كابوش الذهب

كابوش الذهب

ما كان لي علم بأن ابنتي راوية ـ آخر العنقود ـ ضاعت منها سلسلة بمصحف من الذهب ثمنهما معا فوق الأربعمائة جنيه في زمن الرخص يوم اشتريناهما. ولو علمت لقلت لها: فداك, ولاشتريت لها غيرهما دون إبطاء. فأنا لا أستخسر شيئا في راوية برغم أنها جاءتنا غصبا عني وعن أمها!! فجأة حملت أمها فيها بعد أن توهمنا أنها كبرت على الحمل وبعد أن شبعنا من كثرة العيال: سناء وأحلام وصابر وهدى ومحمد, عال العال وربنا يقدرنا على تربيتهم في زمن بخيل يسوق النذالة معي.

أيامها كنت كلما حوطت مكانا في مقابر قايتباي, يجئ ذلك المسمى بالبلدوزر يهده ويمشي في مهابة وجبروت, مع أن المكان الذي أقيم عليه جدراني ليس ملكا لأحد ولا هو مطلوب لأحد إنما هو فراغ واسع بين مقبرتين لا ضير أن يعيش فيه بعض الأحياء ممن لا دار لهم في هذا البلد. ومثل بعض الحشرات التي تدفن نفسها في شقوق تضمن عدم قدرة الكائنات الكبيرة المعادية على النفاذ إليها, زحفت أنا إلى أعماق جوانية في قلب المقابر لا يستطيع البلدوزر الدخول إليها بأي حال من الأحوال, وأقمت تعريشة من الطوب والطين والبوص وصناديق الكرتون المفككة.

صرت أقضى الليل كله راقدا في فتحة الباب من الداخل بالعرض لأمنع أي خطر عن الدخول إلى العيال. ثمة ثعبان أسود منقوش الظهر بما يشبه الأصداف الملونة نقشة لا مثيل لها في خان الخليلي, لم يكن عدوانيا ولا شريرا ربك والحق, لأنه شبعان حتى التخمة والمقابر من حوله ثلاجات تحفظ له أفخر أنواع اللحوم السكرية, لكنه لم يكن يحلو له الرقاد إلا تحت مخدتي, حيث أشعر وأنا في عز النوم أن المخدة ترتفع برأسي, وكومة لحم طري تتقلب تحتها بقوة فتهدهد رأسي بين علو وهبوط. كان واثقا من نفسه لأنه يعرف ويتأكد أنني غير راغب في إيذائه. إنما الفزع كله يأتي من خوفي أن يدخل بين العيال الراقدين كالموتى فيصرعهم ويسلب النوم من عيونهم مدى الحياة, وستولول أم صابر قائلة: ألا يكفي أنني وأنت نقضي معظم الليل والنهار نصطاد العقارب بسيخ حديدي مدبب? حقا لم يكن ينقصنا إلا أن تنام الثعابين في أحضاننا!!

الفزع كان ممنوعاً علي, حتى لا يفتضح أمر الثعبان للعيال من ناحية, وحتى لا يتصور حين يشم رائحة خوفي أنني أقصد به شرا من ناحية أخرى وإلا هاجمني قبل أن أثبت له حسن نيتي. بكل هدوء أنهض قاعدا, بهدوء أكثر أهب واقفا, أشب على أطراف أصابعي, خطوة والثانية أصل إلى لمبة الجاز المعلقة على الحائط, أرفع شريطها فتتسع خيمة الضوء, يكون هو قد أطل بدماغه وعينيه البراقتين من تحت الوسادة وراح لسانه يبصبص هنا وهناك في لؤم. أعرف بخبرتي الطويلة أن الثعابين تكره الضوء في الليل وتعشق الأركان المظلمة في النهار. هذا الضوء يكفي لطرده بالحسنى. مع ذلك أروح استنجد بسيدي الرفاعي, أقرأ سورة يس وآية الكرسي, يدي تزحف بجواري مقتربة من النبوت المركون استعدادا لسحبه والنزول به فوق هذا الدماغ الكريه إذا قل أصله وزحف نحو العيال. أراه ينظر لي محملقا بتركيز كأنه ينذرني بالويل إذا تحركت من مكاني. وإذ يراني مسمرا في مطرحي ينظر لي ثانية بغير حملقة كأنه يستأذنني في الدخول. أشير له بذراعي قائلا في ود, وبصوت خافت جدا:

ـ "روح لحالك الله لا يسيئك! اتكل على الله! اسعى!"

