صوت الحرية والعدالة

صوت الحرية والعدالة

أن يقف المرء على مسافة من روحه ليكتب عنها وينقدها، يتأملها ويسائلها لأمر بالغ الصعوبة، بل القسوة. كان هذا هو حالي وأنا أعد لكتابة هذا المقال عن أخي وأستاذي وأبي «رجاء النقاش» إذ يمزقني الألم وأنا أكتب عنه الآن بضمير الغائب بعد أن رحل... بل وبعد أن كان قد تعذب طويلا وهو يقاوم السرطان بقدرته الفذة على السخرية من الألم... ثم كان أن غادر هو وبقى لنا الألم الذي نعرف الآن من أين يأتينا... وكأن معرفتنا هذه هي رد على تساؤل الشاعرة نازك الملائكة:

من أين يأتينا الألم، من أين يأتينا
أخي رؤانا من قدم ورعى قوافينا

وما إن كتب الصديق العزيز «طلعت الشايب» كلمته عن «رجاء» في ملف جريدة «الأهالي» عنه حتى تشبثت بها كقارب نجاة لعل الألم يخف مع الوقت.

قال طلعت : مسيرة «رجاء النقاش» الحياتية والإبداعية والإنسانية، وعلاقته بالبشر قصة تروى، وإنحيازه لقيم الحرية والحق والخير والعدل والجمال هو مايحول موته إلى حياة باقية، لأن من يترك فيك قطعة من روحه ليس بميت».

نعم «رجاء» ليس بميت هذه هي إجابتي على الألم.

***

يستطيع من يتعرف على الإنتاج الغزير والعميق لرجاء النقاش «ما يزيد على أربعين كتابا» أن يكتشف بسرعة أنه ليس ناقدًا أدبيًا فحسب له رؤيته الثاقبة وأدواته المصقولة، وإنما هو أيضا مفكر كبير للنهضة والتقدم من طراز رفيع، مفكر «تعب على نفسه» على حد تعبيره هو للصديق «ناصر عراق»، عمل واجتهد وقرأ وكتب وأصدر المجلات وطور المؤسسات، وبدأ إسهامه بإرادة لا تكل وهو دون العشرين، وقبل أن يغادر قريته «منية سمنود» في محافظة الدقهلية في الوجه البحري لمصر كتب أول مقالاته لمجلة الرسالة التي كان يصدرها الكاتب «محمد حسن الزيات»، وعلى صفحاتها تجلت موهبته المبكرة في اصطياد اللآلئ واكتشاف الأصوات الجديدة في الشعر، والتقاط بعض خصائصها المميزة وتوجيه نظر القراء إليها، وهو عين ما فعله بعد ذلك بسنوات قليلة حين كتب وهو في الثالثة والعشرين مقدمته الضافية للديوان الأول «لأحمد عبد المعطي حجازي» «مدينة بلا قلب»، وقدم الشاعر إلى الثقافة العربية ليحتل بعد ذلك المكان الجدير بموهبته الكبيرة، وكان الفضل في ذلك لمقدمة « رجاء» وبصيرته النافذة.

وواصل «رجاء» رسالته دون كلل على امتداد العقود وقد تبين له مبكرًا جدًا عمق ارتباط مصر بالعرب والعرب بمصر، وأن البعد العربي في الثقافة المصرية والبعد المصري في الثقافة العربية كلها حقائق لا ينكرها إلا الانعزاليون الذين جادلهم بموضوعية وذكاء ومعرفة، ليتسع مدى النقد في إنجازه من المجال الأدبي ليشمل نقد الفكر جنبا إلى جنب نقد الحياة والواقع.

وكون رجاء بسرعة رأسماله الرمزي وحرص على استثماره وتطويره، فأصبح جزءًا من المد الثقافي العربي التقدمي في الستينيات، وأحد نجوم الحياة الثقافية، وكانت موهبة «رجاء» النقدية التي تتسم بعمق البصيرة والقدرة على التحليل النقدي الذي يتميز بالبساطة والعمق معًا هي التي جعلته علمًا على نوع من النقد الذي يتسم بالسلاسة وجماليات البساطة، دون التضحية بالعمق والتحليل وأحكام القيمة. هذا المنهج النقدي السلس هو الذي دعم سلطته النقدية وعزز قدرته على التأثير في الحياة الثقافية العربية لا المصرية وحدها» كما يقول الناقد الدكتور صبري حافظ في أخبار الأدب.

