اكتشاف جرثومة تذبح القلب

اكتشاف جرثومة تذبح القلب

لما كنت عضوا في هيئة التحرير الدولية للمجلة الطبية البريطانية, فقد طُلب مني في أوائل عام 1996 أن أعلق على مقال طبي نشرته في عددها رقم 12 "نوفمبر" من عام 1995, حول دراسة بريطانية مميزة تؤكد وجود عنصر جرثومي حلزوني الشكل HELICOBACTER PYLORI "HP" الذي يتوضع عادة في بواب المعدة في مرض القلب الإكليلي وما يتبعه من احتشاء في العضلة القلبية. وقد سبق لنا أن شرحنا مفصلا دور هذا النوع الجرثومي في أمراض المعدة الأساسية وفي مقدمتها القرحة الهضمية. "العربي يوليو 1997".

وقد رافق ذلك انعقاد ندوات عديدة تطرح أهمية عنصر جرثومي آخر وهو كلاميديا الرئوية "C.P" "CHLAMYDIA PNEUMONIAE" الذي يتوضع في الرئتين, والذي قد ينتج عن سمومه تصلب الشرايين, الذي هو وراء إصابة الشرايين الإكليلية CORONARY في القلب والخثرة الوعائية واحتشاء العضلة القلبية.

وأتت دراسة المجلة الطبية البريطانية لتؤكد أن إنتان جرثومة المعدة الحلزونية الذي يصيب الإنسان يؤهب أكثر من الكلاميديا الرئوية في إثارة التصلب الوعائي والاحتشاء القلبي.

أول الاكتشاف

لئن كان اكتشاف جرثوم الحلزوني البوابي في المعدة تم عام 1983, وتأكدت علاقته بأمراض المعدة والقرحة الهضمية عام 1993, فإن الانتباه إلى علاقة جرثوم الكلاميديا الرئوية باحتشاء القلب تم طرحها من الدكتور سيكو SAIKKU في مجلة LANCET عام 1988, إلا أن الدكتور ميندال MENDALL قدم في مجلة القلب البريطانية علاقة الجرثوم الحلزوني البوابي بأمراض القلب الإكليلية وتبعه الدكتور غلين GLYNN في مجلة LANCET طارحا العلاقة ذاتها.

وأوسع وأهم الدراسات التي تمت لتثبت علاقة احتشاء القلب بإنتان الدم بجرثومي الحلزونية البوابية والكلاميديا الرئوية, ما قدمه الدكتور باتل P. PATEL وصحبه من المعهد الطبي لمستشفى سان جورج في لندن في المجلة الطبية البريطانية في عدد "نوفمبر" من عام 1995, إذ تمت الدراسة على 388مريضا تتراوح أعمارهم بين الـ 50والـ 69وأثبت فيها العلاقة المؤكدة بين الإنتان بالـ HP و CP ومرض القلب الإكليلي المهيء لاحتشاء القلب.

وكانت إيجابية مصل المرضى للجرثوم الحلزوني أكثر منها لجرثوم الكلاميديا, وقد طرحت الدراسة تأثير الحلزوني البوابي في تكون تصلب الشرايين والاحتشاء القلبي وأوضح أن تأثير الجرثومة الحلزونية يفوق تأثير الكلاميديا في أسباب مرض القلب الإكليلي.

ومن المعروف أن الإنتانات المزمنة التي تختص بارتكاس التهابي دائم تؤهب لمحذور مرض القلب الإكليلي بازدياد كثافة الفيبرينوجين FIBRINOGEN وحمض السياليك SIALIC ACID في الدم, ويشكلان العنصر المهيئ لمرض القلب الإكليلي.

والإنتانات المزمنة التي تنتج عن إصابة إلتهابية ثابتة تهيئ لطاقة تخثر دموي من خلال مولد الجين ANTIGEN الخاص بالعامل السابع في الدم, وهو عامل أساسي في عملية التخثر.

ويستنتج الدكتور باتل من دراسته الدقيقة المفصلة أن أكثر من ثلث حالات مرضى القلب الإكليلي "وقد تصل النسبة إلى النصف" تعود إلى حالة إنتانية لأحد الجرثومين. وتتطلب إشراك معالجة بالصادات أي مضادات الحيوية ANTIBIOTICS

ونجد أن استقصاء الجرثومية الحلزونية أو جرثوم الكلاميديا يتم من خلال تحري وكشف الأجسام الضدية للجرثوم في مصل دم الإنسان بالإضافة إلى كل الفحوص الدموية المخبرية التي تحدد درجة تخثر الدم ومدى الالتهاب, في حين أن أخذ خزعة مباشرة من معدة المريض لإثبات وجود الجرثومة الحلزونية ـ كما هو الحال في القرحة الهضمية ـ غير متوافر بنفس الشروط لتحديد دور الجرثوم في إطلاق الاحتشاء القلبي.