ويكون قد خرج من تحت المخدة وتكور على نفسه. أشير له بذراعي إلى الباب مترجيا. ربك والحق كان يستذوق فيستدير عائدا مفرودا طويلا بطئيا كموكب الجنازة.

راوية آنذاك عمرها شهور قليلة, ضئيلة الحجم, لو فتح الثعبان فمه لابتلعها. ترقد مدفونة في حضن أمها, وأنا من خوفي عليها أراقبها كلما قلقت, ليقيني أن أمها وإخوتها غير راغبين فيها وكلهم أمل في أن تموت ميتة ربها ولو مكتومة الأنفاس. كان الله قد تاب علي من السرح في الشوارع طوال النهار وهيأ لي دكانا صغيرا في منشية ناصر التي بدأت تتسع ويكثر الخلق فيها, صرت أفرش فيه البضاعة.

ذهبت يوما إلى سوق "غمرة". التقاني تاجر كبير أحبه ويحبني, قال لي:

ـ يا "أحمد! عندي مائة صفيحة ملوحة صغيرة سعرها مريح ولقطة! تأخذها بركة لرزقك"?

ـ شوحت في وجهه بغيظ:

ـ "ماذا أعمل بها يابو العم!! أنا أبيع سمكاتي بطلوع الروح لناس لا تشتري إلا بالنص كيلو وكيلو!".

ـ "خذها تنفعك وقت زنقه طاوعني".

ـ "الله يرضى عليك! ما معي قرش واحد فائض عن حاجة الناس!".

صاح كأنني أنقذته من ورطة:

ـ "خذها وادفع في أي وقت تشاء! ما بين الخيرين حساب!"

ـ "على كل حال ابعث لي بعشر صفائح وهي ورزقها!"

ومضيت نحو المزاد. شيعني قائلا:

ـ "سأبعث لك خمسين صفيحة ولا تدفع شيئا! ابسط يا عم!"

لم يكن عندي وقت للرد. أنهيت السوق وعدت بالبضاعة الى منشية ناصر في عربة صغيرة نشترك في تأجيرها أنا ومجموعة من بائعي السمك في أماكن متقاربة. ما كدت أفرش حتى لحقت بي عربة نصف نقل محملة بالصفائح. اغتظت طبعا لأن الرجل المجنون صمم على رأيه وبعث بالخمسين صفيحة. تركت الحمال ينقلها دون أن أهتم به, فلما انصرف بعربته فوجئت بأن المجنون بعث بالصفائح المائة كلها. أخذت ألطم وفي النهاية نقلت الصفائح إلى الدار وأنا أتفجر غيظا وكمدا. اشترينا جوالين من الملح, في ليلتين تسلينا على الصفائح غمرناها بالملح وكتمناها وستفناها فوق بعضها وغطيناها بمشمع ونسيناها عدة شهور.

الرجل المجنون كان يطلب ثلاثة جنيهات في كل صفيحة والصفيحة وزنها خمسون كيلوجراما. نفسيتي كانت قد هدأت, فصرت كلما التقيته أعطيه عشرة جنيهات في خمسة في ثلاثة في اثنين أحيانا, إلى أن بقى له في ذمتي بضعة جنيهات ماطلته في دفعها, وكلما فك حنكه صحت فيه:

ـ "تعال خذ صفائحك التي تزحم الدار!"

فيقول في تهديد مرح:

ـ "ماشي يا أحمد! سآخذها!"

في عصرية طرية النسمات رائقة الجو كنت قاعدا أمام بقايا البضاعة فإذا بي أرى صعيديا ضخم الجثة يشبه ذلك الذي حملني على ظهره في المنام ذات يوم بعيد وطار بي في الفضاء عابراً النهر إلى سلم الملك في أسيوط. ارتعت لمرآه, اعتدلت في قعدتي. اقترب مني قائلا:

ـ "ما تعرف أحدا يبيع الملوحة هنا يا بو العم?"

