة عن حضارتهم . المؤلفات والصحافة تكشفان اليوم الفضائح المذهلة وراء الصورة الكاملة الخادعة, جون كنيدي تزوج الشقراء الجميلة ديوري مالكولم التي كانت صديقة شقيقه الأكبر جو بعد مقتله في الحرب العالمية الثانية في بريطانيا, لكن كليهما ندم ورغب بالطلاق, فتولى والده جوزف كنيدي إتلاف الوثائق وتغطية الأمر لكي لا يؤثر طلاقه, هو الكاثوليكي, على فرص توليه الرئاسة. وعلم هذا أولاده طريقة ترويض الزوجات, وتبادل العشيقات مع ابنيه جون وروبرت. لكن جاكي لم تجلس في البيت لتبتسم وتقنع نفسها بأن الجميع ينسون مغامرات زوجها إذا تظاهرت هي بنسيانها كما فعلت حماتها روز. يقول كريستوفر أندرسن في كتابه "جاك وجاكي: صورة زواج أمريكي" إن أرملة الرئيس أخبرته قبل موتها بقليل أنها ارتبطت بعلاقة مع الممثل وليم هولدن رداً على علاقة زوجها بالممثلة أودري هيبورن, وكان هولدن وهيبورن عملا معاً في فيلم "سابرينا" الذي كرس الأخيرة رمزاً للأناقة الفرنسية, وكانت جاكي بين المعجبات بأناقة هيبورن والمقلدات لها. على أن الدافع إلى الخيانة نبع أولاً من شعورها بالاحباط عندما ولدت طفلة ميتة أثناء قضاء زوجها عطلة بحرية مع أصدقاء وصديقات وامتناعه عن قطعها لمواساة زوجته. عندما كانت صغيرة انحصرت رغبة جاكي كنيدي بالإنجاز في عملها. كانت في صغرها تحصل على أعلى العلامات وتكتب الشعر وترسم في مجلة المدرسة, كانت جامعية أتقنت الفرنسية وفتنت الفرنسيين عندما زارت بلادهم مع كنيدي الذي قال في البرلمان الفرنسي إن زوجته أشهر منه هناك وإن عليه أن يقدم نفسه على أنه من رافق جاكلين كنيدي إلى باريس, فضج البرلمان بالتصفيق والهتاف. ومع أنها قامت وحدها ببعض الرحلات إلى الخارج, فإن السياسة لم تعن لها شيئاً, بل زادت كرهها لـ "الجماهير". ساعدت زوجها في كتابة خطبه أثناء حملته الانتخابية, وهجم عليها الحضور مرة عندما بدا أنه سينجح فساءها أن يلمسها الناس ويتدافعوا حولها. لم ترفض تنصيبهم اياها أميرة أو ملكة, لكنها لم تستسغ إلغاء المسافة بينهم وبينها أو اعتقادهم أنها مساوية لهم. في بداية زواجها كانت تجلس في مؤخرة السيارة المكشوفة وهي تقرأ كتاباً بينما كان كنيدي يحيي الجمهور ويلتمس الأصوات. يقتنع كثيرون أنها تزوجته لماله, وربما أحبته ثم تلاشت عاطفتها لخياناته المذلة المتكررة وغلاظة إحساس رجال أسرة كنيدي مع نسائهم. الأرجح أنها تزوجت رجلاً يشبه أباها, الرجل الوسيم الذي خان زوجته في شهر العسل, إذ إن شابات كثيرات يتزوجن شبيهاً بالأب لكي "يصححن" العلاقة التي ربطت آبائهن بأمهاتهن. قالت إنها أسعد حالاً عندما تكون وحدها. ولدت في صيف 1929 في عائلة موسرة لكن لم يكن لديها أصدقاء, إذ خجلت من عراك والديها الدائم. على أنها كانت أقرب إلى والدها الذي عبدته وأخبرت من تعرفهم بأنه بدأ بخيانة والدتها في شهر العسل. سرورها المريض بذل أمها تحول انهيارات عصبية