حياة شخص يدعى

حياة شخص يدعى "ميسون"

للكاتب الإنجليزي: كنجزلي إيميس

ـ "اتسمح لي بالانضمام إليك؟"

نظر الرجل متوسط الحجم, ذو الملابس غير اللافتة للنظر, والوجه غير المميز الخالي من التعبير إلى "بتجرو" الذي وقف قبالته على الجانب الآخر من المنضدة الركنية الصغيرة وفي يده كوب من الجعة. كانت لبتجرو ـ الطويل, الأنيق, ذي الملامح الواضحة ـ سيماء توحي بتصميم يكاد يصل إلى حد الاهتياج, وهو ما كان كفيلاً بتعريضه لرد فعل غير مستحب في مناسبات أخرى, لكن الرجل الآخر قال بود:

ـ "على الرحب والسعة. تفضل بالجلوس".

ـ "هل أستطيع أن أطلب لك شرابا؟"

ـ "كلا, شكرا" قالها الرجل متوسط الحجم مشيرا إلى كوب شبه ملآن أمامه.

في الخلفية كان هناك الجو المعتاد في أي مشرب. ساق, زبائن يجلسون أزواجا وأفراداً. لا شيء يجذب الانتباه.

ـ "إننا لم نلتق أبداً من قبل, على ما أظن"؟

ـ "كلا, بقدر ما أذكر"؟

ـ "جميل, جميل, اسمي بتجرو. دانييل بتجرو. ما اسمك؟"

ـ "ميسون. جورج هربرت ميسون, إن أردته كاملاً".

ـ "فعلا. اعتقد أن هذا افضل. ألا تعتقد أنت هذا؟ جورج.. هربرت.. ميسون"

كان بتجرو يتكلم لو كان يستظهر الكلمات الثلاث.

ـ "والآن فلتعطني رقم هاتفك. مرة أخرى كان لميسون أن يعترض على هذا الأسلوب الاستجوابي, لكنه لم يقل أكثر من:

ـ "تستطيع أن تجدني في دليل الهاتف بسهولة".

ـ "كلا, لابد أن هناك أشخاصا عديدين بنفس الاسم.. من فضلك, يجب ألا نضيع وقتاً".

ـ "لا بأس. إن هذا على أي حال ليس سراً. اثنان ـ ثلاثة ـ خمسة".

ـ "توقف. إنك أسرع مما أحتمل. اثنان.. ثلاثة.. اثنان..".

ـ "خمسة ـ أربعة ـ خمسة ـ أربعة".

ـ "يالها من ضربة حظ. لابد أني أستطيع تذكره".

ـ "لم لا تدونه إذا كان على هذه الدرجة من الأهمية بالنسبة لك؟".

رد بتجرو على هذا بابتسامة عارفة تلاشت في نظرة يائسة. قال:

ـ "ألا تعرف أن هذا لا يفيد؟ على أي حال فهو: اثنان ـ ثلاثة ـ اثنان ـ خمسة ـ أربعة ـ خمسة ـ أربعة. عليّ بالمثل أن أعطيك رقمي. سبعة".

قال ميسون مظهراً بعض نفاد صبر:

ـ "لا أريد رقمك يا سيد بتجرو. بل وإني لنادم على إعطائك رقمي".

ـ "لكن عليك أن تأخذ رقمي".

ـ "هراء. لا تستطيع إجباري على ذلك".

ـ "دعنا إذن نتفق على عبارة نتبادلها في الصباح".

ـ "هل يمكن, إذا سمحت, أن تخبرني عن معنى كل هذا".

ـ "أرجوك. إن وقتنا يجري".

ـ "إنك ما فتئت تقول هذا, وهو ما يجعلني..."

ـ "في أي لحظة الآن قد يتغير كل شيء, وقد أجد نفسي في مكان مختلف تماماً, وكذلك أنت على ما أظن. وإن كنت لا أستطيع الامتناع عن الشك في...".

ـ "سيد بتجرو, إما أن تفسر ما تقوله في الحال أو أضطر لإبعادك".

قال بتجرو وقد تعمقت نظرته المحبطة:

ـ "طيب لكني أخشى أن يزيد هذا الأمر سوءاً. انظر, عندما بدأنا الكلام اعتقدت أنك شخص حقيقي لطريقتك في...".