وتعمل الدراسات الأخيرة على استقصاء أي توضع جرثومي مع تحديد نوعيته في صفيحات التصلب التي تنتشر على الأوعية الشريانية المغذية والمحيطة بالقلب والتي يفترض الباحثون أنها تتكون نتيجة الإنتان المزمن.

والمعالجة بالصادات ANTIBIOTICS أي مضادات الحيوية تبقى حجر الرحى في شفاء الإنتانات الحادة والمزمنة مع التحفظ عن إمكان تكون مقاومة الجرثوم للدواء نتيجة اعتياده عليه مما يستوجب تبديله بشكل دوري لتجاوز هذه المقاومة التي تتكون لدى الجرثوم من تكرار استعمال مضادات الإنتان.

وكما هو الحال في القرحة الهضمية, فإن ذلك يعني أن مشاركة الصادات في معالجة احتشاء القلب يقدم درجة عالية من الشفاء.

ولئن استغرق قبول النظرية الإنتانية في أسباب القرحة الهضمية عشر سنوات, فإن قبول الأسباب الجرثومية في احتشاء القلب لن يستغرق طويلا, بعد أن تتالت الدراسات الطبية حول وجود قاعدة إنتانية لتصلب الأوعية عقب الإصابة بجرثوم الكلاميديا الرئوي, وأعقبه دراسة دور الجرثوم الحلزوني البوابي. وتصلب الأوعية هو القاعدة في تهيئة ركوده دورانية وبالتالي تكون خثرات دموية هي الأصل في إصابة الدوران الإكليلي للقلب, وما يتلو ذلك من احتشاء في العضلة القلبية.

مقاومة صامتة

ويصطدم هذا التطور العلمي المهم بمقاومة صامتة من دور الأدوية التي تجني ملايين الملايين من الدولارات من استهلاك الأدوية المعتمدة سابقا, والمستعملة في القرحة الهضمية واحتشاء القلب, والتي ثبت أنها غير كافية لإقامة شفاء كامل على المدى البعيد.

وفي القرحة الهضمية, تسعى دور الأدوية إلى مزج أدويتها القديمة بأدوية جديدة مقترحة لمكافحة الإنتان, لتشكل خليطا قابلا للاستعمال ويمنع النكس, إلا أنها بانتظار موافقة أخيرة وصريحة من المؤسسة الاتحادية الدوائية "FDA" FEDERAL DRUGS ADMINISTRATION في الولايات المتحدة لاستعمال الخليط الدوائي الجديد.

وكثير من الأطباء في أرجاء العالم ينتظرون توجيهات واضحة من الـ FDA التي وافقت على الترتيبات الجديدة في معالجة القرحة الهضمية, لكن لم تتخذ أي قرار بعد, بشأن الدور الإنتاني في احتشاء القلب.

ويعتقد الباحثون أن هذا العنصر الإنتاني في مرض القلب الإكليلي يضاف إلى العناصر الأخرى المهيئة والمطلقة لاحتشاء العضلة القلبية وهي: الوراثة, ارتفاع الكولسترول وشحوم الدم, الدخان.

وكما هو الحال في القرحة الهضمية حيث تأكد فعل الجرثومة الحلزونية في أسبابها وبشكل واسع إنما غير مطلق فيبدو أن التأثير الجرثومي في احتشاء العضلة القلبية ذو دور مهم مشارك دون أن يكون سببا وحيدا.

ومازال بعض الأطباء يتردد في القبول المطلق للأسباب الإنتانية في القرحة الهضمية, وأعتقد جازما أنهم سيترددون أكثر في قبول مطلق للأسباب الإنتانية في تصلب الشرايين والأمراض الإكليلية وما ينتج عنها من احتشاء في العضلة القلبية.

طب جديد لقرن جديد

والمهم في هذا التطور العلمي الكبير.. أننا نشاهد تكون فصل طبي جديد في أمراض الهضم والقلب وارتباطاتهما الإنتانية.. مما يجعل الطب الحديث يدخل حلبة جديدة من خلال تأثير الإصابات الإنتانية في تكوين الكثير من الأمراض الهضمية والقلبية الشائعة, وقد يمتد هذا التأثير في المستقبل, إلى أجهزة أخرى في جسم الإنسان كالجهاز العصبي والمفصلي والتناسلي وغيرها.

 

منذر الدقاقي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الجرثومة الحلزونية البوابية





القلب ذلك الدينامو الجبار هل تفسده جرثومة؟