حكاية نقدية

حكاية نقدية

مقطع غامض في قصيدة لم يفهمه الناقد الكبير كان سبباً في إعادة مراجعة الشاعر لموقفه من الأساطير والآداب القديمة.

قصيدة أمل دنقل (الوقوف على قدم واحدة) من قصائده غير الشهيرة, كتبها سنة 1966, ونشرها في الملحق الأدبي لجريدة (الأهرام) في شهر ديسمبر من العام نفسه, حين كان الملحق تحت إشراف لويس عوض, الذي أسهم في تقديم أمل إلى الحياة الثقافية منذ أن نشر له قصيدة (العار الذي نتقيه) في الحادي عشر من شهر أغسطس 1961. ويبدو أن العلاقة بين أمل ولويس عوض توثقت منذ مطالع الستينيات, خصوصاً بعد أن رأى لويس عوض في أمل شاعراً واعداً من شعراء الرفض. وظل أمل حريصاً على هذه الصداقة. وفي الوقت نفسه, حريصاً على الاستجابة بشكل أو آخر إلى اهتمامات لويس عوض الثقافية التي جذبته إليها بمعنى من المعاني في هذه المرحلة الباكرة.

وقد حمل أمل إلى لويس عوض قصيدته التي استجاب فيها إلى بعض غواياته الثقافية, ومنها الاهتمام بعوالم الأسطورة الفرعونية ورموزها وإشاراتها بوصفها منبع الحضارة المصرية التي تبدأ من أحجار طيبة, ووصل ذلك بما يبين عن ثقافة إنسانية واسعة لا تغفل الموروث الأدبي الذي تخصص فيه لويس عوض. وكانت قصيدة أمل عن (أفعى) من الأفاعي اللاتي أنزل النساء منزلتهن في الغواية, كاشفاً عن سوء ظن متأصل بالمرأة, لعله بعض موروثه الصعيدي الحدي, أو لعله نتيجة سلبية من تجارب المراهقة. المهم أن القصيدة تدور حول أمرأة تنسى حزام خصرها في العربات الفارهة, وتدفع من يقترب منها إلى السقوط في أنياب اللحظة الدنسة ومطاردة فراش الوهم. وتقف القصيدة على هذه المرأة مقدمة إياها في صور بصرية متتابعة, تقلب السمع بصراً, وتكشف عن احتمالات الغواية على النحو التالي:

يهتز قرطها الطويل
يراقص ارتعاش ظله
على تلفتات العنق الجميل
وعندما تلفظ بذر الفاكهة
وتطفئ التبغة في المنفضة العتيقة الطراز
تقول عيناها: استرح
والشفتان شوكتان

ويعرف قارئ أمل أسلوبه على الفور في تقنية الوصف التي أحكمها في قصائد أخرى كل الإحكام, ولكنها في هذا المقطع تمضي غير كاشفة عن احتمالات دلالية متعددة, بل عن دلالة وحيدة البعد تحاول التقاط المظهر الأول للغواية. ويمكن للعين الفاحصة أن تلمح بعض نتائج الحرص على لزوم القافية, جنباً إلى جنب مفارقة الوصل بين القرط الذي يبرز تلفتات العنق الجميل وتلفظ بذر الفاكهة وإطفاء السيجارة في منفضة عتيقة الطراز, وتلك ترابطات تحاول الصعود بالسياق إلى المفارقة الأخيرة التي تجمع ما بين دعوة العينين وتحذير الشفاه.