ـ "احتفظ لنفسك بأسلوبك الصبياني هذا في التلاعب بالكلمات بحق السماء! أنا إذن لست بالشخص الحقيقي؟!".

ـ "لم أقصد هذا المعنى المجازي, بل المعنى الحرفي بأقصى درجاته حرفية".

ـ "يا إلهي! أمجنون أنت, أم ثمل أم ماذا؟"

ـ "لا شيء من هذا. أنا نائم".

ـ "نائم؟!!". أبدى ميسون ـ فاقد الصفات ـ عدم تصديق كامل.

ـ "نعم. كما كنت أقول, في البداية اعتقدت أنك شخص حقيقي آخر في نفس موقفي: مستغرق في النوم. يحلم ويعرف أنه يحلم. حريص على تبادل الأسماء وأرقام الهواتف, وغيرها, بغرض الاتصال في اليوم التالي وتأكيد التجربة المشتركة. لقد كان هذا كفيلا بإثبات خاصية باهرة من خواص العقل, أليس كذلك؟ اتصال الناس عن طريق أحلامهم. إنها لخسارة ألا يدرك المرء أنه يحلم إلا فيما ندر, فلم أستطع محاولة إجراء التجربة سوى أربع أو خمس مرات في العشرين سنة الأخيرة, ولم أصب أي قدر من النجاح على الإطلاق. فإما أن أنسى التفاصيل, أو يتبين لي أنه لا وجود للشخص المعني كما في هذه الحالة. لكني سوف أستمر".

ـ "إنك مريض".

ـ "أوه, كلا. بالطبع إن احتمال وجود شخص مثلك هو احتمال قائم. لكن لا, فلو كنت موجوداً لأدركت حقيقة الموقف في الحال بدلاً من مجادلتي على هذا النحو. وكما قلت فقد أكون مخطئاً".

هدأ ميسون واطمأن, وأشعل سيجارة بتؤدة. قال:

ـ "من المشجع أن تقول ذلك. إنني لا أعلم الكثير عن هذه الأشياء, لكنك لا تبعد عن الحقيقة كثيراً حين تعترف بأنك قد تكون مخطئا. وإني لأؤكد لك أني لم أبرز للوجود منذ خمس دقائق فقط داخل رأسك. فاسمي كما سبق أن قلت لك هو جورج هربرت ميسون, وأنا أبلغ من العمر ستة وأربعين عاماً, متزوج ولي ثلاثة أطفال, وأعمل في صناعة الأثاث.. يا للجحيم.. إن إعطاءك مجرد ملخص عن حياتي يمكن أن يستغرق هذه الليلة بطولها, وهو ما ينطبق على أي شخص ذي ذاكرة عادية. دعنا ننته من شرابنا ونذهب إلى منزلي, وهناك تستطيع.." صاح بتجرو:

ـ "إنك مجرد رجل في حلمي يقول هذا. اثنان ـ ثلاثة ـ اثنان".

ـ لم أنت مهتاج على هذا النحو يا سيد بتجرو؟".

ـ "بسبب ما سيحدث لك في أي لحظة؟".

ـ ماذا؟.. أتهددني؟!".

كان بتجرو يتنفس بسرعة, على حين بدأت ملامح وجهه الوسيم تخشوشن, وأخذت خطوط سترته الصوفية في التلاشي. صاح:

ـ "جرس الهاتف! لابد أن الوقت أكثر تأخرا مما اعتقدت!".

ـ "هاتف؟!". رد السيد ميسون طارفاً بعينيه ومغمضهما نصف إغماضة, بينما استمر شكل بتجرو في التغير.

ـ "ذلك الذي بجوار فراشي! إنني أستيقظ!".

جذبه ميسون من ذراعه, لكن هذه الذراع فقدت الجزء الأكبر من هيئتها, وتحولت إلى قطعة مبهمة من الضوء المتلاشي. وعندما نظر ميسون إلى يده التي كان يجذب بها, يده هو, رأى بصعوبة أنها هي الأخرى لم تعد لها أصابع أو باطن أو ظاهر, أو جلد, أو أي شيء, على الإطلاق.

 

أشرف محمد فتحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات