عن الشعر والحرب أغاني الحروب الصليبية

عن الشعر والحرب أغاني الحروب الصليبية

في ظل انتشار الأمية في أوربا أثناء القرون الوسطى، كانت الأغاني هي وسيلة مخاطبة الناس وحثهم على دعم الحروب الصليبية التي كانت تدور - كدأب أوربا دائما - في بلاد بعيدة عنهم.

كان القرن الثاني عشر فترة زمنية فارقة في التاريخ الأوربي على عدة مستويات، فعلى المستويين السياسي والعسكري شهد نجاح الحركة الصليبية في إقامة كيان استيطاني على أرض المنطقة العربية في بدايته، وشهد هزيمة الجيوش الصليبية في حطين، ثم تحرير مدينة القدس في أواخره، وعلى المستوى الاقتصادي شهد بداية نمو البورجوازية الأوربية ودورها في التجارة العالمية، فضلا عن نمو المدن في أوربا نفسها. وعلى المستوى السكاني شهد زيادة في السكان، وارتفاعًا في مستوياتهم الصحية والغذائية بصورة نسبية، كما شهد استعمار واستيطان مناطق جديدة في وسط أوربا وشرقها. وعلى المستوى العلمي والثقافي شهد القرن الثاني عشر فترة مخاض ثقافي مهمة، فقد بدأ ظهور الجامعات، وإحياء الفكر الأرسطي، وبزوغ النزعة الفردية، وتأثير الفلسفة الإغريقية من خلال الترجمة العربية وشروحها. ومن ناحية أخرى، بدأت تتبلور اللهجات واللغات المحلية التي كتب بها بعض الشعراء. وربما يكون هذا هو السبب في أن بعض المؤرخين أطلقوا على هذه الفترة اسم «نهضة القرن الثاني عشر».

ولا يعني هذا، بأي حال من الأحوال، أن معرفة القراءة والكتابة كانت منتشرة بين الأوربيين في تلك الفترة، بل إن العكس هو الصحيح تمامًا. فقد كانت الأمية سائدة في أوربا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وانحصرت معرفة القراءة والكتابة في نطاق فئة قليلة من رجال الكنيسة الكاثوليكية وأبناء الطبقة الحاكمة. ومن ناحية أخرى، كانت القراءة أوسع انتشارًا من الكتابة التي كانت أكثر صعوبة بطبيعة الحال، كما أن محدودية إنتاج النسخ من المخطوطات اليدوية أدت إلى الاعتماد على الرواية الشفوية، والتناقل الشفوي للمعرفة. وقد أدى هذا إلى أن تكون الأعمال المكتوبة محدودة في نطاق اللغة اللاتينية من جهة، وانحصار جمهورها في رجال الكنيسة الكاثوليكية ورجال البلاط المتعلمين من جهة أخرى.

في ظل هذه الظروف، كانت الأغاني وسيلة مهمة في مخاطبة جماهير الناس في أوربا لا سيما فيما يتعلق بالحركة الصليبية التي كانت حدثًا فذا في تاريخ أوربا منذ بداية القرن الثاني عشر. ومن المهم أن نشير إلى أن «نهضة القرن الثاني عشر» كانت تغطي تقريبا الفترة التي شهدت الحملات الصليبية الأربع الأولى (1096 - 1203م) وهي تسمية تصدق جغرافيا على المنطقة التي كانت تضم الأراضي الفرنسية والألمانية إلى حد كبير. وأهم المؤلفات الأدبية التي كُتبت باللغة المحلية في القرن الثاني عشر، سواء من حيث عددها أو من حيث عناصرها الأساسية وأساليبها الفنية، هي تلك التي كُتبت بلهجات جنوب فرنسا وشمالها. ولا بد لمن يقرأ الأدب الفرنسي الذي أنتج في القرن الثاني عشر أن يرى للوهلة الأولى انعكاسًا لبعض الجوانب المهمة لحركة التغير الفكري والاجتماعي. في أوربا آنذاك.

