الناقد يكمّل الشاعر!

الناقد يكمّل الشاعر!

ربما انتظر القرّاء الأعزاء مني حديثًا غير هذا الحديث عن رجاء النقاش، فرجاء النقاش لم يكن بالنسبة لي مجرد كاتب أو ناقد، وإنما كان توأم روح ورفيق طريق.

لقد ولدنا في وقتين متقاربين لا يفصل بينهما إلا بضعة شهور. ونشأنا في قريتين متشابهتين لا تبعد إحداهما عن الأخرى إلا نصف ساعة بالسيارة. ودخلنا عالم الكتابة في وقت واحد لم نكن فيه متجاوزين فحسب، بل كنا شريكين. فهو الذي قدم ديواني الأول للقرّاء وقدم نفسه لهم بما كتبه عني. وكما كنت موضوعًا لنقده كان هو موضوعًا لشعري. فقد نظمت فيه قصيدة، وأهديت له قصيدة أخرى، عدا بضع قصائد تتصل به بطريق غير مباشر. ولقد عملنا معًا في الصحف، في القاهرة ودمشق، وسافرنا معًا ورجعنا معًا.

كنت كأني فرد من أفراد أسرته، وكان لي كما كنت له. لكني أريد أن أتحدث عن رجاء النقاش الذي يشاركني القراء في معرفته ويربطهم به ما يربطني به. أريد أن أتحدث عن رجاء النقاش الناقد، وناقد الشعر بالذات.

لقد كان بحكم عمله في الصحافة، وتفرغه لها موزعًا بين اهتمامات شتى وواجبات متعددة. يكتب عن الرواية كما يكتب عن الشعر، ويتابع العروض الفنية كما يتابع الإصدارات الأدبية. فإنتاجه غزير يزاحم بعضه بعضًا. ونحن نراه في جملته ولا نكاد نتوقف لنمعن النظر فيه ونميز بين ما كتبه في النقد، وما كتبه في العرض، وما كتبه في التعليق والمتابعة.

ومن الطبيعي وهو يتجه في معظم ما كتبه للقارئ العام أن يحرص على البساطة، ويهتم بقراءة النص مع القارئ أكثر من اهتمامه باستعراض ما يحفظ من المصطلحات والأسماء، أو بتوضيح الأساس النظري الذي ينطلق منه ويستهدي به من القراءة، ويستخرج مقاييسه ويحتكم إليه في التحليل والتقييم. وهو يستخدم لغة حرص دائمًا على أن تكون أليفة، واضحة في كتاباته التي تستحق الآن أن نقرأها من جديد، قراءة جديدة تساعدنا على أن نراها في تطورها وتكاملها، وأن نستخلص منها ما يقوم عليه نقده من أفكار ومبادئ وخبرات لم يجد نفسه مضطرًا دائمًا للتصريح بها، لأنه لم يكن يخاطب قضاة أو يدافع عن أطروحة جامعية، وإنما كان يخاطب قرّاءه الذين يصدقونه، ويثقون في خبراته وقدراته، ويشاطرونه الكثير من آرائه، فبوسعه أن يحدثهم دون تكلف أو تحفظ أو احتياط. وكما لا نجد أنفسنا مضطرين للاستشهاد بقواعد النحو على سلامة لغتنا، ونحن نخاطب مَن يتكلمونها مثلنا، فرجاء لم يكن يجد نفسه مضطرًا لعرض منطلقاته النظرية، كما لم يكن معظم النقاد المصريين وغير المصريين يفعلون، وخاصة حين يتحدثون للقارئ العام أو حين تدلهم خبرتهم على أن منطلقاتهم النظرية معروفة لقرّائهم، فليسوا في حاجة إلى توضيحها من جديد. طه حسين يعلن في مقدمته لـ«حديث الأربعاء» أنه لا يقدم سفرًا ولا كتابًا «فأنا لم أتصوّر فصوله جملة، ولم أرسم لها خطة معينة ولابرنامجًا واضحًا قبل أن أبدأ في كتابتها، وإنما هي مباحث متفرقة كتبت في ظروف مختلفة وأيام متقاربة حينًا، ومتباعدة حينًا آخر، فلست تجد فيها هذه الفكرة القوية الواضحة المتحدة، التي يصدر عنها المؤلفون حين يؤلفون كتبهم وأسفارهم».

