ماما خرجت يوسف حلاق

قصة: فالنتين رسبوتين

فتح الصبي الصغير عينيه ورأى ذبابة تزحف على السقف، غمز عينيه وأخذ ينظر إلى أين ستزحف.

كانت الذبابة تزحف باتجاه النافذة، كانت تركض دون توقف، وكان يتم لها هذا بسرعة كبيرة. قرر الصبي الصغير أنها تركض في طريقها وأخذ ينظر إن كانت ذبابة أخرى ستزحف إثرها كيما يتأكد أن هذا هو طريق فعلا، لكن لم تظهر أي ذبابة أخرى.

وفي الحقيقة كان هناك ذباب، لكنه لم يكن يزحف على السقف، وفقد الصبي الصغير اهتمامه به بسرعة. استوى قليلاً في سريره وصاح:
ماما، استيقظتُ.
لم يجبه أحد.
ماما. قال مناديا: أنا بطل، استيقظت وحدي. صمت
انتظر الصبي قليلا، لكن الصمت لم ينته.

عندئذ وثب من سريره وهرع حافيا إلى الغرفة الكبيرة، كانت الغرفة خالية، نظر على التوالي إلى الأريكة، إلى الطاولة، إلى رفوف الكتب، لكن لم يكن أحد إلى جانبها. كانت هذه موجودة في مكانها شاغلة المكان الذي يجب أن تشغله وحسب.

اندفع الصبي إلى المطبخ فالحمام، وهناك أيضا لم يكن أحد يختبئ.

ماما. صرخ الصبي.

تلقى الصمت صرخته، امتصها ثم عاد وانغلق على نفسه، ولم يصدق الصبي الصمت فاندفع إلى غرفته من جديد مخلفا بعقبيه وأصابعه الحافية على أرض الغرفة المطلية آثارا كانت تذوب إذ تتجمد وتختفي.

ماما. قال الصبي بأكبر قدر ممكن من الهدوء، لقد استيقظتُ وأنت غير موجودة.

صمت.

أنت غير موجودة، أليس كذلك؟

وانقبض وجهه في انتظار الجواب.

أدار الصبي وجهه في كل الجوانب، لكن الجواب لم يأت، وبكى الطفل.

ومضى وهو يبكي إلى الباب وأخذ يدفعه، لكن الباب لم يطاوعه. عندئذ خبطه براحته، ثم دفعه برجله الحافية فجرحها وبكى بصوت أعلى.

كان يقف في وسط الغرفة، وقد أخذت قطرات كبيرة دافئة تتدحرج في عينيه وتسقط على الأرض المطلية، ثم جلس دون أن يكف عن البكاء. كان كل ما حوله ينصت، وكان كل شيء صامتا.

كان ينتظر أن يسمع بعد قليل وقع خطوات خلفه، لكن هذه الخطوات لم تسمع، ولم يستطع أن يهدئ روعه بأي شكل كان.

استمر هذا طويلاً، لكن كم؟ ليس يدري. وأخيرا استلقى على الأرض وأخذ يبكي وهو مستلق. بلغ به التعب حدا كف معه عن الشعور بنفسه، ولم يعد يعي أنه يبكي، صار هذا البكاء طبيعيا كالتنفس ولم يعد قادر على التحكم فيه، على العكس كان البكاء أقوى منه .

وفجأة بدا للصبي الصغير أن هناك شخصا ما في الغرفة. هب واقفا على قدميه بسرعة وأخذ يتطلع فيما حوله. هذا الإحساس الذي جعله يهب واقفا لم يزل عنه، فهرع الفتى إلى الغرفة الأخرى، ثم إلى المطبخ فالحمام، وهناك أيضا لم يظهر أحد. عاد الصبي وهو ينشج وغطى عينيه براحتيه، ثم رفعهما بعد قليل وتطلع حوله مرة أخرى. لم يتغير شيء في الغرفة، الأريكة كانت خالية، الطاولة كانت تنتصب وحدها، على الرفوف كانت الكتب مصفوفة كما كانت دائما، لكن كعوبها المتعددة الألوان كانت تنظر نظرات حزينة وعمياء. واستغرق الفتى في التفكير.

لن استمر في البكاء، قال الصبي الصغير لنفسه، الآن تأتي ماما، يجب أن أكون بطلا. مضى إلى السرير ومسح بالملحفة وجهه المبلل بالدموع، ثم طاف على مهل وكأنه يتنزه بكل ما في الشقة، وهنا خطرت له فكرة باهرة:

ماما، قال بصوت منخفض: أريد المبولة!