عندما أدركت في ما بعد أنها تكرر دور الضعيف لا القوي في العلاقة. وتردد أنها أبدت رغبتها في الطلاق بعد سنتين من زواجها وإجهاضها مرتين, وأن والد زوجها منحها مليون دولار لكي تبقى. انفصل والداها عندما كانت في الحادية عشرة, وتزوجت أمها رجلاً ثرياً بعد سنتين, ومع أن الأسرة أعطت الانطباع بالبحبوحة, إلا أنها لم تكن غنية فعلاً, وكان المال عقدة كبيرة دفعتها إلى الزواج من المليونير اليوناني اسطوطاليس أوناسيس الذي كان أكبر من والدها. وفي الحملة الانتخابية في 1960 ذكرت الصحافة أن اسم عائلة والدها, بوفييه, مزيف وكذلك اسم عائلة أمها, لي, التي كانت في الحقيقة ابنة عامل ايرلندي. مع ذلك تصرفت جاكي دائماً كأرستقراطية عريقة تحتقر آل كنيدي "الأيرلنديين المضجرين, والحمقى الذين يفتقرون إلى الرشاقة". فور انتخاب زوجها رئيساً اتضح أن صورة الأمريكية الأولى جاهزة في ذهنها, ركزت على الملابس "الأنيقة وغير المحددة بزمن معين" والقبعات الملائمة التي كانت جزءاً لا يتجزأ من مظهر ملكة بريطانيا. عينت موظفة خاصة للتسوق وكانت ترسم لها القبعات التي تريدها وتحدد لونها وقماشها. توقفت عن ارتداء القبعات بعد اغتيال زوجها في تأكيد لربطها هذه برفعة المنصب ورغبتها في تتويح نفسها بالقبعة كالملكات. في كتابه "ألف يوم من السحر: الخياطة لجاكلين من البيت الأبيض" يقول المصمم أوليغ كاسيني إنها أرادت أن تكون أكثر النساء أناقة في العالم, وأنها كتبت له مرة: "أريد أن تكون ثيابي مبتكرة ولا أرغب برؤية السيدات القصيرات البدينات يقفزن بالفساتين نفسها" خاط لها ثلاثمائة زي عندما كانت سيدة أولى, واحتفظ بثلاث دمى لها مقاييسها, وكانت عارضة تجرب الثياب قبل خياطتها. عاد يوماً من باريس وهو يحمل فستانين من بالنسياغا فلم تعجبها وصاحت بغضب: "كيف تجرؤ على ذلك؟ انتقيت أسوأ ما رأيت عنده لكي تبدو أفضل منه". لكنها غيرت رأيها عندما عرفت أن شقيقتها الصغرى "لي" اشترت فستاناً يشبه أحدهما ووجدتهما أنيقين. جمال وغموض كانت جميلة وزاد غموضها من جمالها, على أن كثيرين ممن عرفوها عن قرب لم يجدوا ما يفتنهم. المصور البريطاني سيسيل بيتون قال إن كتفيها عريضان مثل كتفي لاعب البيسبول, وان قدميها كبيرتان ويديها أيضا. الممثلة زازا غابور عابت عليها جلدها وشعرها الأجعد, والمصممة كوكو شانيل رأتها شارعية عكس ما تريد الايحاء به. الكاتب ترومان كابوت ذكر أنها تلعب دوراً هو السيدة كنيدي. بعد موتها بسنة نشر واين كوستنباوم, أستاذ الانجليزية في جامعة "ييل" الشهيرة, كتاباً عنوانه "جاكي تحت جلدي" حلل فيه مظهرها واعترف بانبهاره بها مثل مراهق. قال كوستنباوم إن سحرها يكمن في هروبها من الناس, فهي غطت شعرها بالوشاح وعينيها بنظارتين كبيرتين كأنها تريد الاختفاء. ولئن أوحى صوتها الهامس وجسدها النحيل بالضعف, فقد عوضت عن ذلك بالشعر المنفوش والنظارتين الكبيرتين لمنح