هل معنى ذلك أن «حديث الأربعاء» مجرد ثرثرة تفتقر للفكر النقدي أو المنطلقات النظرية؟ لا بالطبع، وإنما الفكر النقدي أساس ثابت في الكتاب غير مرئي ينطلق منه الناقد ويتمثله القارئ الذي لا يسأل غالبًا عن الفكر النظري، وإنما يهمه في المقام الأول أن يعرف رأي الناقد في الأعمال التي يتحدث عنها استنادًا إلى ما يعتنقه من مبادئ وأفكار. وما يقال عن طه حسين في «حديث الأربعاء» يقال عن الناقد الفرنسي سانت بوف في «أحاديث الإثنين».

سانت بوف لم تكن له نظريات خاصة في النقد، لكن كانت له طريقته الخاصة في نقد الشعر والرواية. ومن المؤرخين مَن يعتبره أكثر النقاد إقناعًا على وجه الأرض. وبإمكاننا أن نقول إن رجاء النقاش كان هو الآخر صاحب طريقة، وكان قادرًا على كسب القارئ وإقناعه. إنه الوريث الطبيعي للعقاد، والمازني، وطه حسين، ومحمد مندور، ولويس عوض، وأنور المعداوي، ومحمود أمين العالم، وميخائيل نعيمة، ومارون عبود وسواهم من النقاد المصريين والعرب الذين ظهروا في القرن العشرين، ومارسوا نشاطهم عن طريق الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، فانتعشت بهم الحركة الأدبية، وتكاملت أطرافها وعناصرها، واتصل من خلالها الكتاب بالقرّاء.

ونحن نرى - مع الأسف - أن المسافة أصبحت بعيدة بين نقاد الأمس ونقّاد اليوم الذين يغلب الطابع المدرسي على كتاباتهم، فهم دارسون أكثر منهم نقادًا، لأن النقد ليس مجرد علم أو دراسة أو اطلاع، ولكنه إلى جانب الاطلاع والدراسة كتابة. والنقاد الكبار في كل لغات العالم كتاب كبار. العقاد شاعر، والمازني شاعر وروائي، وطه حسين بدأ بالشعر وانتهى بالرواية، وميخائيل نعيمة، ولويس عوض. وسانت بوف شاعر له أربعة دواوين، وإيليوث شاعر كبير، وناقد كبير.

والإلمام بالقواعد النقدية شيء، وتطبيقها على النصوص لتقييمها والحكم عليها شيء آخر. نستطيع أن نحفظ كل ما يقال في تعريف الشعر وتسمية أشكاله وأدواته، لكننا نحتاج بعد ذلك إلى تلك الملكات والخبرات التي تساعدنا على التذوق لنتمثل الشاعر ونجلس في مكانه وهو يكتب قصيدته ويرسم صورها، ويضبط إيقاعاتها، ويؤلف بين هذه الأدوات ويحوّلها إلى بناء متماسك ناطق بالمعاني والدلالات. إلى أي مدى نجح؟ وإلى أي مدى خانه الحظ؟ لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال من اكتفى بحفظ التعريفات واستظهار القواعد، وإنما يجيب عنها مَن دخل هذه التجربة، وعرف مضايقها ونجح فيها وفشل. فإذا كنا نجد في التعريفات والتحديدات النظرية ما نستطيع أن نستفيد به، فهي لا تغنينا عن النقد التطبيقي الذي لم يعد لدينا مَن يمثله بعد رجاء النقاش.