وإذا شئنا أن نضع إنجاز «رجاء» في مكان ضمن الإطار الأشمل لحركة النهضة والتحرر الوطني لقلنا إنه ينتمي إلى المدرسة الرومانسية العقلانية، وربما يكون هذا المصطلح غريبا بعض الشيء، ولكن من يتعرف بعمق على عالم «رجاء النقاش» منذ كتابه النقدي الأول «في الثقافة المصرية»، والكتاب الإبداعي الذي تلاه «التماثيل المكسورة» وصولا إلى كتابة الأخير والذي صدر بعد موته «أولاد حارتنا بين الفن والدين» سوف يدهشه هذا التزاوج الساحر بين الخبرة الذاتية والتجربة الشخصية وعمق المشاعر وقوة الخيال والاستبطان وتدفق العاطفة وكثافتها وهي جميعًا خصائص يتميز بها الاتجاه الرومانسي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تذهلنا قدرته على النظر العقلي المنطقي الذي يفتش بدربة في أي ظاهرة عن كل العناصر والأسباب في تجادلها ليصل إلى النتائج منتصراً في كل الحالات للحرية العقلية والتجديد والابتكار، ومحذراً من خطر المتطرفين لأنه طالما رأى أن التطرف هو ضد العقل كما أنه يشوه العاطفة... يقول في مقدمة كتابه الأخير «أولاد حارتنا بين الفن والدين» :

«شاء المتطرفون ممن يحاولون التسلط على العقل العربي ويعملون على تقييده بقيود شديدة حتى لايتحرر وينطلق في الآفاق، كما انطلقت عقول الآخرين فتقدموا في حياتهم وعالجوا كثيرًا من مشاكلهم وبقينا نحن في آخر المسيرة بعد أن اتسعت مساحة التطرف في بلادنا، وإزداد عدد الذين يستخدمون الدين في غير موضعه» ويضيف بأن «المأساة كلها تكمن في التفسير الخاطئ للدين، وإقحام الدين في أمور لا علاقة له بها، وهذا بلاء يهدد مجتمعنا بالعزلة القاتلة عن العالم الذي نعيش فيه وهو بلاء ينذر بتقييد العقل حتى يتحول إلى مصدر للظلام».

وفي هذا السياق خاض «رجاء» معارك كثيرة ضد التطرف وضد الإفتاء غير المسئول، وجادل مفتي الديار المصرية حول إباحة الإسلام للنحت والتصوير مستشهدًا بما قاله الإمام «محمد عبده» في نهاية القرن التاسع عشر، ذلك أن نزعته الرومانسية العقلانية أبت إلا أن تزيل التناقض المفتعل بين الفن والدين ورأت في الدين أي دين وفي الدين الإسلامي على نحو خاص في حالة إذا ما تعامل معه المسلمون تاريخيًا قوة روحية هائلة لتجديد الحياة ولإقامة العدل واحترام كرامة الإنسان الذي كرمه الله.

جسد «رجاء» بتكوينه الفكري المتعدد المنابع تلك الرومانسية العقلانية المناهضة للرأسمالية التي طبعت مجموعة من التيارات الفلسفية والأدبية والسياسية رفضت جميعها الرأسمالية كنظام للاستغلال وأسست رفضها على مجموعة من القيم الاجتماعية والثقافية السابقة عليها أي على الرأسمالية، وكانت هذه القيم منبعاً للفكر الاشتراكي بكل مدارسه الخيالية والعلمية وقد استند إليها هذا الفكر وسعى لتجاوزها في آن واحد لأن حركة التاريخ لا تعود إلى الوراء.

وعرف التاريخ الأدبي والفكري نقادًا رومانسيين أفذاذا للمجتمع البورجوازي، مجتمع المدينة والصناعة واستغلال العمل المأجور مثل «تشارلز ديكنز» و«ووالتر سكوت» و«رو سو» و«كارلايل» في الثقافة الأوربية، وفي ثقافتنا العربية نسج «المنفلوطي» و«جبران خليل جبران» و« توفيق الحكيم» و« طه حسين» و«محمد مندور» على هذا المنوال. وبالرغم من المسافة الزمنية التي تفصل «رجاء النقاش» عن هؤلاء، فبوسعنا أن نضعه بينهم، هؤلاء الذين ردوا الاعتبار لفعالية الوعي الإنساني وقوة الروح في مواجهة التشيؤ والعقلانية الباردة المعادية للقلب وللإلهام، ووقفوا ضد الذرائعية والنزعة العلموية المعزولة عن المجتمع والتي تختزل التقدم في التقنية الخالية من النبض الإنساني والتي تتحول إلى هدف في ذاتها بدلا من أن تصبح وسيلة للسعادة والعدالة.

