النقاش أسَّس عمله على فروض رواد النهضة

النقاش أسَّس عمله على فروض رواد النهضة

مر النهوض العربي في التاريخ الحديث بمعالم وانتقالات تساعد الدارسين والمؤرخين الراصدين على تحديد العوامل الفاعلة في دفع هذا النهوض في اتجاه الإنجاز والتقدم أو في تجميده وشده إلى التخلف والنكوص. وأهم تلك المعالم والانتقالات ما يشهده النهوض العربي منذ منتصف القرن العشرين إلى الآن: نشطت قوى التحديث وحركات التحرر وأخذت المواجهات المشهودة تتنامى لتصفية العدوان الخارجي والتخلف المحلي. ولا ريب في أن الثقافة العربية الراهنة، في هذه العقود الستة كانت أوسع ساحات النشاط والمواجهة، بل إن الأدب ونقده كان أبرز حقول هذه الثقافة العربية الراشهنة من جهة ما نشير إليه هنا. ويمكن لمؤرخ الآداب أن يخرج من الإبداعات الأدبية الحديثة والمعاصرة وما أضاءها من دراسات وأنظار بأدق خريطة لتاريخ العرب المحدثين. لقد اصطنع المبدع العربي، من طلائع الكتاب والشعراء، أدوات تشكيله الجمالي من المجازات والرموز، ليصوغ أبنية إبداعية روائية ومسرحية وقصصية وشعرية تستلهم الموروثات وتضيء الجاريات وتلتحم بالمستحدثات، كذلك اصطنع المفكر العربي إجراءات النقد الأدبي ونظرياته ومناهجه سبلا إلى معالجة المسائل السياسية والاجتماعية والفكرية أدوات ماضية في معارك العقلانية والتحرر والتقدم. إن النهوض العربي يشهد عثرات وعقبات جمة وليس الإبداع الثقافي بعيدًا عن ذلك، بخاصة في قضايا الحريات والتطور الديموقراطي، غير أن الإبداع بالذات في الأدب ونقده يظل بما يملك من إجراءات وأدوات وتشكيلات الميدان الطليعة بين ميادين النهوض. تمر الحياة العربية الراهنة، منذ منتصف القرن الماضي بأدق مراحل نهوضها في التاريخ الحديث. وقدر لرجاء النقاش أن يبدأ صعوده مع بواكير هذه المرحلة، وأن يواكب وقائعها ومواقعها إلى أن انتقل إلى رحاب ربه منذ أسابيع. لقد تخرج في جامعة القاهرة سنة 1956 بعد أن درس علوم العربية وأدبها بكلية الآداب، في سنوات الدرس، وبعد التخرج لمع اسمه بسرعة واستقر واحدًا من شباب المفكرين والكتاب. وفي الثلاثين من عمره صار قيادة ثقافية مسئولة، ينظم جهات الإنتاج الإعلامي والثقافي التي يتولى شئونها، وينشئ الدوريات الثقافية ويرأس مجالس التحرير والإدارة، وييسر العمل والنضج للصاعدين من المبدعين. وفي هذا الصدد يقف مؤرخ النقاش عند أمرين في حياته الثقافية العامة. ونرى في الأمر الأول أن الرجل في كل المواقع التي شغلها كان مهمومًا باكتشاف أصحاب المواهب من الأدباء والشعراء، ويعرف الكافة أنه صاحب المقدمة المرموقة لديوان «مدينة بلا قلب» أول أعمال أحمد عبدالمعطي حجازي، وأنه أول من قدم شعراء المقاومة الفلسطينية محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم، وهو الذي قدم للناس الروائي الجهير الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال». وفي هذا الأمر الأول نرى الرجل يؤسس جملة من الصحف والدوريات العصرية «الدوحة»، ويرأس تحرير دوريات ثقافية عريقة «الهلال». وفي كل آفاق الاكتشاف والتقديم والتأسيس كان رجاء المثال الفريد للمفكر المسئول والقيادة الثقافية العصرية المستنيرة. ونرى في الأمر الثاني أن النقاش يحدوه حسه الملتزم ووعيه بالصراعات والتناقضات التي يمور بها واقع النهوض وحركته، قد وجد نفسه بفكر مسئول يقظ طرفًا في كل ذلك وبالذات في جدلية الفكر السياسي. ومعلوم أن النهوض قد أثار ثم أنضج مسألتين في الفكر السياسي العربي وفي الرؤى الاستراتيجية عامة، كانت الأولى ثنائية القطري والقومي، وكانت الثانية ثنائية الشرق والغرب. وهما مسألتان شغلتا - ولاتزالان - مساحة ملحوظة في ثقافتنا الحديثة. ولم يكن النقاش منذ فجر صعوده حتى رحيله من الغلاة، وليس معنى ذلك أنه لم ينحز، وإنما معنى الكلام هنا أن سعيه في العبارة عن مواقفه إلى النهج العقلاني النقدي وإلى سبيل المحاورة والمصالحة، دون توفيقية شكلية ودون تلفيقية سطحية. لقد وقع في فكر بعض من أساتذته ومجايليه على من يغلو في تقديم «المصرية» تقديمًا مغلقًا مطلقًا، ووقع من ناحية ثانية في فكر بعضهم على من يغلو في تقديم «العروبة» بذات الأفق. وتبدت المسألة في جملة صالحة من كتابات النقاش الذي جرى فيها مجرى المجادلة الكريمة والمحاورة التي تعتمد أدبيات رفيعة، ومنازلته الفكرية للرائد الراحل لويس عوض معروفة. لقد صدر النقاش في هذا الأمر عن يقين التيار الغالب بين المثقفين المصريين الذين ينفون الثنائية ويرون تاريخ مصر الطويل مراحل وحلقات متتابعة آخرها المرحلة العربية الإسلامية التي ورثت الأبنية الحضارية والثقافية العتيقة. وتوسل النقاش في المسألة الثانية - ثنائية الشرق والغرب - بذات النظر والنهج، فميز بين معارك التحرر الوطني الساخنة لتصفية العدوان الاستعماري الغربي (وله كتاب مبكر عن النضال الجزائري: ثورة الفقراء) وبين الحقيقة التاريخية ومدارها التأثير والتأثر بين الحضارات والثقافات، ومال إلى صفوف المثقفين السعاة إلى المشترك الثقافي الإنساني، وتبدى هذا الميل في تفتحه على الموروثات من الخوالد الإبداعية والفكرية، قديمة ووسيطة وحديثة.