ولقد يفهم البعض من هذا التمييز أن رجاء النقاش في نقده التطبيقي لم يكن يحفل بالنظريات. وهذا غير صحيح، فثقافة رجاء النظرية واضحة في كتاباته، التي ننظر فيها فنراها مطردة منسجمة يؤدي بعضها إلى بعض، ونجد أن المثل العليا الفنية والفكرية، التي أخلص لها في بداياته هي التي أخلص لها حتى النهاية. سوى أنه لم يكن يبدأ من النظريات، وإنما كان يبدأ من النصوص، كان قارئًا جيدًا قبل أن يكون ناقدًا. كان يعرّض نفسه للقصيدة التي يقرأها ويتركها تمارس فيه فعلها دون أن يتدخل بوعي في ذلك، وإن كان معلومًا أن القصيدة تجد في هذا القارئ ما تخاطبه وتحاوره وتأخذ معه وتعطي. قارئ مخلص مثقف له ذاكرة تستيقظ وتتجاوب، وله خيال خصب وتجارب حية، وله مشاعر وعواطف تستثار. وتلك هي الحالة التي ينقل فيها رجاء لتفسيرها بأن ينظر في القصيدة، وقد وقف على مسافة منها يتأملها، ويضع يده على عناصرها الأولى، ويرى كيف تآلفت وأنبتت وأصبحت ناطقة مؤثرة. وبديهي أنه في هذه المرحلة التي يصف فيها القصيدة ويحللها ويفسرها يبدأ من منطلقات نظرية مضمرة أو معلنة يؤكدها من خلال القراءة، أو يعيد ترتيبها، أو يراجعها ويعيد النظر فيها.

النظريات في نقد رجاء النقاش طريق للقراءة الصحيحة وليست هدفها. النظريات خبرات يستفيد الناقد منها بقدر ما يقتنع بها وبقدر ما يحتاج إليها، وليست عقيدة يستسلم لها استسلامًا كاملاً كما يفعل آخرون.

ولقد تتلمذ رجاء على الرومانتيكيين المصريين الذين قرأ لهم أول ما قرأ، وأخذ عنهم تمرّدهم وثورتهم على الأدب القديم وتقديسهم لفن الشعر باعتباره أصدق تعبير عن روح الإنسان وأكمل تمثيل له.

الإنسان وتجاربه وعواطفه وأحلامه وأشواقه هو موضوع الشعر ومادته وغايته. الإنسان كما يتمثل في الشاعر الذي يملك من المواهب والقدرات ما يستطيع به أن يمثل الإنسان ويجسّده في إبداعاته.

يفترض في الشاعر إذن أن يكون وثيق الصلة بالطبيعة والحياة، متوقد الحسّ مشبوب العاطفة، مخلصًا لما يراه متحررًا من كل ما يمنعه من الرؤية أو يحول بينه وبين الاتصال بالآخرين، اللغة المصطنعة، والتقاليد المتحجرة، والقواعد الجامدة.

هكذا يتحدث الشاعر عن نفسه فيكون حديثه عن الناس جميعًا، لأنه ينفعل بما هو جوهري في تجربته أو يكتشف حتى في تجاربه العادية هذا الجوهر المشترك بينه وبين الآخرين. ورجاء ينطلق من هذا المبدأ في كل ما كتبه عن الشعر.

في مقدمته لديواني الأول يرى أن الشاعر وهو يتحدث عن نفسه يتحدث عن غيره. قصيدة «العام السادس عشر» التي يتحدث فيها عن الحب المحروم، والفناء في الطبيعة، وإيثار العزلة إلى حد التفكير في الانتحار، ليست تعبيرًا عن تجربة شخصية، أو عن مرحلة في حياة الشاعر وحده، ولكنها تعبير عن مرحلة في حياة المجتمع. وكما يتحدث الشاعر عن غيره فيما ينظمه حول الموضوعات العامة والشخصيات الأخرى، سواء كانت حقيقية أو خيالية، فليست هذه الشخصيات وهذه الموضوعات إلا أقنعة للشاعر يتحدث من خلفها عن نفسه، ورجاء النقاش ينطلق من هذا المبدأ في مقالته عن الشاعر محمد الفهد العيسى التي يقول فيها إن هذا الشاعر «ينقل إلينا في ديوانه تجربة إنسانية من نوع خاص، وهذه التجربة التي تسيطر على الديوان من أوله إلى آخره هي تجربة الروح التي تريد أن تتحرر من القيود، وأن تنطلق بغير سدود خارجية أو داخلية تقف أمامها وتعوقها عن الحركة والانطلاق.

