نظرة إيرانية على قضايا الإسلام والعصر
نظرة إيرانية على قضايا الإسلام والعصر
في مثل هذا العام قبل عقدين من الزمن، انطلقت الشرارة الأولى للثورة الإيرانية، لتشعل حريقاً واسعاً، أتى في نهاية الأمر على أحد أقدم الأنظمة الملكية في العالم. وهنا نستعرض كتابا جديدا للرئيس محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية في فبراير 1979, نجح تحالف وطني واسع بقيادة رجال الدين, وعلى رأسهم آية الله روح الله الخميني, بعد تضحيات جسيمة, في إعلان حكومة جمهورية إسلامية, حيث توج النظام الإسلامي بوضع دستور جديد للبلاد, يقوم على محور أساسي هو "ولاية الفقيه", فأسندت لقائد الثورة, أي آية الله الخميني, سلطات شاملة واسعة, تمس مختلف أجهزة الدولة وسلطاتها. كانت الثورة الإيرانية الإسلامية ثورة جماهيرية واسعة شاملة. فقد اشترك فيها مئات الألوف من الرجال والنساء, وبخاصة في مدن إيران الكبرى. وكانت كذلك ثورة ذات أيديولوجية, تحاول أن تضع العقيدة الإسلامية وفق المذهب الشيعي, وبشكلها المؤدلج, موضع التنفيذ, لبناء دولة حديثة في القرن العشرين, تبقى راسخة الأركان ربما إلى الأبد. إلا أن التجربة الثورية الإسلامية في إيران, كغيرها من التجارب الإنسانية الكبرى في مجال الثورات, لم تستطع تجاوز المشاكل والتعقيدات التي ترافق مثل هذه التحولات العنيفة, وتنتهي بها إلى ما انتهت إليه التجارب السابقة, كالثورة الروسية أو الصينية مثلاً, حيث يجري عادة صراع بين مثاليات الثورة ومتطلبات بناء الدولة, وتكون الغلبة للأخيرة في معظم الأحوال. توسعة شرايين الثورة بالرغم من تأكيد محمد خاتمي, رئىس الجمهورية الإيرانية الإسلامية, أنه فكراً وممارسة, امتداد لثورة 1978 ـ 1979 الإسلامية, فإن طبيعة الأفكار التي طرحها في حملته ولايزال يطرحها في كتبه ومقالاته, وتركيبة الشرائح الاجتماعية التي انتخبته, تجعل من محاولته, إن لم نقل "بروسترويكا" إيرانية, فعلى الأقل صفحة جديدة في هذه التجربة, ومحاولة داخلية من أحد أبناء الثورة, لإنقاذها من الجمود والمشاكل, وذلك بتوسيع شرايينها, وتجديد ولاء الأنصار والأصدقاء لها في الداخل والخارج, واندفاعة فكرية جريئة لاختراق صفوف الخصوم والمتشككين. وقد عرف د. خاتمي, باهتماماته الثقافية المتنوعة وسعيه لنشر فهم أوسع, أوتفاهم, مع ثقافة العصر وحضارته,وفي هذا السياق أصدر كتابا احتوى على مجموعة من المحاضرات التي سبق أن أقيمت أو نشرت في لبنان في أواسط التسعينيات. ألقيت المحاضرة الأولى في "دار الندوة" ببيروت, بعنوان "التدين في عالم اليوم". وقد افتتح د. خاتمي تلك الندوة متسائلاً: "ماهو موقع الدين في عصرنا؟ وما هي معاناة المتدين ومسئولياته؟ أين موقعنا نحن في عالم اليوم؟" وتساءل المحاضر: لقد كنا معشر المسلمين, ذات يوم, أصحاب حضارة, وكان لنا دور في التاريخ الإنساني, وإننا اليوم نفتقر إلى الاثنين: الدور والموقع معاً. نحن نتحدث عن عالم اليوم.. فما طبيعة هذا العالم؟ ويقول د. خاتمي بصراحة, إن عالم اليوم باختصار "حضارة الغرب" ويضيف: "ليس خفياً أن الغرب قد قدم للإنسان إنجازات وثماراً عظيمة وابتلاه في الوقت عينه بمشكلات ومعضلات جمة". الأزمة الحضارية ويضيف خاتمي: صحيح أن عصرنا, وقد اعتمدنا على هذه الحضارة المادية, مليء بالمشاكل. ولكن مشاكلنا تبدو أحياناً, أو غالباً, أعقد من مشاكل الغربيين. "لأن حياتنا ـ الشخصية والاجتماعية ـ متأثرة أشد التأثر بالغرب, ومن دون أن نأخذ بأسس الحضارة الغربية.. ومن جهة أخرى فإن ثقافتنا أو بعض جوانب من السائد منها مما يرسم شخصيتنا وأفكارنا, تنتمي إلى حضارة انتهى عصرها". ولايعرض د. خاتمي حلاً فورياً لهذه المشكلة, فالنظريات والحلول الشمولية, كما برهنت التجربة الماركسية, قد تخلق مشاكل بقدر ما تقدم من حلول. وهكذا, فـ "المطلوب إنما هو فتح الأبواب أمام البحث والحوار والمشاركة الواعية". فالدين حقائق أزلية ومثل عليا, "ولكن الطامة الكبرى والتي تؤدي إلى الكارثة في مجتمع المتدينين, تظهر عندما تضفي قداسة الدين ومطلقيته على تصورات الإنسان عن الدين, مع أنها تصورات زمانية ـ مكانية محدودة ونسبية وقابلة للخطأ. ثم يعتقد الشخص أو الأشخاص المحدودون أن ما توصلوا إليه إنما هو عين الدين والديانة". هل يهاجم د. خاتمي هنا خصومه في إيران, التيار المتشدد المحافظ؟ ربما. كما أنه يزيد هذه النقطة وضوحاً, فيقول إن الإسلام "اهتم, إلى حد بعيد, بالعقل وبالتدبير" ولكن "من أراد أن يكون مؤمناً صادقاً فلابد له من سلوك طريق القلب "فـ" حقيقة التدين تجربة وليست فكراً". و"دين كل شخص إنما هو تجربة ذاتية". وبعد فقرات طويلة في التصوف والبحث عن كنه التدين الصادق, يختتم د.خاتمي محاضرته بالحث على تقييم التجربة الغربية بـ "نظرة محايدة لاتشوبها العواطف.. لدرء أخطاره.. وللاستفادة من إنجازاته". اختراق التراث تناول د. خاتمي التراث والحداثة والتنمية في محاضرة ثانية, وهو يرى فيها "أن مبدأ التغير سنة ثابتة". والجمود لم يكن طريق المجتمعات المتقدمة نحو التحديث, فالواقع أن المجتمع الغربي بدأ حضارته الحديثة "باختراق التراث ورفضه". لقد بدأت الحضارة الحديثة عندما تحولت "فائدة" العلم معياراً لتثمينه بدلاً من تحقير الدنيا أو ذمها. وهنا أيضاً, يشير الرئيس خاتمي إلى "تعارض الحضارة الحديثة وثقافتها مع ثقافتنا التقليدية" باعتبار هذا التعارض "أهم أسباب الأزمة التي نعيشها في عقولنا وحياتنا", فنحن نعيش في هذه الحضارة بثقافة لاتنسجم معها. إلا أن المحاضر لايستغل هذه النقطة للضغط على التراثيين, بل يرى في نشاط الإصلاحيين عودة إلى الذات, وتعاملاً إيجابياً مع معطيات التمدن البشري. فالحضارة الغربية, على ضخامة عطائها, "ليست آخر الحضارات". كما أن الحضارة الحديثة عموماً, وإن كانت الحدث المهم في العصر الأخير من التاريخ البشري, إلا "أن مساوئها ليست قليلة أيضاً, ولاتنحصر في جرائم الغربيين السياسية والاقتصادية خارج حدودهم الجغرافية, بل إن الغرب يواجه في داخله مشكلات عظيمة أيضاً" فما العمل إذن؟ مرة أخرى, يجد د. خاتمي الحل في الارتكاز "إلى الوعي والحكم العقلاني", وفي تحليل الجوانب الإيجابية من التراث "لأن التراث هو معين الهوية التاريخية والاجتماعية للأمم" و"القضاء على التراث يعني مصادرة أساس الهوية التاريخية والثقافية لأي أمة والقضاء عليها". إن الجانب السلبي الجامد من التراث, في رأي د. خاتمي, هو الذي لامستقبل له. فكما بدأت نهضة الغرب برفض الجمود الكنسي, بدأت يقظته, من جانب آخر "بفضل عودته إلى التراث, إذ عاد المفكرون إلى التراث اليوناني الفكري والفني, وإلى تراث روما الاجتماعي, عصرالنهضة, كما عاد المتدينون إلى ماكانوا يعتبرونه حقيقة دين المسيح, والتراث المسيحي الحقيقي, عصر الإصلاح". لابديل عن الديمقراطية في مقابلة مع مجلة المنطلق اللبنانية, صيف عام 1996, يتناول الرئيس خاتمي موضوعاً حساساً هوالعلاقة بين الدين والديمقراطية. فيقول: "أنا لا أحسب أن عاقلاً ينصحنا بترك الديمقراطية للبحث عن بديل آخر". صحيح أن الديمقراطية "أسلوب بشري" عرضة