ويأتي بعد ذلك مقطع مغاير على سبيل الإشارة, يناوش الدلالة المركزية بردها إلى ما يشبهها أو يضيف إلى معناها. ونقرأ:

تبقين أنت: شبحاً يفصل بين الأخوين,
وعندما يفور كأس الجعة المملوء
في يد الكبير:
يقتلك المقتول مرتين

وهو مقطع غامض يصعب تناوله على أنه اطراد عادي في السياق الذي تنبني عليه القصيدة. وبقدر إشارة المقطع إلى المرأة التي يمكن أن تزرع الفتنة بين الأخوين, معيدة المعنى المتكرر للمرأة الأفعى التي تنفث سمها المدمر لأنبل الروابط, فإنه يحيل إلى مجهولات تظل من قبيل الأسئلة المعلقة عما يقوم به المقتول من قتل مرتين, عندما يفوت كأس الجعة المملوءة في يد الأخ الكبير! هل يحيل أمل في هذا المقطع إلى حكاية قديمة على سبيل الأمثولة? هل يشير إلى أسطورة قديمة يضيف بها إلى التجربة التي يعالجها عمقاً إنسانياً? هل يتحدث على سبيل المجاز الذي تداعت لوازمه من غواية المرأة إلى غواية الخمر التي هي الوجه الآخر من المرأة التي تفرق بين الأخ وأخيه? ولكن لماذا الأخ الأكبر والأخ الأصغر? هل يشير إلى كليب وأخيه الزير سالم الذي كانت تناوشه جليلة زوج كليب التي حاولت أن توغر صدره على أخيه? ولو كانت الإجابة عن السؤال الأخير بالإيجاب, فما علاقة كأس الجعة التي تفور بهذه الإشارة?

غياب الدلالة

المؤكد أن لويس عوض احتار في فهم المقطع, وهو يطالع مخطوطة القصيدة التي قدمها إليه أمل كي ينشرها في الملحق الأدبي لجريدة (الأهرام). وفوجئ أمل بلويس عوض يسأله عن معنى المقطع, وهو الذي قدّر أن مثل هذا المقطع لن تغيب دلالته على لويس عوض العارف بالأساطير الفرعونية القديمة والأدب المصري القديم, فأخبر لويس عوض أنه يشير إلى قصة الأخوين الشهيرة في الأدب الفرعوني التي تصور الصراع بين أخوين بسبب امرأة هي زوج أحدهما. وتذكر لويس عوض القصة, وأكمل القصيدة التي أذن بنشرها في الملحق الأدبي لجريدة (الأهرام) منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً.

ويبدو أن سؤال لويس عوض, الناتج عن حيرته في فهم المقطع, كان بمنزلة لحظة كشف لأمل, لحظة كشف دفعته إلى مراجعة موقفه من الأساطير والآداب القديمة بوجه عام, سواء من حيث صلتها الفعلية بالوجدان الجمعي للذاكرة الثقافية التي توجه إليها بشعره, أو إمكانات تأثيرها في التجمعات التي كان ينشدها أمل قصائده. وسأل أمل نفسه, فيما أخبرني بعد ذلك, وفيما أعلنه هو أكثر من مرة, عن جدوى الاهتمام بتراث ثقافي لا يعيش إلا في دائرة محدودة جداً, وبعيداً عن الوعي الجمعي الذي يستبعده من ذاكرة العارفين. وإذا كان هذا النوع من الإشارة قد صعب على لويس عوض, وهو على ما هو عليه من معرفة بالأدب الفرعوني, فما بال القراء العاديين الذين ليسوا في ثقافة لويس عوض?

الطريف الذي أذكره, بعد مرور خمس عشرة سنة على وفاة أمل دنقل, رحمة الله عليه, أنني كنت أتجادل وإياه حول علاقة الشعر بالأسطورة, وأنه قصَّ عليّ هذه الواقعة ليدلل بها على صحة رأيه. وبعد أن فرغ من الرواية, حاولت أن أختبر ذاكرتي وأتذكر تفاصيل قصة الأخوين, فوجدت أنني لم أستطع تذكرها. ولذلك استعنت بكتاب سليم حسن عن (الأدب المصري القديم) أو (أدب الفراعنة) كي أتعرف هذه التفاصيل. وكان ذلك في ذاته دليلاً على قوة الحجة التي انتهى إليها أمل دنقل, والتي لم تقنعني تماماً في هذه السنوات البعيدة, فقد كنت أرى الأمر ـ وأحسبني لا أزال ـ من منظور مغاير بعض الشيء, وأنظر إلى عنصر القيمة في (الإشارة) من حيث قدرتها على أن تتناغم وسياق القصيدة, ومن حيث ما تضيفه إلى هذا السياق حتى لو لم يكن القارئ يعرف عن هذه الإشارة شيئاً, فالأهم هو ما يشعر به القارئ هنا من تجاوب الإشارة مع السياق, وإسهامها في توليد دلالاته, ومن ثم تحولها إلى عنصر فاعل من عناصر قيمة القصيدة, والأكثر أهمية بالطبع أن يكون المأثور الذي يرجع إليه الشاعر إنسانياً في معناه, يستطيع أن يضيف عمقاً فعلياً للتجربة, وأن يتصل على نحو أو آخر بوجدان القراء وتجاربهم الشعورية. لكن نجاح استخدام هذا المأثور مرهون بقدرته الذاتية على أن يتفاعل مع السياق ويولد استجابة جمالية متناغمة.