إنها تجربة الروح التي تريد أن تطير أو تهاجر أو تبحر أو تتخطى الحدود الجغرافية للنفس الاجتماعية، إذا صح التعبير، إلى النفس الإنسانية الحرة التي لا تعرف كلمة لا ولا كلمة ممنوع، ولا كلمة قف مَن أنت؟!». هذه التجربة التي يعبّر فيها الشاعر عن رغبة عارمة في التحرر والانطلاق، ليست تجربة فردية، وإنما هي تجربة جماعية وتعبير عن «الروح العربية» التي يجسدها الشاعر في ديوانه، كما يرى رجاء النقاش أو بالأحرى عن الروح البدوية «فالعربي القديم كان إنسانًا لا يرضى بالإقامة الطويلة في مكان واحد أو حال واحدة. كان دائمًا يحب الرحيل والحركة والتنقل».

قد نتفق مع رجاء في هذا التخريج وقد نختلف، لكنه شاهد على وفائه للمبدأ الذي انطلق منه وهو أن الشاعر يتحدث عن غيره، وهو يتحدث عن نفسه، يتحدث عن نفسه، وهو يتحدث عن غيره. ففي وجهه تتمثل كل الوجوه، وفي صوته تجتمع كل الأصوات.

في المقالة التي كتبها رجاء عن ديوان صلاح جاهين «عن القمر والطين»، يقول: «من الأهمية بمكان أن نعرف شيئًا عن البيئة التي ولد فيها صلاح جاهين الذي ورث الكثير عن أسرته، كما ورث الكثير عن الشعراء الذين سبقوه. لقد بدأ الشاعر الشعبي بالأنين والشكوى من الحياة والمجتمع، وتطور إلى ثائر متمرد يطلب التغيير السياسي في شخصية عبدالله النديم ويعقوب صنوع. ثم تطور إلى نظرة شعرية، شاملة لأمور المجتمع في الزواج والعمل والعلاقات الاجتماعية المختلفة عند بيرم التونسي. هذا الخط المتطور قد وصل إلى نقطة جديدة عند صلاح جاهين».

هذا التجاوب بين الشاعر وجماعته وعصره تعبير عن وحدة التجربة الإنسانية. التجربة الإنسانية واحدة لأن حاجات البشر واحدة، بالرغم من اختلاف الظروف، والدليل على هذا أن ما نقرأه عن بعض الشعراء العرب، نقرأه عن شعراء أوربيين وغير أوربيين، وفي كتابات رجاء النقاش شواهد كثيرة يقدمها دليلاً على هذا المبدأ الذي يؤمن به. شعر الرومانتيكيين العرب في الحب لا يختلف عن شعر الرومانتيكيين الفرنسيين. والذي قلته أنا عن القاهرة يستدعي عند رجاء ما قاله إيليوت عن لندن. وكما يكتب عن الشعراء العرب يكتب عن بابلونيرودا، وقسطنطين كفافيس، وطاغور، ورسول حمزاتوف معتمدًا على الترجمة العربية لقصائد هؤلاء الشعراء المكتوبة بالإسانية، واليونانية، والإنجليزية، والداغستانية لأنه يعتقد أن التجربة الإنسانية هي جوهر الشعر، وأن الترجمة الأمينة قادرة على أن تحتفظ للشعر بقيمته.

من هنا يتحدث رجاء النقاش عن الشعر بداية مما يسميه إنسانية النص. بقدر ما يعبر النص عن التجارب الإنسانية المشتركة بقدر ما يتحقق شعريًا، وفي هذه الحال، يستحق أن يقرأ ويصبح موضوعًا للنقد.

النقد - إذن - عند رجاء النقاش ليس مجرد حرفة، وإنما هو قبل كل شيء رسالة أو استجابة أخلاقية يكمل بها الناقد ما بدأه الشاعر في تمجيد الحياة التغنّي بها والدفاع عن حق الإنسان في الحرية والعدالة والفرح.

وهذا هو معنى الالتزام الذي آمن به رجاء النقاش، وأخلص له في كل ماكتب.

 


أحمد عبدالمعطي حجازي