لكل الأخطاء والانحرافات, ولكننا "إذا لم نكن متحجرين ومتعصبين وكنا نعيش في زماننا ونعي أن الفكر قد تطور وتحول وأنه لايمكن حبس الأفكار في سجن من حديد, أقول: إننا لن نجد إذ ذاك طريقاً سوى الديمقراطية.. واستقرار أي حكومة دينية لاسبيل إليه إلا من هذا الطريق". وبالرغم من "الانقلاب العقائدي" الواضح نسبياً في هذا الرأي مقارنة بتراث سياسي معروف, منذ أن بدأت حملة أدلجة الدين والمذهب في إيران, حيث رفضت الثورة الإسلامية الماركسية والليبرالية معاً, فإن الرئيس خاتمي ينتبه جيداً لما سيأخذه عليه وعلى الديمقراطية والغرب خصومه من المحافظين. لذلك نراه يشترط للديمقراطية كي تعطي أكلها أن تساير "دواعي الواقعية ورعاية المصالح وفهمنا العام للإسلام". ص100 خاتمي: الغرب ليس مفلساً ويحتوي الكتاب كذلك على وقائع الحوار المتلفز مع الرئيس الإيراني, والذي أجرته محطة "المنار" اللبنانية عام 1996, حول "الدين والإنسان والعلاقة مع الغرب". وقد تحدث الرئيس خاتمي في هذا اللقاء عن بعض مجتهدي ومفكري الشيعة, وبخاصة "مطهري", الذي اغتيل في بداية سنوات الثورة, والصدر, الذي أعدم في العراق عام 1980. غير أن د. خاتمي تناول في هذا الحوار مسألة "إفلاس الغرب", فشكك في حقيقتها وطالب المسلمين بالانتباه إلى تمازج وتوالي الحضارات. "فالحضارة الغربية قد استفادت كثيراً من الحضارة الإسلامية, وهذه بدورها استفادت من الحضارات الأخرى كاليونانية والفارسية وغيرها". وأضاف أن التقليديين يريدون العودة إلى الماضي, والمبهورين منا بالغرب يقولون بالذوبان في الفكر الغربي, "ولذا فإنني أؤمن بأن على العلماء والمفكرين الذين تضطرم أفئدتهم غيرة على العلم وعلى دينهم وشعبهم, عليهم أن يذهبوا إلى أبعد مما وصلت إليه الحضارة الغربية". وهذا, في رأيه, "يحتاج إلى نظرة جديدة إلى أصولنا وأسسنا ومنابعها في القرآن الكريم والسنة". وينتهي الكتاب بكلمة الرئيس التي ألقاها في جامعة طهران عام 1997 بعنوان "في التنمية والحرية", حيث ركز حديثه على المفاهيم المتعددة للتنمية, وتساءل قائلاً: لماذا لانزال نراوح مكاننا بعد مضي قرن ونصف على تأسيس "دار الفنون" في طهران بوصفها المدرسة الأم والمركز الأساسي للعلوم الجديدة؟ السبب يكمن في "الحكومات المتسلطة المستبدة التي تتلاعب بها الأهواء. وباستبداد تلك الحكومات وتحول السلطة إلى محور في المجتمع, افتقد الإنسان إمكان الحضور في مضمار الحياة الاجتماعية, وسحقت بالتالي شخصيته". وتتلاقى الخبرة الإيرانية مع الخبرة العربية حول تعثر تجربة الحرية في العالم الإسلامي, عندما نستمع إلى د. خاتمي وهو يقرر: "علينا أن نذعن بأن تجربة الحرية ليست ميسرة لنا بسهولة.. لأن الاستبداد أضحى منا طبعاً ثانياً, فنحن جميعاً ننطوي على ضرب من الميل للديكتاتورية, ولأننا نريد أن نمارس تجربة الحرية في عالم مملوء بسيطرة القوى العالمية وهيمنتها". ونحن المسلمين في ورطة كما يبدو: "فمن جهة لاتتوافر الفرصة للنمو والتقدم في المجتمع إلا في إطار الحرية, ومن جهة ثانية فإن الحرية لاتستقر وتزدهر وتستحكم إلا في مجتمع رشيد وناضج". دلالات الخط الجديد تعد كتابات وخطب الرئيس خاتمي, ضمن هذا الكتاب وخارجه, دليل تحول واضح في فكر الثورة الإسلامية, أو على الأقل, دليل انقسام عميق بين الخط المحافظ والتيار المجدد. ثمة أوجه عديدة لفكر الرئيس الإيراني. فهو من جانب انعكاس لصراع الدولة والثورة, الذي, كما ذكرنا, ينتهي عادة بسيادة الدولة وذوبان الثورة. والكثير من الأفكار التي يطرحها