مساحة ود

 مساحة ود

بورتريه لـ "أم نعناعة "

أذكر أنني في طفولتي كنت مثل كل الأطفال أكثر من الأسئلة. ولكن سؤالي الأكثر إلحاحًا كان «أين أمي؟»، ولم أكن أتلقى إلاّ إجابة واحدة: «أمك في المستشفى» بينما كانت الإجابة الحقيقية من الأطفال الأكبر مني: «أمك ماتت» وكانت هذه الإجابة أول لقاء لي مع الموت.

ولدت في منتصف سنوات الحرب العالمية الثانية، كانت جدتي لأمي حكاءة تجيد فن الحدوتة بجدارة.. شغلني سؤال عن عمري وقت وفاة أمي. قالت جدتي إنها لا تذكر بالتحديد، ولكنها تذكر أن من أكملت رضاعتي الست أم نعناعة. كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الاسم الذي تغلغل داخل وجداني. طلبتُ من جدتي المزيد من التفاصيل. قالت إن أم نعناعة وضعت ابنتها (وردة) بعد أيام من ولادتي، وعندما علمتْ أن أمي دخلت مستشفى الحميات أخذتني إلى شقتها. وحكت جدتي عن ذلك المشهد الذي لايزال يثير دهشتي ويحرك وجداني. قالت إنها رأتها تضعني على فخذها وتضع وردة على الفخذ الأخرى، وتضع حلمة ثديها في فمي والحلمة لثانية في فم وردة. عندما أبديتُ دهشتي ضحكت وقالت إن أم نعناعة كانت تكثر من أكل الفجل والحلاوة الطحينية.

في بداية الستينيات من القرن الماضي تعديت سن العشرين، وتعاظم شغفي بالقراءة. تعمدتُ أن أستفز جدتي، فقلت لها إنك يا جدتي تخلطين بين حواديت الخيال والواقع. خبطتني على فخذي وقالت: «أنت تُصدق الكتب وتكذب ستك» (نحن المصريين نقول للجدة «ستي» وللجد «سيدي»)، يبدو أن استفزازي جعلها تسهب في التفاصيل، فقالت إن أم نعناعة كانت تعمل في مصنع للصابون وهي التي تنفق على أولادها بعد وفاة زوجها الفران، ولذلك تركتني أنا ووردة مع جدتي بعد ولادتها بأسبوع. كانت تخرج من البيت في السابعة صباحًا، وقبل أن تغادر البيت كان تعصر ثدييها في زجاجة كبيرة، وكانت الزجاجة تمتلئ بلبنها. هذا اللبن كان غذائي أنا ووردة حتى تعود من عملها.

مع مرور الأيام تتمحور أشجاني حول أمي التي حكت لي جدتي الأساطير عن طيبتها وجمالها، وحول أم نعناعة التي سربت لبنها إلى وجداني. أستحلب العزاء من حكاياتي جدتي، أضع رأسي على فخذها وأطلب منها البوح بكل ما تعرف. قالت إن أمك وأم نعناعة كانتا صديقتين، وإن أمك عندما كانت تزور سيدي الحسين، كانت أم نعناعة تأخذ أولادها جرجس وإبراهيم وإيزيس ونعناعة لتزور (مقام) الحسين مع أمك. وأن أمك هي الأخرى كانت تذهب مع أم نعناعة لحضور مولد السيدة العذراء. وأن أم نعناعة كانت تصوم معنا معظم أيام شهر رمضان. وعندما حملتْ في ابنتها وردة قالت إنها ستوزع العيش والفول النابت أمام ضريح السيدة زينب بعد ولادتها. ولما سألت جدتي: «وهل أوفت بالنذر»؟ قالت: «طبعًا يا حبيبي».

عندما امتلكتُ وعيي وأيقنت أن أم نعناعة شخصية محورية في حياتي، سألتُ جدتي أين ذهبت أم نعناعة وأولادها؟ قالت إنها تركت الحارة والعباسية بعد ولادتي بحوالي ثلاث أو أربع سنوات.

كلما تقدم بي العمر، أربط بين أمي وأم نعناعة، ينجدل حزن يجمع بينهما، حزن الحرمان من أسطورتين في حياتي: أمي التي ماتت ولم أرها، وأم نعناعة المتعملقة في وجداني وأفتقد حضنها. وإذا كان لا حيلة لي في فقدان أمي فإن شعوري بالذنب يقتلني لأنني لم أهتم الاهتمام الواجب في السعي لمعرفة أخبار أم نعناعة، ويقتلني الحنين لرؤية أختي في الرضاعة (وردة). صحيح أنني ذهبت كثيرًا إلى الحارة التي ولدت فيها، ولكن كان الوقت متأخرًا. جيل الحرب العالمية الثانية، إما رحلوا عن دنيانا، أو انتقلوا إلى أحياء أخرى. في كل مرة أذهب فيها إلى الحارة التي شكّلت وجداني، أجد الأجيال الجديدة.

لا أحد يعرف أم نعناعة، ولا أحد يعرفني.
------------------------------
* كاتب من مصر

 

 

 

طلعت رضوان