وكانت أغاني الحروب الصليبية واحدة من تجليات نهضة القرن الثاني عشر من ناحية، ونتاجًا ثقافيا للحروب الصليبية من ناحية أخرى. وعلى الرغم من أن مؤرخي الأدب اصطلحوا على تسمية هذه الأغاني باسم «أغاني الحروب الصليبية»، فإنها لم تكن نوعًا جديدًا من أنواع الشعر «العلماني» المكتوب باللغات المحلية، وإنما جاءت ضمن سياق الشعر المحلي في مناطق الغرب الأوربي الذي كان يدغدغ مشاعر الزهو الكاذبة لدى النبلاء الإقطاعيين. ففي أغاني هذا النوع الشعري الذي كُتب لتسلية أبناء الأرستقراطية الاقطاعية، كانت صورهم تبدو على النحو الذي يحبون رؤية أنفسهم فيه. ومن المؤكد أن هذه الأغاني كانت متداولة شفويًا في غالب الأحوال. وهي تصور الإقطاعيين باعتبارهم زعماء المجتمع، وتصور الملك أو الإمبراطور بعيدًا، أو ضعيفًا وجلًا، كما تصور رجال الكنيسة على أنهم مجرد مساعدين للنبلاء الإقطاعيين، وتصور الفلاحين في شكل قوة اجتماعية يمكن تجاهلها، فليس لهم من وظيفة سوى أن يكدوا ويكدحوا من أجل سادتهم وتحصدهم مجازر الحروب الإقطاعية.

نصوص شفاهية لجمهور الأميين

من هذه الخلفية برزت «أغاني الحروب الصليبية» استجابة للحدث الأكبر في تاريخ أوربا منذ نهاية القرن الحادي عشر حتى نهاية القرن الثالث عشر على أقل تقدير. ومنذ النصف الأول من القرن الثاني عشر بدأت أخبار الحملات الصليبية تظهر في الاغاني التي كتبت باللغات المحلية، ولكن الاغاني التي جعلت الحروب الصليبية موضوعها الوحيد قليلة للغاية فيما بقي من هذه الأغاني. بيد أن هناك كثرة من الأغاني التي تلعب فيها الحملة الصليبية دورًا ما، وربما يكون هذا الدور واحدًا من موضوعات الأغنية، وربما تستخدم «الحملة الصليبية» في الأغنية باعتبارها قصة مجازية، وربما تكون الأغنية تطورًا لفكرة وردت في أغنية أخرى. ومن المهم أن نلاحظ أن ما بقي من «أغاني الحروب الصليبية» عدد قليل نسبيًا، إذ لم يصلنا سوى مائة وست أغاني كتبت باللغة الأوكسيتانية (أي اللغة الأدبية بجنوب فرنسا آنذاك)، وحوالي أربعين أغنية باللغة الفرنسية الشمالية، وثلاثين باللغة الألمانية وأغنية واحدة بالإسبانية، وأغنيتين باللغة الإيطالية.

ومن المهم أن نلاحظ أن العدد الأكبر من هذه الأغاني قد ضاع بمرور الزمن، لأن غالبيتها كانت في أصلها قد نُظمت باللهجات المحلية شفاها، وكان يتم تداولها شفويًا وضاعت بعد أن تلاشى الاهتمام بالحروب الصليبية في الشرق بعد سقوط عكا في أيدي القوات المصرية والشامية والعراقية بقيادة السلطان الأشرف خليل بن قلاوون سنة 1291م ميلادية. ومن المرجح أيضا ضياع نصوص عدد آخر من الأغاني التي كانت مكتوبة. وربما نستنتج من هذا العدد القليل من «أغاني الحروب الصليبية» الباقية أن غالبية هذه الأغاني لم تكتب أصلًا لأن جمهورها كانوا من الأميين. ومن ناحية أخرى، فإن غالبية النصوص التي وصلتنا كانت من تأليف شعراء معروفين، ومن ثم لم تلق مصير «الأغاني الشعبية» التي كانت شفاهية ومجهولة المؤلف في آن، ولم تحظ بالتدوين، مما جعل معظمها يندثر بعد فشل المشروع الصليبي في المنطقة العربية.