مظهرها القوة المطلوبة. ماريا كالاس, صديقة أوناسيس قبل زواجه من جاكلين وبعده, قالت عن صوت غريمتها: "مارلين مونرو تؤدي دور أوفيليا". مونرو كانت من نساء جون كنيدي وكان صوتها صغيراً أشبه بصوت طفلة, أما أوفيليا فكانت حبيبة هاملت التي انتحرت في مسرحة شكسبير, على أن كالاس كانت تعرف أن صوت جاكي كان قناعاً من أقنعتها الكثيرة وإن كان هامساً حقاً. "ماذا في الاسم؟" تساءل شكسبير, لكنه كان مخطئاً. هل كنا سمعنا بجاكلين بوفييه لو تزوجت خطيبها الأول الذي لا نقرأ حتى اسمه, أو لو اقترنت برئيس دولة ثانوية؟ ترومان كابوت معه حق. كانت تلعب دور السيدة كنـيدي حتى بعد اغتيال زوجها ورفضها تغيير ملابسها الملطخة بالدم عند التقاط الصور مع خلفه ليندون جونسون وزوجته: "أريد أن يرى الأمريكيون ماذا فعلوا بجاك". وجاك هو اسم التحبب لجون, كما هو بوب لروبرت, وبيل لوليم. الكسندر أوناسيس سيقول بعد خمس سنوات: "إنه زواج كامل. والدي يحب الأسماء الشهيرة, وهي تحب المال". وسيتحقق قول شارل ديغول الذي سخر من إعجاب وزير ثقافته بتصرف جاكلين "الرائع" خلال جنازة زوجها التي نظمتها هي كجنازة إبراهام لنكولن, "ستنتهي على يخت ثري يعمل بالنفط بعد خمس سنوات". قال الرئيس الفرنسي. الحلم الأمريكي هل كان يمكنها أن تجمع المبنى والمعنى؟ اعتمد ذلك إلى حد كبير على علاقتها مع زوجها, ويبدو أنها قررت في وقت ما أن تختصر عاطفتها نحو رجل ما إلى الحد الأدنى وتركز على ما تريده منه. كانت سياسية بامتياز وأعطت الجماهير الصورة التي يرغبون بها. مثلت الحلم الأمريكي من دون جهد ملحوظ وقدمت نفسها كامرأة فوق الشبهات بعد موت زوجها. اكتفت أولاً بصورتها الجذابة كامرأة يعجب بها الرجال والنساء معاً, ثم اكتفت بنفسها عندما تزوجت أوناسيس وارتبطت بعلاقة مع تاجر الماس موريس تمبلمان من دون أن تأبه بزوجته. ألكسندر أوناسيس سماها "الأرملة" وعندما توفي بحادث طائرة دعتها شقيقته كريستينا "الأرملة السوداء" لأنها تجلب الموت لمن حولها. والأرملة السوداء أنثى عنكبوت أمريكي تلتهم ذكرها. عملت قليلاً في الصحافة قبل أن تتزوج, واكتفت بالانتماء إلى مرحلة ما قبل الصحوة النسائية في الستينيات. لكن زوجة وودرو ولسون تسلمت وظيفة زوجها بشكل غير رسمي طوال مرضه في العشرينيات, وساعدت إليانور روزفلت زوجها الكسيح فرانكلين في تصريف شئون البلاد في الثلاثينيات والأربعينيات. هيلاري كلينتون انتقت إليانور مرشدة روحية لها, لكن جاكي رأت هذه "خسيسة, حقودة وعنيدة" وتواطأ الاعلام معها لتعزيز مجد أمريكا في وقت لم تكن عاصمة للفكر أو الفن واحتاجت إلى تماثيل تنافس بها إنجازات العالم القديم, أوروبا, تمردت الصحافة أحياناً ونشرت أنباء عن زواج كنيدي الأول وعلاقاته, لكن جاكي بقيت غالباً فوق مستوى البشر إلى ما بعد موتها في 1994 وظهور كتاب تلو الآخر عن جشعها وعلاقاتها والكذبة التي عاشتها