وقد تبلور التفكير الرومانسي المناهض للرأسمالية في تجربة الثقافة العربية، لأن الوجه القبيح وحده للرأسمالية هو الذي ظهر معاديًا للحرية والتفتح العقلي لم يسبق نشوءها حركة تنوير قوية كما حدث في التجربة الأوربية بل وتواكب نموها مع الحملات الاستعمارية على المنطقة التي سرعان ما ارتبط بها غالبية الرأسماليين وأصبحوا تابعين مبكرًا جدًا.

ينتمي رجاء النقاش إلى زمان الستينيات الذي أطلق عليه الروائي الليبي «إبراهيم الكوني» في مجلة دبي الثقافية «وصف الزمن الرومانسي». «وزمان الستينيات مجبول بروح الرومانسية لأنه زمن رسالي، وهو رسالي لأنه زمن الحلم، وهو زمن حلم لأنه زمن البحث عن الحقيقة الضائعة في الزمان، لا حقيقة «بروست» في بحثه عن ميتافيزيقا الزمان، وكان على جيلنا أن ينتظر طويلا كي يكتشف أن لا حقيقة للوجود ولا معنى للزمان خارج الحرية. و«النقاش» كفارس من فرسان الزمان الرومانسي، كان بكتاباته التنويرية رسول حرية بالنسبة لجيلنا.

يقول رجاء في كتابه «العقاد بين اليمين واليسار» عن حزب الأحرار الدستوريين وهو واحد من أحزاب الأقلية التي حكمت مصر في زمن الاحتلال الإنجليزي متحالفة مع القصر الملكي مشكلين معًا ثالوثًا معاديًا للجماهير الشعبية يقول: «الحزب يتكون من مجموعة من الإقطاعيين وعدد من ـ كما سبق الإشارة إلى ذلك ـ وهؤلاء جميعًا يمثلون بحكم مصالحهم موقفًا معاديًا للشعب، معادياً للحرية والديموقراطية».

للحرية والديموقراطية إذن مضمون مناهض للاستغلال في مفهوم «رجاء» الذي استخدم تعبير القضية الاجتماعية باعتبارها الوجه الآخر لقضية الاستقلال الوطني. وهنا نفهم سر رؤيته للزعيم الراحل «جمال عبد الناصر» ودوره المركزي في تاريخ مصر وفي تاريخ حركة التحرر العربي، وفي إدراكه للحدود التاريخية لما أسماه بالاستقلال الشكلي الذي يقتصر على العلم والنشيد بينما يبقى الانقسام الاجتماعي كما هو بل يمكن أن يزداد عنفاً مع تسلط الطبقات المستغلة من إقطاعيين ورأسماليين باسم الوطنية بعد خروج المحتلين.

وكان غياب القضية الاجتماعية عن الفكر السياسي «لعباس محمود العقاد» أحد المحاور الرئيسية لنقد رجاء له في كتابه «العقاد بين اليمين واليسار».

يقول «رجاء» إنه في الفترة من 1919 إلى 1930 كان العقاد يتحرك بفكره السياسي، فقد كان يحارب بقوة من أجل الاستقلال والحرية، ولكنه لم يلتفت للمعركة الاجتماعية ولم ينتبه للنصوص التي تقيد الثورة الاجتماعية في دستور 1923... ثم يضيف: «إن عدم رؤية العقاد للبعد الاجتماعي في ذلك الحين، كان جرثومة كامنة في تكوينه الفكري، أثرت عليه بعد ذلك في الأربعينيات على وجه الخصوص، عندما ظهرت القضية الاجتماعية على سطح الحياة السياسية المصرية بقوة. لقد كانت هذه الجرثومة القديمة الكامنة في فكر العقاد، وهي عدم رؤيته الواضحة للعنصر الاجتماعي الموجود في الصراع السياسي، هي التي ساهمت في أن تدفعه في القسم الثاني من حياته إلى الوقوف في جانب الرجعية، ومساندتها والدفاع عنها، ومحاربة شتى ألوان الفكر اليساري بعد أن كان العقاد من أعنف أعداء الرجعية وأشدهم خصومة في العشرينيات والنصف الأول من الثلاثينيات» «عباس العقاد بين اليمين واليسار».