هذه النماذج الباقية من «أغاني الحروب الصليبية» تكشف عن رؤية الناس من أبناء الطبقة الأرستقراطية في مجتمعات أوربا القرنين الثاني عشر والثالث عشر لهذه الحروب وأحداثها، كما تكشف عن اتجاهاتهم، ومواقفهم، ومدى تفاعلهم مع الحملات الصليبية المختلفة. ومن ناحية أخرى، تكشف هذه الأغاني عن نوعية خطاب الدعاية والتحريض على الانضمام للحملات الصليبية المتوجهة نحو الأراضي المقدسة. وفي بعض الأحيان نجد قدرًا مدهشًا من التوافق بين بعض ما ورد في «أغاني الحروب الصليبية»، وما جاء في كتابات المؤرخين المعاصرين من الأوربيين الذين كتبوا عن الحملات الصليبية.

لقد وضع الشعراء الذين كتبوا هذه الأغاني موضوع الحملات الصليبية، صراحة أو ضمنًا، في تنويعة كبيرة من الأشكال الشعرية التي كانت سائدة في أوربا في ذلك الحين، فقد ورد موضوع الحملات الصليبية في أغاني السيرفنتس Sirventes (وهي أغان تضع نقاطًا سياسية، أو أخلاقية، أو شخصية) كما ظهر هذا الموضوع في الأغاني المعروفة باسم أغاني الرعاة Pastorela (وهي نوعية من الأغاني تتحدث عن غادة جميلة تنعي حبيبها الغائب).

كذلك ورد موضوع الحروب الصليبية في الأغاني التي تتحدث عن البلاط وغرامياته، وفي المراثي التي تتحدث عن الأبطال الذين سقطوا في الحرب، وفي أغاني المديح، أو الجدل، وفوق هذا وذاك وردت الحروب الصليبية في أغاني التروبادور الشهيرة. ويعني هذا، في التحليل الأخير، أن الشعراء الذين كتبوا «أغاني الحروب الصليبية» لم يبتكروا نوعا شعريًا جديدًا لهذا الموضوع، وإنما وضعوه في الأنواع الشعرية التي كانت قائمة بالفعل.

أنشودة أنطاكية

من ناحية أخرى، لم تبق من الأغاني التي تتحدث عن الحملة الصليبية الأولى سوى أنشودة أنطاكية Le chanson d'Antioche التي كتبت باللغة الفرنسية، كما كتبت نسخ منها باللغة الأوكسيتانية. ويرجع الفضل الأساسي في انتشارها إلي المنشدين الجوالين الذين كانوا ينشدونها على مسامع الجماهير الأميين بمصاحبة آلاتهم الموسيقية. وتحكي هذه الأغنية الملحمية التي تقع في عدة مئات من الأبيات قصة حصار الصليبيين لأنطاكية في أثناء أحداث الحملة الصليبية الأولى التي جرت في السنوات الأخيرة من القرن الحادي عشر. وقد حولت «أنشودة أنطاكية» القصة التاريخية التي جرت أحداثها حول انطاكية، وفي داخلها إلى نوع من الملحمة الأسطورية التي تحكي عن بطولات خارقة، وأدوار قتالية للقديسين لمساندة الصليبيين أثناء معاناتهم في أنطاكية. وكانت الجماهير تستمتع بالإنصات إلى الرواة الذين ينشدون أبيات هذه الأغنية الملحمية التي بلورت انتصارات الحملة الصليبية الأولى بطريقة أحبوها. ومن الواضح أن هذه الأغنية الملحمية قد راجت في أنحاء فرنسا بدليل ذلك العدد الكبير من النسخ الذي تم العثور عليها من هذه الأنشودة.