في ضمير الرأي العام. إلى وليم هولدون كانت لها علاقة مع أحد موظفي البيت الأبيض المحامي روزويل جيلبوترتك, وفي "جاكي بعد جاك" يقول كريستوفر أندرسن إنها ارتبطت بعلاقة سريعة مع مارلون براندو بعد موت زوجها وبعلاقة أطول مع شقيقه روبرت كنيدي, وأنها قبلت روبرت مكنمارا, وزير الدفاع في عهد زوجها, علناً وهي ترقص معه. الكاتب غور فيدال الذي ربطته قرابة بعيدة بها, قال إن حبها لروبرت كان أقوى من حبها لزوجها, وفي "ليسا غير بشر: قصة حب جاك وجاكي كنيدي" يذكر ادوارد كلاين ان شقيقتها "لي" شاركت جون كنيدي السرير عندما كانت في المستشفى بعد ولادة طفلتها الأولى السليمة كارولاين. واقترن اسمه بكثيرات من الشهيرات بينهن جين مانسفيلد وصوفيا لورين وكيم نوفاك ولي ريميك. وعُزيت حاجته المستمرة إلى النساء إلى اصابته بمرض أديسون الناتج عن اضطراب الغدة الأدرينالية وتناوله أدوية من آثارها تعزيز الرغبة. تصور جاكلين اليوم كشيطان, لكن الأكيد أنها تألمت كثيراً من دون أن تجد من يواسيها. أجهضت ثلاث مرات وابنها الثاني باتريك عاش يومين فقط, وربما اعتقد من حولها أنها قوية بما يكفي لمواجهة كل ذلك وحدها. كان التسوق نوعاً من الاشباع البديل للجفاف العاطفي في حياتها. أول دخولها البيت الأبيض طلبت من الأمريكيين التبرع لتمويل تجديده, وفي مرحلة أوناسيس أطلقت جشعها من دون أي حاجة إلى احترام المظاهر. قال الثري اليوناني الذي كرهه الأمريكيون إنها تشتري دزينة فساتين لكبار المصممين لكنها لا ترتدي إلا الجينز والقميص. يقال إنها اشترت مئتي حذاء دفعة واحدة, وربما علينا في هذه الحال أن نصدق رواية أخرى تقول إنها اشترت ستاً وثلاثين حذاء وأعادتها في اليوم التالي. باعت كثيراً من ثيابها لمحل "إنكور" الأمريكي لتحصل على المال, وتلقت في سنة زواجها الأولى من أوناسيس جواهر قدرت بخمسة ملايين جنيه استرليني, إذ اعتاد أن يرسل لها كل أسبوعين باقة أزهار خبئ سوار في أسفلها. فرحت بجواهره أولاً ثم وجدتها سوقية, غليظة ومبهرجة أساءت إلى سجلها في الذوق الرفيع. غفر لها الأمريكيون زواجها من أوناسيس, الذي كان قد بدأ معاملات الطلاق, لكنه توفي قبل أن يبرهن لها كم كرهها, لأنها استغلته واعتبرته غبياً. ادوارد, شقيق جون, كاشف كريستينا ابنة أوناسيس بإرث جاكلين بينما كانوا يستقلون سيارة واحدة في موكب الجنازة. أعطتها كريستينا ستاً وعشرين مليوناً وذكرت أنها كانت مستعدة أن تعطيها أكثر لتتخلص منها إلى الأبد. توفيت في صيف 1994 بعد إصابتها بسرطان ليمفاوي, وباع ابنها وابنتها بعض مقتنيات "الثنائي الذهبي" بعد سنتين في مزاد أظهر أن الهوس بجاك وجاكي فاق التوقعات. قدرت المبيعات بأربعة ملايين ونصف المليون لكن المزاد جلب نحو 35 مليوناً. توقع كثيرون أن تكشف أسرار مقتل زوجها قبل موتها لكنها بقيت صامتة. كان الغموض جزءاً كبيراً من أسطورتها فلماذا تحطمها بيدها؟
|