ولكن أن نلجأ إلى لغة البلاغيين القدماء في هذا السياق ونقول إن المأثور القديم الذي يشير إليه الشاعر في القصيدة, أو يقوم بتضمين بعض أجزائه, أو يستعير قناعاً من أقنعته, ينبغي أن يؤدي دوره بوصفه معنى أولاً ابتداء, أي بوصفه قابلاً لأن يفهم داخل علاقات القصيدة فهماً عادياً لا يحتاج إلى شرح أوإضافة أو هامش, وأن معناه الأول يجب أن يكون على درجة من السلاسة التي تفضي إلى المعنى الثاني الخاص, حيث المأثور القديم وسياقاته المتجاوبة ودلالاته الموازية, وذلك على نحو يعين معه المعنى الأول على الوصول إلى المعنى الثاني, ويكمل المعنى الثاني المعنى الأول بما يمنحه عمق الامتداد الإنساني.

ولكن يظل الحق كل الحق مع أمل في أن أسلوب (الإشارة) أو (التضمين) الذي يلجأ إليه الشاعر في القصيدة لا ينبغي أن يتحول إلى نوع من استعراض العضلات الثقافية, أو إثقال القصيدة بما تنوء بحمله من إشارات لا تؤدي إلا إلى تشتيت انتباه القارئ, وإضاعة عفوية التلقي التي تحتاج إلى علاقة حميمة مباشرة ما بين القارئ الذي يتأثر والقصيدة التي تؤثر فيه بقدرتها الفورية على إدخاله إلى عالمها الفـريد. ولا جدال في أن كل ما يحول دون متعة التلقي, ويستبدل بها مشقة البحث عن معاني الإشارة أو مقصد التضمين, هو شيء بعيد عن معنى الفن ووظيفته.

قصة الأخوين

أما قصة الأخوين فلا بأس من تلخيصها بإيجاز عن كتاب سليم حسن حتى لا يترك بعض القراء المقال وفي أنفسهم شيء منها. وتحكي القصة عن أخوين مخلصين كانا يعيشان معاً, كبيرهما متزوج واسمه (أنوبيس) وصغيرهما غير متزوج ويسمى (باتا). وكان ساعد أخيه الأكبر في فلاحة الأرض وزراعتها وتربية أنعامها. وفي يوم كانا يزرعان في الحقل فاحتاجا إلى بعض البذور, وذهب الأخ الصغير إلى البيت ليحضرها, وكانت زوجة أخيه الكبير تمشط شعرها, فما إن رأته يحمل قدراً كبيراً من البذور على ساعده حتى راقها جماله وأعجبت بقوته, فراودته عن نفسه, فرفض الاستجابة لها ونهرها, فأضمرت المرأة في نفسها الكيد له, وادعت لزوجها أن أخاه الصغير راودها عن نفسها, فغضب الأخ الكبير وصمم على قتله عندما يعود بالماشية, واختبأ وراء الباب لهذه الغاية. وما إن قرب الصغير من البيت حتى أخبرته بقرة من التي كان يسوقها بما دُبر له, ففر (باتا) وتبعه (أنوبيس) بسلاحه. ولكن إله الشمس حجز بينهما بخلق بحيرة مملوءة بالتماسيح, فعجز (أنوبيس) عن اللحاق به, وجرت بينهما محادثة برأ فيها (باتا) نفسه, وأبان عزمه على الرحيل إلى وادي الأرز, وأنه سيضع قلبه على زهرة في أعلى إحدى أشجاره, وعيّن له علامة إذا حدثت كانت دليلاً على وفاته, وأنه في انتظار أخيه الذي عليه البحث عن قلبه ووضعه في الماء كي تعود إليه الحياة وينتقم من قاتله.