ـ "ملوحة لأكلك يعني?"

ـ "للبيع والشراء! تجارة يعني!"

قلت: "اقعد يا بو العم! قم يا صابر هات اتنين بارد من أي دكان".

شربنا البارد واصطحبت الرجل, دخلت به إلى الدار, رفعت المشمع, سحبت صفيحة, فتحتها, كبشت منها حفنة ملوحة بدت كالكهرمان منظرها يفرح القلب. قال الرجل:

ـ "زين.. بكم تبيع الصفيحة?"

ترددت. قلت:

ـ "يوجد عندي مائة صفيحة! تكلم أنت فإن وافقني كلامك أهلا وسهلا وإن لم يوافقني أهلا وسهلا كذلك!"

قال من فوره:

ـ "ثلاثين جنيها للصفيحة! وآخذ الكمية كلها!"

زعق قلبي في ضلوعي بشدة, لكنني قلت للرجل:

ـ "حرك نفسك قليلا!"

رفع يده في إصرار صائحا:

ـ "قل لي الله يربح!"

ـ "الله يربح! مبروك عليك!"

سحب محفظته, عد لي ثلاثة آلاف جنيه. وضعتها في صفيحة فارغة. حمل الرجل صفائحه ومضى وأنا على يقين من أنه الملاك الذي يبعثه الله لي دائما في المنام وفي الصحو على السواء. أول شيء فكرت فيه وأنا أعيد عد الفلوس هو راوية. حملت الصفيحة العمرانة ودخلت عليها. وجدتها راقدة, صحت في العيال: "وسعوا وسعوا", رفعت الصفيحة ودلقتها فوق رأسها فانهمرت الفلوس كالمطر, والعيال في هياج يلمونها ويعيدونها إلى الصفيحة. من يومها وأنا أحب راوية وأعزها دون كل إخوتها.

يشاء السميع العليم أن أذهب في ذلك اليوم لصلاة المغرب في جامع قايتباي. بعد التسليم ذات اليمين وذات اليسار وقعت عيني على سيد جودة جالسا على يميني. مد يده يصافحني فصافحته. هو في أصله البعيد من أسوان لكنه مولود هنا. كيف حالك يا سيد? بخير والحمد لله ألا تريد أن تشتري بيتا?

هكذا من الباب للطاق. سبحان الله, وأين هذا البيت يا سيد? هنا في حارة العجوز. بيت مرة واحدة يا سيد? قل عشه. قال سيد إنه ينوي أن يكرمني فيه, ثم إنه سحبني من يدي إلى حارة العجوز. البيت مهجور ومنهار ومكوم فوق بعض لكن مساحته واسعة وحجراته كبيرة. بكم تبيعني هذا البيت يا سيد? بثمانية آلاف جنيه واسأل صديقك المحامي محسن حسنين الذين يصلي معنا في الجامع كل يوم يقول لك إن حجته وأوراقه تمام التمام ثمانية آلاف! سلام عليكم, وشمرت ذيل جلبابي وانطلقت بغير تفاهم. جرى ورائي, أمسك بي, صاح محذرا:

ـ "لا تضيع الفرصة! أنت رجل طيب وربنا يجعله من نصيبك!".

جرجرني إلى مكتب المحامي. الكلام جر بعضه, أردت أن ابخس البيت حتى يتركاني في حالي, قلت:

ـ "إذا كنت توافق بستة آلاف فإنني قد أفكر في الشراء!"

فإذا به يقول:

ـ "قدر أنك عزمتني أنا والأستاذ بخمسمائة جنيه!"

ـ "عزومتي بمائتين لا غير يا بو العم!"

ـ حلوين! اكتب العقد يا أستاذ!"

صرخت فيه:

ـ "انتظر! ليس معي الآن سوى ثلاثة آلاف فقط!"

ـ خير وبركة! عند التسجيل تدفع الباقي!"

عدنا إلى جامع قايتباي لصلاة العشاء وعقد البيت في جيبي يزغدني في جنبي عند الركوع وعند السجود ومع ذلك لا أكاد أصدقه. وفيما كنت أسير بين المقابر إلى داري كان يشغلني هم المبلغ الباقي.