سوف تؤدي العدالة الاجتماعية من وجهة نظر « رجاء» إلى التحرر الاجتماعي أي إلى اتساع آفاق الحرية بمعناها الأشمل، حرية الفكر والتعبير والاعتقاد وحرية المرأة وإعمال مبدأ المواطنة فلا تصبح الجماعات الدينية أو القومية في الوطن العربي أقليات معزولة بل مواطنين لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات.

وكان دائمًا على يقين أن مجتمعًا صحيًا يفتح أبوابه ونوافذه للشمس والهواء والريح شرط أن لا تقتلعه من الجذور كما قال «غاندي» الذي أحبه «رجاء» واستلهم أفكاره، إن مثل هذا المجتمع هو الذي سيشكل بيئة صحية ونظيفة لازدهار الأدب والفنون ولحريتها وقدرتها على التجديد وعلى أداء دورها الرسالي في حياة الجماهير التي ستنقلها الديمقراطية والعدالة الاجتماعية من حال لحال بعد انتشالها من براثن الفقر والجهل والمرض. فتقييد الجماهير هو تقييد للأدب وحريتها هي حرية له وأداة لتجديده.

اقتطف «رجاء» من «طه حسين» هذه الكلمات ليقدم بها كتابه «شخصيات مجهولة في الأدب العربي المعاصر»: «لا أظنني أعرف أدبًا مقيدًا غالبًا في الاحتياط كأدبنا العربي الحديث، الذي ينشئه أصحابه وهم يفكرون في الناس أكثر مما يفكرون في أنفسهم حتى أطمعوا الناس فيهم، وأصبحوا عبيدًا للجماعة وخدمًا للقراء، فلنتمرد على الجماعة ولنثر بالقراء ولننبذ الاحتياط كله إلا هذا الذي يثير الشر أو يؤذي الأخلاق».

وتقييد الحرية يفرض قيودًا على الصدق في التعبير وينتج أدباً زائفًا ومرتعدًا، بينما الصدق ضرورة فنية قبل أن تكون أخلاقية.

يقول «رجاء» مدافعًا عن نشره للرسائل المتبادلة بين الناقد المصري «أنور المعداوي» والشاعرة الفلسطينية «فدوى طوقان» مع قصة حبهما، منتقدًا ما أسماه بالميل للكتمان في الثقافة العربية.. «أحب أن أنسب لنفسي شيئًا واحدًا لست أشك فيه هذا الشيء هو أنني حرصت على أن أكون صادقًا، وقد يكون في هذا الصدق ما يصدم حياتنا الأدبية وحياتنا الاجتماعية... «صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر ». كذلك جمع «رجاء» ببراعة ورشاقة بين الصحافة والأدب، وتمتع بقدرة فذة على أن يرعى صداقة بينهما فلا يتعالى محبو الأدب ومبدعوه على الصحافة، ولا تخاصم الصحافة الأدب بل تفتح له الأبواب والنوافذ على جمهور بالملايين وهو ما يتمناه كل أديب، وهنا أتذكر قول الشاعر والمسرحي الألماني «برتولد بريخت»: كم أتمنى أن يكون للمسرح جمهور كرة القدم.

وقد اجتهد رجاء طيلة عمره لكي يصبح الجمهور العام محبًا للأدب إيمانا منه بدور الأدب في الارتقاء بالإنسان، الأدب عامة والإنسان عامة، فهو كان على ثقة أن هذا الارتقاء سوف يفتح الأبواب للاختيار الصحيح وتعميق الوعي لدى كل هؤلاء الذين يؤمنون بأن الإنسان واحد، وأن الفروق العرقية والطبقية والطائفية ليست إلا عوائق وسترًا تحجب هذه الحقيقة البسيطة، لذا كان جل همه كما يقول «سيف المري» «نشوء جيل من المثقفين يؤمن بفضيلة الحوار ويقدس حق الآخر في التعبير عن رأيه».

وقد بقي «رجاء النقاش» دائمًا وسوف يبقى صوتًا للحرية والعدالة.

فريدة النقاش