أما الحملة الصليبية الثانية، التي جردها الغرب الأوربي ردًا على نجاح عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود في استرداد الرها من الصليبيين سنة 1144م، فقد كانت موضوعًا لعدد من الأغاني لم يبق منها سوى أغنية واحدة باللغة الفرنسية الشمالية، وعشر أغاني أخرى باللغة الأوكسيتانية. وقد كان على رأس الحملة الصليبية الثانية اثنان من رءوس أوربا المتوجة، لويس السابع ملك فرنسا والإمبراطور الألماني كونراد الثالث الذي هزمه الأتراك السلاجقة ومزقوا جيشه.

وكان الملك الفرنسي لويس السابع قد خرج في حملته الصليبية. ومعه زوجته البانور الأكويتانية، في الثاني عشر من يونيو 1147م. وعلى الرغم من الفشل الذي حاق بحملة لويس على المستوى العسكري والشخصي (فقد أحبت زوجته واحدًا من ضباطه وانتهى الأمر بالطلاق) فإن أغاني الحروب الصليبية الباقية عن هذه الحملة تكشف لنا نوعية خطاب الدعاية الصليبية آنذاك:

ضاعت الرها وعليكم إنقاذها
فما الذي يخشاه المسيحيون
فالكنائس نهبت وحل بها الدمار
ولم يعد هناك أحد يضحي للرب
تدبروا أيها الفرسان وفكروا
يا من بيدكم السلاح
قدموا أجسادكم هبة للذي
من أجلكم رفع على الصليب

هذه الأغنية التي تساءلت عمن سوف يصحب لويس السابع في حملته الصليبية تدخل في صلب الدعوة الصليبية، فإنها تستحث النبلاء على أخذ شارة الصليب، والتشبه بالملك لويس السابع الذي هجر مملكته، وتخلى عن مظاهر العز والرفاهية من أجل المسيح الذي رضي لنفسه بالصلب من أجل المسيحيين. وتتحدث الأغنية عن الانتقام من «أعداء الرب» وتقول إن الفردوس والجحيم موجودان، وإن على المرء أن يختار فيما بينهما. ثم تقول إن الرب قد حدد موعد اللقاء في الرها حيث سيغفر خطايا أولئك الذين يحاربون «أعداء الرب».

إنه يدعوكم الآن لأن الكنعانيين
وأتباع زنكي الأشرار
قد مارسوا الكثير من الحيل الشريرة ضده
وعليكم أن تكافئوهم الآن بما يستحقون

ولسنا هنا بصدد الرصد الزمني التتابعي لأغاني الحروب الصليبية وفقًا للمجرى التاريخي للحملات الصليبية نفسها، ولكننا سنوضح ما تحمله هذه الأغاني من قيم وأفكار واتجاهات.

لقد كان هناك عدد من الشعراء الذين كتبوا أغاني الحروب الصليبية من بين قادة الحملات الصليبية، مثل ثيبو الرابع أمير شمباني، وفولكيبه أسقف تولوز، ونبلاء بارزون. وعلاوة على ذلك كان كثير من الشعراء الذين وصلتنا أغانيهم ينعمون برعاية كبار الصليبيين وحمايتهم. ولذلك كان من بين موضوع أغاني الحروب الصليبية الإشارة إلىكرم هؤلاء الصليبيين الذين يقدمون الرعاية ومآثرهم الحربية.

أشعار البلاط

وكان الشعراء الصليبيون ورعاتهم على صلة بالأحداث، بيد أن هناك أسبابا أخرى للدور الذي لعبه الصليبيون في شعر البلاط آنذاك. ولا عجب في أن هذا النوع الشعري يبالغ في مديح القيم والفضائل التي كانت الأرستقراطية الأوربية تزعم أنها تتحلى بها، ويشعر أبناؤها أنها تميزهم عن أبناء الطبقات الأخرى. وهنا نجد أن غالبية الشعراء من هذا النوع يعبرون عن الحملة الصليبية بمصطلحات تعبَّر عن العلاقات الاقطاعية بقيمها وفضائلها المزعومة وأهمها الواجبات الإقطاعية التي تحتم على الفارس مساعدة سيده ضد هجوم العدو، فالأرض المقدسة تُصور باعتبارها أملاك الرب التي اغتصبها الناهبون، ومن ثم يجب على أتباعه أن يبذلوا جهدهم لإعادتهم إليه. فإن لم يفعلوا فإنهم بذلك لا يقومون بواجباتهم الإقطاعية.

وتقول أغنية فرنسية صليبية:
إنك لمحظوظ حقا أيها الفارس
لأن الرب دعاك لمساعدته
ضد الأتراك والمسلمين
الذين ارتكبوا ضده مثل هذه الفظائع
فاستولوا على أملاكه دون وجه حق
وعلينا أن نأسى لهذا حقًا
لأن هناك وللمرة الأولى
تمت عبادة الرب وتم الاعتراف بربوبيته

وهنا نجد الأغنية تدور في مصطلحات تتحدث عن الواجبات الاقطاعية، فتصور الرب سيدًا إقطاعيًا، والفرسان في صورة من يدينون له بنوع من الحماية التي يدينون بها لسادتهم الإقطاعيين.

وفي عدد من «أغاني الحروب الصليبية» يتم تصوير الحملة الصليبية باعتبارها الفرصة السانحة للفرسان والبارونات لإظهار أنهم يتمتعون بالخصال التي تميز طبقتهم الارستقراطية ويمتازون فيها:

«أيها الرب، لقد كنا زمنًا طويلًا
شجعانًا فيما لا نفع فيه
وسنرى الآن من سيكون شجاعًا بحق
سنذهب الآن للانتقام من العار الشائن
الذي يوجب على كل امرئ أن يكون آسفًا يملؤه الأسى
لأنه في زماننا ضاعت الأرض المقدسة
التي عانى فيها الرب العذاب من أجلنا
فإذا ما سمحنا الآن لأعدائنا الفانين بالبقاء هناك
ستكون حياتنا عارًا إلى الأبد.

أغاني الفرسان

لقد كان على طبقة الفرسان في أوربا العصور الوسطى واجب أخلاقي يتمثل في تجنب العار والتسكع دونما عمل، والتحلي بالشجاعة التي كانت من جوهر الأخلاق الفروسية. ومن ثم نجد هذه الأغاني تخاطبهم غالبا بكلمات مثل «أيها الفارس» أو «سيدي» أو «البارون» وقد وفرت الأيديولوجية الصليبية بناًء شعريًا مكتملًا تتجلى فيه الوظيفتان الأساسيتان للبلاغة كما فهمها شعراء العصور الوسطى الأوربيون: وهما المديح واللوم. فالمديح من نصيب الذين لبوا الدعوة الصليبية، أما الذين صموا آذانهم عنها فقد حق عليهم اللوم.

كل الجبناء سوف يبقون
أولئك الذين لا يحبون الرب أو الفضيلة
أو الحب أو الجدارة
وكل منهم يقول: ولكن ماذا عن زوجتي؟
لن أترك أصدقائي بأي ثمن
مثل هؤلاء سقطوا في درب التفكير الأخرق
فلا صديق حقا سوى
ذلك الذي صُلب من أجلنا

لقد كانت الحروب الصليبية في عيونهم محك الالتزام الأخلاقي، كما كانت المعيار الاجتماعي الذي يتفق الجميع عليه. ففي بعض الأغاني تكون المشاركة في الحملة الصليبية مؤشرا على الحياة النزيهة أخلاقيًا ووسيلة لتجنب الشر، كما تراها بعض الأغاني الأخرى ردًا على تضحية المسيح:

أيها البارونات
إن يسوع الذي وُضع على الصليب لإنقاذ الشعب المسيحي
يدعونا جميعا لكي نذهب
ونستعيد الأرض المقدسة
التي جاء إليها لكي يموت حبًا لنا.