د. خاتمي تؤدي إلى هذه النتيجة. وهو من جانب آخر تذكير للمسلمين في إيران وخارجها, بضرورة احترام الخبرة التاريخية للغرب, وعدم الاندفاع في تيار العداء الأعمى خلف بعض الشعارات التي تنزل بالمسلمين في النهاية أشد الأضرار, وتعرقل تقدمهم على كل صعيد. فالرئيس خاتمي لايتردد, في مواقف عديدة, عن الإشادة, بالعطاء الحضاري الكبير للغرب, بل يقول إن عالم اليوم باختصار حضارة الغرب. ومثل هذه الملاحظة إلى جانب كونها إقراراً علنياً بقوة وفضل "الخصم الحضاري" للتيار الإسلامي المتشدد والمعتدل, فإنها أيضاً نوع من التراجع عن شعار "اللاشرق واللاغرب" الذي رفع في إيران وغيرها سنوات طويلة. وفكر الرئيس خاتمي بداية تراجع للفهم الشمولي الجماعي للدين, ونزوع لاشك فيه للفهم الفردي. فهو يطالب بإعادة الاعتبار للعقل ليحسم خلافات النقل, وهو يدعو إلى فهم عصري وعقلاني للدين لايردد بالضرورة تلك المفاهيم والشعارات السائدة. فهناك شيء مقدس هو الدين أو الوحي, وهناك فهم بشري عرضة للصواب والخطأ, هو تصورات الإنسان عن الدين. و"الطامة الكبرى والتي تؤدي إلى الكارثة في مجتمع المتدينين", يقول الرئىس, "تظهر عندما تضفي قداسة الدين ومطلقيته على تصورات الإنسان عن الدين, مع أنها تصورات زمانية ـ مكانية محدودة ونسبية وقابلة للخطأ". ولايكفي في نظر د. خاتمي حتى المناداة الغامضة بالعودة إلى الإسلام, ما لم تكن البرامج واضحة, وسبل العودة ممهدة, "فأي إسلام نريد ونعني حين نتحدث عن الإسلام؟". لماذا تخلف المسلمون ؟ ولعل أبرز نقطة أوضحها د. خاتمي في أفكاره, تلك المشكلة المزمنة في العالم الإسلامي: لماذا لم يتقدم المسلمون؟ فقد تحدث عن هذه الأزمة الأفغاني وعبده ورشيد رضا وكرد علي وحسن البنا وغيرهم, وعالج بعض جوانبها شكيب أرسلان في كتابه الشهير "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟". فماذا أضـاف د. خاتمي في هذا المجال؟ لقد أجمل الأمير شكيب أرسلان "1869 ـ 1946" أسباب تخلف العرب والمسلمين بما يلي: أ ـ الجهل والعلم الناقص, "الذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط "لأن" صاحب العلم الناقص لايدري ولايقتنع بأنه لايدري". ب ـ فساد الأخلاق على المستوى الشعبي والقيادات. جـ ـ الخوف, "ومن أعظم عوامل تقهقر المسلمين الجبن والهلع, بعد أن كانوا أشهر الأمم في الشجاعة". د ـ اليأس والقنوط, "فمنهم من وقر في أنفسهم أن الإفرنج هم الأعلون على كل حال, وأنه لاسبيل لمغالبتهم بوجه من الوجوه, وأن كل مقاومة عبث". هـ ـ ضياع الإسلام بين الجامدين والجاحدين. أما د. خاتمي, بعد عقود طويلة من تأليف كتاب أرسلان, فإنه لايرى في كل هذا سر تخلف المسلمين. فالمشكلة المحورية في رأيه, أننا متأثرون بالغرب أشد التأثر برغم رفضنا لتبني أسس الحضارة الغربية. "ومن جهة أخرى, فإن ثقافتنا أو بعض جوانب من السائد منها مما يرسم شخصيتنا وأفكارنا, تنتمي إلى حضارة انتهى عصرها". ولابد أن ندرك"أن حياتنا واقعة تحت تأثير حضارة جديدة تقتضي ثقافة تنسجم معها". وبينما كان الإسلاميون من جيل أرسلان يجدون الحل الجاهز في العودة إلى التراث والدين والماضي الإسلامي, نرى د. حاتمي وقد شخص العلة الأساسية في تخلف المسلمين, يعجز عن تقديم الدواء, "فأنا أعترف بعجزي الفكري والعلمي عن مثل ذلك" ص23. وربما وجدنا الحل في العودة إلى العقل والتجربة والعلم والانفتاح الحضاري, بما في ذلك بالطبع الحضارة الغربية, إن استطعنا استخلاص منهج نهضوي بريء من المآخذ المعروفة, من هذه المصادر كلها.
|