لكن الساحة الحق والأوسع لعمل النقاش إنما كانت النقد الأدبي، فقد نزل إلى هذه الساحة في الخمسينيات الباكرة، وكان في سنوات الدرس وهو حول العشرين. وفي ذلك الحين كان الأدب العربي الحديث قد نضجت حركته في نهرين عظيمين، الأول تجديد الأصيل وهو الشعر العربي، والثاني تأصيل الجديد وهو الأنواع الأدبيةالمستحدثة المسرحية والرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية. ومع مياه هذين النهرين جرت جهود رواد النهضة في الإجراءات التطبيقية والأصول المنهجية والأنظار والمذاهب والفلسفات الجمالية. وقد جالت هذه الجهود في آفاق الموروثات اللغوية والبلاغية العربية الموروثة، وفيما تعرفه الدوائر العالمية العصرية من مناهج ومذاهب ومدارس وإجراءات النظر والتطبيق. وسطعت جهود الرواد العرب المحدثين في فروض أربعة: مدار فرض طه حسين مقولة «العصر» التي تجلت في تعامله مع نصوص الشعر العربي من المعلقات حتى إبداع شعراء عصره. ومدار فرض أمين الخولي مقولة «البيئة» التي أقام عليها وجهته في بيان خصوصية لأدب مصر الإسلامية داخل دائرة الأدب العربي. أما فرض محمد مندور فكان مقولة «المجتمع» بالإعتداد بالعوامل التاريخية الاجتماعية الفاعلة في إبداع الأدب وتطوره. وأما فرض لويس عوض فقام على مقولة «الفكر» بالاعتداد بأثر العقائد والملل والنحل والمذاهب والايديولوجيات في عمل المبدع وتحديد وجهة مواقفه الاجتماعية والفكرية ودلالات أعماله ورموزها. وقد اتصل رجاء النقاش بهؤلاء الرواد الأربعة وتتلمذ عليهم وأخذ عنهم وأسس عمله على جهودهم وفروضهم. بيد أنه لم يكن يميل إلى الانظار والمذاهب والمناهج. إنما كان ميله الأصيل إلى النقد التطبيقي أي إلى الاتصال المباشر بالأعمال والتعامل التحليلي للنصوص، فإن وقف مسرعًا عند شيء من النظر النقدي فعند فرضي طه حسين ومحمد مندور. وجملة تراثه من النقد التطبيقي نماذج طيبة باقية في هذا الباب. وفي هذا التراث ملامح ثلاثة: الأول أنه أخذ نفسه بحزم ملموح في تربية ذائقته الجمالية وتنمية معرفته الأدبية، بدوام التذوق والدرس لأمهات الموروثات والإبداعات، وكانت ثمرة هذا المنحى لديه الطبع المصقول والفكر المسئول. وقد عصمته هذه الثمرة من الوقوع فيما تقع فيه المعالجات الصحافية في الصحف السيارة كما عصمته من الضيق الأكاديمي القواعدي. والملمح الثاني أن تطبيقات النقاش وتحليلاته «تعليمية» تخفى إلا علىالراصد المحقق. هي خافية لأنه كان يتوخى ألا تبدو في كتاباته أية مدرسية أو أي استعلاء، خاصة أنه يسعى إلى المبتدئين والصاعدين، فكان يداري أي نزوع إلي التعليم والتوجيه. وأما الملمح الثالث فقد كان شغفه بالموازنة والمقارنة، فأما الموازنة فبين العمل الذي يتناوله وسائر أعمال المبدع، وأما المقارنة فبين مشروع هذا المبدع وغيره من مشروعات الإبداع الموروث والمشروعات الإبداعية العالمية قدر الإمكان.

إن مؤرخ الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة سيجد في تراث رجاء النقاش ما يجعله يضع الرجل في محل مرموق من تاريخ هذه الثقافة.

 

 

عبدالمنعم تليمة