وبعد انتصار المسلمين على الصليبيين في معركة حطين بقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي سنة 1187م كتب شاعر بافاري (من ألمانيا) يقول إن حاجة الأرض المقدسة للمساعدة قد باتت ملحة أكثر من أي وقت آخر، ويرد على أولئك «الحمقى» الذين يقولون:

لماذا لا يعتني بها الرب دون مساعدتنا؟

بأن الإجابة تكمن في تضحية المسيح التي لم تكن بدافع الضرورة وإنما تحمل المعاناة على الصليب بدافع من الشفقة على المسيحيين في محنتهم. وعلى ذلك فإن الحملة الصليبية يجب أن تكون أيضا بدافع من الشفقة على صليب المسيح وضريحه وبدافع من الحب له. وهنا يساوي الشارع بين الفعل الصليبي والخلاص الذي يمنحه المسيح للخطاة.

لقد كانت فكرة أن الحملة الصليبية عمل من أعمال الحب جزءًا من التدين الحقيقي في ذلك الزمان. وهنا نجد أنفسنا أمام نمط آخر من «أغاني الحروب الصليبية» ربط بين الحملات الصليبية والحب الدنيوي وليس الحب الديني / الكنسي. وقد انتقلت عناصر أغاني الحب إلى «أغاني الحروب الصليبية»، ففي أغاني الحب في العصور الوسطى كان الشاعر يتقمص شخصية عاشق يحب دون أمل. وقد عبرت أغاني التروبادور وأغاني المينساير الألمانية وأغاني التروفير الفرنسية عن الشوق والتوتر الذي لا ينتهي، والغزل في الحبيبة «البعيدة» ذات المكانة الراقية التي تحول دون الوصول إليها عقبات وعقبات. وكان من السهل نقل هذه العناصر إلى «أغاني الحروب الصليبية»، فالشوق والتوتر الذي لا ينتهي صار شوقًا إلى القيام بالحملة الصليبية، والحب هنا تحول إلى حب المسيح والأرض المقدسة.

أغاني الحب والحرب

وغالبًا ما كان الشعراء يربطون بين فكرة الحملة الصليبية وفكرة الحب البشري باتخاذ لغة المواقف التقليدية في أغاني الحب. وقد وصلتنا قصيدة واحدة عن الحملة الصليبية الثانية تقوم بهذا الربط، ولكن مع نهاية القرن الثاني عشر صار ذلك الربط ممارسة شائعة في «أغاني الحروب الصليبية». وهناك «أغاني» ترى الأمور من وجهة نظر المرأة التي تركها الصليبي وراءه، إذ تحكي الأغنية عن أن شابة جميلة، ابنة سيد إحدى القلاع، كانت تتوقع أن تجلب لها الطبيعة في فصل الربيع المسرة والبهجة، ولكنها بكت.

وخرجت منها تنهيدة تثير القلب
قالت: يا يسوع يا ملك العالم
إن حزني الكبير يتعاظم بسببك
لأن الخزي الذي ارتكب ضدك
يسبب لي غمًا كبيرًا
إن أفضل الرجال في هذا العالم
راحل في خدمتك
ولكن هذا ما يسرك
معك يرحل حبيبي
الوسيم النبيل، الجدير والقوي
ولم تبق لي غير ورطتي المؤسفة
وشوقي المبرح ودموعي
أواه، كما كان الملك لويس قاسيًا
عندما أصدر أوامره بالتجمع
وأصدر مراسيمه التي
دخل الأسى من خلالها إلى قلبي

هكذا جعل الشاعر الملك لويس السابع والحملة الصليبية الثانية تلعب دور «العذول» في هذه الأغنية الصليبية، وتربط بين ضياع الأماكن المقدسة والحب الضائع. وهناك كثير من الأمثلة على هذا النوع من «أغاني الحروب الصليبية» يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من القرن الثاني عشر وإلى القرن الثالث عشر، وهو يتوازى مع بزوغ النزعة العلمانية في الأدب الأوربي بشكل عام. وقد كانت تلك الإرهاصات العلمانية في الأدب الأوربي بمنزلة الخلفية الأساسية التي قامت عليها حركة إحياء الفكر الأرسطي، ثم نشأة الجامعات، وظهور الفلاسفة الرشديين اللاتين، ثم حركة النهضة الأوربية في وقت لاحق.