آمنت بك يا رب. ما كدت أقترب من داري في وسط المقابر حتى فاجأتني لمة كبيرة من الناس معظمهم من بلدتي. تبينت وجه أم صابر تبكي بحرقة, حولها العيال يصيحون بالبكاء. هرولت إليهم وركبي سائبة, سرعان ما تبينت أن البلدوزر قد داس فوق المقابر مخترقا طريقا إلى عشتنا فكومها وترك عفشنا متناثراً كل قطعة في ناحية. صرخت في العيال:

ـ "لا تبكوا يا عيال! الحمد لله اشتريت لكم بيتا الآن!"

وأخذت ألوح بالعقد في يدي. ثم صحت فيمن حولي:

ـ "من كان منكم حزينا علينا فليعاونا في تصوير حجرة واحدة نبيت فيها الليلة!".

الكابتن محمد نوح عاونني في نقل العفش إلى حارة العجوز. خلع الرجال ملابسهم, هيلا هوب, أزلنا الطوب والردم من إحدى الحجرات, سقفناها بالبوص والحصير. جيراني المسيحيون أولاد حلال, مدوا لي سلكا كهربيا بلمبة كبيرة اشتغلنا على نورها واصطدنا من خلال الطوب والحيطان وأكوام التراب ملء صفيحتين من العقارب السامة. وفيما كنت جالسا أستروح النسمات بعد التعب لاحظت أن مختار ولد أختي لا يزال جالسا بجواري, وكان قد ابتنى لنفسه دارا صغيرة في منشية ناصر ولسوء حظه وقع في جار مشاغب يدب معه خناقة كل يوم قلت لمختار:

ـ "اسمع يا ولدي! شف لك صرفة في هذه الدار بأي شكل وتعال أنت وأخوك عزت شاركاني في هذا البيت الواسع أنتما النصف وأنا النصف!".

الولد استحسن الفكرة, وفعلا, أخذت منهما ثلاثة آلاف ومائة جنيه دفعتها لسيد وسجلنا البيت. كان ذلك على وش السعد راوية, وكان لابد ان أكافئها, فاشتريت لها هذه السلسلة بهذا المصحف الثقيل ليكون حرزا حريزا يصونها ويوسع رزقها. وما كان يخطر في بالي أنه يمكن أن يضيع منها فهي لاتلبسه إلا في المناسبات. لكنه ضاع منها, واستطاع البيت كله أن "يكفي على الخبر ماجورا" حتى لا يبلغني فأزعل وأعمل لهم ضجة. لكنني كنت أنظر من تحت لتحت فأرى البيت في حال غير طبيعية. في البداية ظننت أن البيت مقلوب حاله بسبب ما حدث لولدي صابر, إنه راضع من لبن الحمير كما تعرفون, لا يعرف التفاهم بالعقل.

حدث أن داهمنا مفتش التسعيرة الذي يتلكك لنا من أجل أن يأخذ ما فيه القسمة ويرحل, شكنا عشرات المحاضر كل محضر بغرامة مائة جنيه لاستشوائه مبلغ الرشوة. ولدي صابر ما كاد يراه حتى فقد شعوره وشتم دون ان يذكر اسم المفتش ولا شخصه لكنه لما رأى نية الغدر في عيني المفتش وجه عدة لكمات إلى وجهه فحكمت عليه المحكمة بالحبس ستة أشهر مع الشغل والنفاذ في سجن طنطا, فانتقلت زوجته بعيالها إلى بيتنا.

كان الشجار والنقار يتفاقم في بيتنا لكن صوته يكف تماما حين أبدأ في الانتباه ومحاولة معرفة من أخطأ في حق من. في بعض الأحيان تصلني صيحات مكتومة أتبين فيها لفظ السرقة وأسمع زوجة صابر تتنهد ضجرة وتقول حسبي الله ونعم الوكيل, ولم يكن يخطر ببالي أن العيال يتهمونها بالسرقة. إنما أنا تأكدت من صحة هذا, بقي أن أعرف لماذا يتهمونها بالسرقة? وما الذي سرقته بالضبط? كنت واثقا أنني لو سألت وحققت في الأمر فلن أفوز بكلمة واحدة تتصل بالحقيقة, فرأيت أن أدبر لمعرفة الحقيقة من تحت لتحت "بصنعة لطافة" دون أن أسأل أو أحقق.