لم يكن يريد المبولة، لكن المبولة كانت الشيء الذي بإمكانه أن يجعل أمه تهرع إليه على الفور فيما إذا كانت في البيت فعلا.

ماما، كرر النداء.

لكن أمه لم تكن في البيت، والآن فقط أدرك الطفل هذه الحقيقة نهائيا.

كان يجب أن يفعل شيئًا. " ألعب الآن قليلا وتأتي ماما "، قرر في نفسه، اتجه إلى الركن حيث لعبه كلها وأخذ الأرنب. كان الأرنب أحب لعبة إليه، وكانت إحدى رجليه قد خلعت، وكان والده عرض عليه عدة مرات أن يعيد إلصاق هذه الرجل، لكن الصغير لم يوافق بأي شكل كان، فليس في أرنب برجلين ما يحب، ولهذا بقي الأرنب برجل واحدة، أما الثانية فكانت ملقاة في مكان ما هنا، وكانت تعيش الآن حياة مستقلة بذاتها.

هيا نلعب يا أرنب، اقترح الصبي.

وافق الأرنب بصمت.

أنت مريض، رجلك تؤلمك، سأعالجك الآن، وضع الصبي الصغير الأرنب على السرير وجاء بمسمار وغرزه في بطن الأرنب كما لو أنه يعطيه حقنة. كان الأرنب قد اعتاد الحقن ولم يكن يبدي أي رد فعل عليها.

فكر الصبي ثم ابتعد عن السرير وكأنما تذكر شيئا، وألقى نظرة على الغرفة الكبيرة، لم يكن قد تغير شيء هناك، وكان الصمت كما في السابق يتهادى من زاوية إلى أخرى. تنهد الصبي وعاد إلى السرير ونظر إلى الأرنب. كان هذا يرقد بهدوء على الوسادة.

لا، ليس هكذا، قال الصبي: الآن أنا سأكون الأرنب وأنت الصبي الصغير، أنت ستعالجني.

أجلس الأرنب على الكرسي ورقد هو في السرير وثنى إحدى رجليه وبكى. كان الأرنب الجالس في كرسيه ينظر إليه بعينيه الزرقاوين الواسعتين في دهشة.

أنا الأرنب، ورجلي تؤلمني، قال الصبي الصغير شارحا.

ظل الأرنب صامتا.

قل لي يا أرنب، إلى أين خرجت ماما؟

لم يجب الأرنب.

أنت لم تنم، أنت تعرف، قل لي أين خرجت ماما؟، طالبه الصغير بالجواب وأمسكه بين يديه.

ظل الأرنب على صمته.

نسي الصغير أنه فيما مضى كان هو الذي يجيب عن الأرنب دائما مؤديا دورين في الوقت نفسه، أما الآن فهو يطالب بشكل جاد الأرنب بجواب. نسي أن الأرنب ليس سوى لعبة من لعبه، سوى لعبة بين المكعبات التي لم يكن يركب بعضها بعضا إلا حين كانوا يركبونها، وبين الآلات التي لم تكن تسير إلا حين كانوا يسيرونها، وبين الحيوانات التي لم تكن تزمجر وتنطق وتتحدث إلا حين كان أحد يزمجر وينطق ويتكلم عنها. لقد نسي هذا كله الصبي الصغير. وكان يطالبه بإلحاح:

تكلم، تكلم!

لكن الأرنب كان يمعن في صمته.

قذف الصغير بالأرنب أرض الغرفة، ووثب في سريره وهجم على الأرنب وأخذ يدوسه. كان الأرنب يتدحرج على الأرض، يقفز، يدور والفتى الصغير بدوره يتدحرج وراءه، يدور حوله ويكرر: " تكلم، تكلم، تكلم "، لكن الأرنب لم يكن يجيبه ولم يكن بوسعه الهروب منه، فقد كان برجل واحدة، وفجأة أدرك الصبى هذا فتوقف، وقف وأخذ ينظر إلى الأرنب وهو يبكي بصمت ووجهه منكب على أرض الغرفة، وسمع الصبي الصغير هذا البكاء، فانحنى فوق الأرنب وبسط يديه وقال بصوت مذنب:

ماما خرجت.

وفجأة تهيأ للصبي الصغير أن أحدهم يصعد الدرج.

ماما، صاح الصبي وهو يندفع إلى الباب، لكنه ارتطم بالأريكة وسقط على الأرض.. نهض أصاخ

السمع، لكن أحدا لم يكن خلف الباب، عندئذ بكى الصغير من جديد، كان يبكي من الألم والوحدة، كان الصغير يعرف ما هو الألم، أما الوحدة فلأول مرة كان يلتقي بها.