وبعد هذه المحاورة عاد الأخ الكبير إلى بيته وقتل زوجه انتقاماً لأخيه. أما الأخ الصغير فقد ذهب إلى حيث أراد, واقترن بزوج فائقة الجمال, بلغ جمالها مسامع الفرعون الذي استولى عليها, واتخذها محظية عنده. ورضيت المرأة بحياة النعيم والسلطة في بلاط الفرعون فنسيت حبها لزوجها الذي ظلت تخاف من انتقامه. وبسبب هذا الخوف, أغرت الفرعون بقطع شجرة الأرز التي تحمل قلب الزوج الذي سقط بسقوط الشجرة ومات. وعندئذ, حدثت العلامة التي ذكرها الأخ لأخيه ليعلم بها أمر موته ـ وهي فوران إبريق الجعة ـ فسعى في الحال إلى إنقاذ أخيه وتم له ذلك. وتمضي القصة مع الأخ الصغير, فيذهب إلى زوجه في قصر الفرعون محاولاً استردادها, لكن الزوج نفرت منه وأغرت الفرعون بذبحه, فتطايرت منه نقطتان من الدم نبتت منهما شجرتان من الأثل سكن فيهما (باتا) الذي عاد إلى الحياة مرة أخرى, وانتقم لنفسه من الزوج الخائنة بقتلها.

وأحسب أن هذه القصة صادفت هوى في نفس أمل دنقل حين قرأها في كتاب سليم حسن فعلقت بذهنه, إلى أن جاءت قصيدة (الوقوف على قدم واحدة) التي بعثت القصة من مكمنها في الذاكرة, فخرجت على شكل المقطع الذي يخاطب المرأة الغاوية في القصيدة بقوله:

تبقين أنت: شبحاً يفصل بين الأخوين,
وعندما يفور كأس الجعة المملوء
في يد الكبير:
يقتلك المقتول مرتين.

وأحسب أن معنى المقطع قد تكشف بالقصة, فالمرأة الغاوية يمكن أن تفسد العلاقة بين الإخوة, وفوران كأس الجعة المملوءة في يد الأخ الكبير هو علامة موت الأخ الصغير الذي يطلب من أخيه النجدة, وقتل المرأة من المقتول مرتين إشارة إلى قتل الزوج (باتا) مرتين بواسطة الزوجة الخائنة التي استطاع أن يقتلها في نهاية الحكاية. وكان أمل يريد أن يضفر السياق الخاص للحكاية في السياق العام للقصيدة, متأثراً بأسلوب الإشارة الذي انتقل إلى شعراء الجيل السابق عليه من شعر الشاعر ت. إس. إليوت, وهو الذي استهوى صلاح عبدالصبور في قصائده الذائعة. ولكن لهفة أمل على مباراة شاعر كبير مثل صلاح عبدالصبور, وحرصه على أن يستفيد من الأسطورة الفرعونية التي أهملها الشعراء الذين أغوتهم الأسطورتان اليونانية والفينيقية, دفعا به إلى هذا التوظيف الذي لم يحقق المقصود منه, فظلت الإشارة مستغلقة على فهم المتلقي دون شرح, عاجزة عن التفاعل مع السياق, كأنها عائق يعوق تدفق المعنى وانسياب الدلالات. وإذا لم يكن الأمر كذلك فكم, يا ترى, من القراء من يستطيع أن يفهم هذا المقطع من غير الحكاية التي نقلتها عن سليم حسن? أترك لكم الإجابة التي يكتمل بها مغزى الحكاية النقدية.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أمل دنقل