الموت كسير الفؤاد

وهناك موضوع مشترك آخر بين المثال الديني والمثال الدنيوي في «أغاني الحروب الصليبية» ظهر بوضوح في القرن الثالث عشر، وهو موضوع «الموت من أجل الحب»، وهي عبارة تحمل معنيين: المعنى الأول التقليدي «الموت كسير الفؤاد» الذي تعانيه المرأة بسبب موت حبيبها المسافر في حملة صليبية، والمعنى الثاني الجديد هو أنه مات حبًا في الحرب. وبهذا يكون موتها موازيًا لموت حبيبيها، وفي هذا الموت سيقوم كلاهما برحلة إلى الرب.

وتقول إحدى الأغاني الصليبية:
إن المرأة التي ترسل زوجها الحبيب
في مثل هذه الرحلة
بكامل إرادتها
على أن تعيش في الوطن عيشة فاضلة
يشهد الجميع بها
تكون قد اشترت نصف ثوابه بهذا
لأنها سوف تصلي هنا
من أجلهما سويًا
وهو سوف يذهب ويحارب هناك
من أجلهما سويًا

هكذا تكشف «أغاني الحروب الصليبية» عن النظام الأخلاقي والقيمي، والتطلعات الاجتماعية، ومفهوم الاستقامة الدينية، فضلًا عن جانب من الأعراف والتقاليد الأدبية في أوربا القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ومن ناحية أخرى تكشف هذه الأغاني عن نوعية الجمهور الذي كانت تخاطبه، فقد أنتجت هذه الأغاني من أجل الطبقة الأرستقراطية ودوائر البلاط الأرستقراطي. ومن المهم أن نلاحظ أن هذه الأغاني كانت موجهة للجمهور نفسه الذي كانت البابوية توجه نحوه دعايتها للمشاركة في الحملات الصليبية.

وهو ما يعني أن «العامة» لم يكونوا هم جمهور «أغاني الحروب الصليبية» التي بقيت نصوصها، والتي كان بعض مؤلفيها من قادة الحملات الصليبية كما سبق القول، كما أنهم كانوا - بالضرورة - من أبناء الطبقة الارستقراطية نفسها. ولكن «العامة» الذين تجاهلتهم هذه الأغاني، مثلما تجاهلتهم خطبة البابا أوربان الثاني وهو يدعو للحملة الصليبية الأولى سنة 1095م، كانت لهم إسهاماتهم في «أغاني الحروب الصليبية» مثلما كانت لهم إسهاماتهم في تاريخ الحركة الصليبية نفسها. وعلى الرغم من أن الزمن لم يحفظ لنا نصوص الأغاني التي كان الشعراء ينشدونها في تجمعات العامة، فإن نصوص بعض الأغاني الملحمية مثل أنشودة أنطاكية حملت الكثير من الإشارات الدالة على نظام قيمي مختلف عن ذلك الذي كان سائدًا داخل أسوار القصور الملكية والحصون والقلاع الأرستقراطية.

ومن ناحية أخرى، فإن هناك الكثير مما تحمله «أغاني الحروب الصليبية» من دلالات وأهم هذه المضامين التي تحملها هذه الأغاني يتمثل في رؤية الذين كتبوها للآخر، أي المسلمين الذين واجهوهم في ميادين القتال... بيد أن هذه قصة أخرى.

 


قاسم عبده قاسم