في تلك العصرية توضأت وصليت ركعتين لله وقرأت عدية يس واستخرت الله في معرفة الحقيقة, ثم نمت نوما عميقا.

رأيتني أمشي في شارع يشبه شارع السوق في حي قايتباي وإن لم يكن هو. المارة فيه قليلون, حتى الأطفال كل واحد في حاله. وكنت أشبه بمن هو ذاهب للصلاة مع أنني لا أقصد مسجدا بعينه بل لا أعرف أين يوجد المسجد ها هنا. وفيما كنت سائرا بجوار حائط أثري متهدم خبطت قدمي في صرة مرمية بجوار الحائط فأصدرت خرخشة وشخللة.

انحنيت عليها والقتطتها, انفرطت في يدي فإذا هي كابوش من الذهب ملأ كبشتي عن آخرها, حلقان وأساور وأفرع وخواتم. هتفت من فرحتي: رزق راوية! الحمد لله هذه هدية بعثها الله لها فهي أصبحت عروسا يلزمها ذهب كثير كهذا. دسستها في جيبي وعدت من فوري إلى البيت مسرورا مغتبطا, ناديت: راويه! يا راوية! يا راوية.

لابد أن صوتي خرق جدران المنام ووصل إلى العيال في وسط البيت حيث يقعدون. جدران المنام كانت سائبة لأنني سمعت أم صابر من خارج المنام تصيح:

ـ "الحقي يا راوية أبوك يناديك فشوفي ماله!"

قبل أن تدخل راوية كنت قد انتفضت قاعدا. أحطت دماغها بذراعي في فرح:

ـ "البشري يا راوية! سيجئيك عريس بشبكة كبيرة من الذهب! الآن شفت في المنام أنني لقيت في الشارع كابوشا من الذهب فقلت إنه رزق راوية!".

تبسمت فرحة, قالت:

ـ "كنت تناديني لهذا?"

ـ "كنت أناديك في المنام!"

ولاحظت أن سحابة من الكدر عبرت وجهها واغتالت فرحتها, غمر الشحوب وجهها, كادت الدموع تطفر من عينيها.

ـ "مالك يا راوية? كلميني بالحقيقة ولا تكذبي لأني عرفت وأريد أن أختبرك!"

ترددت قليلا ثم ألقت بالعبارة دفعة واحدة: السلسلة بمصحفها ضاعت. منذ متى? من حوالي ثلاثة أشهر. ضاعت في الدار أم منك? قالت إن آخر مرة لبستها آخر الصيف الفائت وأنها جاءت تلبسها أول هذا الصيف فلم تجدها في الدولاب. سألتها كيف تتهم زوجة أخيها بسرقتها? قالت إنها لم تتهمها ولكنها هي التي تدافع عن نفسها كلما جاءت السيرة. طيبت خاطر راوية, وادركت أن تفسير المنام يعني أنني مضطر الآن لشراء سلسلة جديدة لراوية بدلا عن الضائعة. قلت لراوية:

ـ "البسي هدومك وتعالي نشتري لك غيرها!"

وقمت لأتوضأ وأصلي العصر. ما إن لامس الماء وجهي حتى سمعت صرخة نشوانة: "لقيتها! لقيتها!". وجاءت راوية تجري ممسكة بالسلسلة بمصحفها تلوح بها في وجوه أهل الدار:

ـ "لقيتها في حبيب هذا الفستان آخر مرة لبسته في آخر الصيف الفائت ونسيت أنني وضعتها في جيبه قبلما أخلعه! والآن أحببت أن ألبسه لأذهب للصايغ مع أبي! وضعت يدي في جيبه فلقيتها!".

ـ "الحمد لله يا راوية! المال الحلال لا يروح! ربك أعفاني من غرامة كبيرة لم تكن على البال!".

رجعت راوية لتقلع الفستان. استأنفت أنا الوضوء من جديد, لكن دمي سرعان ما تعكر, إذ لمحت زوجة ولدي قد انزوت في ركن قصي, واضعة يدها على خدها, وجهها محتقن محروق الدم كالكبدة, والدموع تهطل من عينيها بغزارة.

 

خيري شلبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات