مندور... من الرومانسية إلى الواقعية

مندور... من الرومانسية إلى الواقعية

إطلالة على ناقد كبير (2-3)

عندما واجه مندور العديد من التغيرات, كان عليه أن يراجع كل أطروحاته النقدية, وقد بدا اضطرابه واضحاً في نظرته للشعر.

كان على محمد مندور (1907-1965) أن يختار بين موقفين متقابلين بعد قيام ثورة يوليو المصرية سنة 1952. إما التوقف الذي قد يطول والمراجعة الكاملة للمقولات النقدية, وللواقع المتغير في الوقت نفسه. وذلك ما فعله نجيب محفوظ على مستوى الإبداع, عندما توقف عن الكتابة بعد الثورة واستمر في التوقف سنوات أعاد فيها تأمل رؤيته, وحدد فيها موقفاً من الواقع الجديد بعد أن تحطم العالم القديم الذي نقده في مرحلة ما قبل (أولاد حارتنا). وإما أن يكتفي مندور بالتعديل الذي يتصاعد مع وقع خطى التطبيق الاشتراكي في المجتمع. أما التوقف والمراجعة الكاملة, فكانت تقتضي غياباً غير هيّن عن الساحة النقدية. وذلك مالم يكن مندور مستعداً له, خاصة أنه كان يقوم بالتدريس المتواصل للأدب الحديث في معهد الدراسات العربية والكتابة المستمرة في الدوريات الثقافية والأدبية. كما كان يشعر أن عليه دوراً مهماً في تأصيل القضايا المطروحة في الحياة الثقافية. ولم يكن أمام مندور إلا التعديل أثناء الممارسة نفسها, وكأنه كان يريد أن يحقق فائدة مزدوجة: أن يوجد على الساحة النقدية ويواجه قضاياها المطروحة, وفي الوقت نفسه يفيد من الممارسة العلمية ويطوع معها أدواته النقدية القديمة ويعدل فيها تعديلاً يتناسب مع مقتضى الواقع الجديد. وكان الأمر أيسر عليه في فني المسرح والرواية, لأن تراثه النقدي فيهما قليل إذا قيس بالشعر. أما مفهومه عن الشعر ومنهجه المترتب على هذا المفهوم, فقد كان من الصعب عليه أن يراجعه مراجعة كاملة, لأنه لم يكن مستعداً لذلك بحكم ظروف كثيرة, أهمها أنه قد وصل إلى درجة من التشبع بمنهجه القديم تعوقه عن إحداث أي تغيير جذري فيه, فضلاً عن أن دوامة الحياة التي كان يحياها بأبعادها المتعددة ما كانت تعطيه الوقت أو الفراغ الكافيين لمثل هذا التغيير, وأخطر من ذلك كله أن الواقعية الاشتراكية ظلت على مستوى التطبيق العملي أو التأصيل النظري متذبذبة إزاء الشعر, لما ينطوي عليه الشعر من طبيعة نوعية خاصة تجعله سبباً لخبرة أي ناقد يتمسك بمقولات غضة عن الواقعية الاشتراكية, ولذلك, ظل إنجاز الواقعية الاشتراكية في المسرح والرواية واضحاً, أما في الشعر فالأمر ليس بهذا الوضوح.

ويبدو أن مثل هذه الأسباب كانت هي العلة الكامنة وراء ما فعله مندور في محاولته تعديل منهجه ومفهومه للشعر. لقد اكتفى بالإضافة التي أفادها من حواره أو التعديل الذي أفاده من مشاهداته أو قراءاته, وهي إضافة أو تعديل قد يفيد مؤقتا, لكنه يجعل المنهج النقدي مضطرباً في النهاية, ينطوي على مزالق وتناقضات لا حل لها, بل تتجلى المعضلات الجذرية في مفهوم الشعر ومنهجه في الأربعينيات وتحدث اضطراباً أعمق, يمكن أن نتوقف عند بعض مظاهره.

الشعر وانفعال الذات

لقد صاغ مندور مفهومه عن الشعر في الأربعينيات على أساس أن الشعر صياغة لانفعال الذات المبدعة عند اصطدامها بالحياة أو معاناتها لهذه الحياة. وتلك صياغة تندرج في إطار النزعة الرومانسية وتتضافر معها. صحيح أنه لاحظ الجانب التشكيلي من الشعر, فنفى مفهوم الصدق بمعناه الساذج, ولكنه - شأنه شأن أنصار نظرية التعبير الرومانسية في الفن - تمسك بالانفعال باعتباره الحافز الأول لعملية التعبير في الشعر. وبالتالي, جعل معيار الحكم النقدي مرتبطاً بوقدة الانفعال وعمقه, بقدر ما يتكشّف الانفعال في الصياغة وبقدر ما تشير فينا الصياغة نفسها انفعالاً مشابهاً أو مماثلاً. ولذلك, يقول في كتابه (الشعر المصري بعد شوقي) الذي صدر الجزء الأول منه في منتصف الخمسينيات تقريباً, (والذي لاشك فيه أن قوة الانفعال هي التي تولّد الرؤية الشعرية, وكل رؤية شعرية عميقة واضحة لن تعجز عن الوصول إلى الصياغة الشعرية الجميلة الخالية من كل برود أو غلظة أو ابتذال). ويكرر مندور المقولة نفسها في كتابه (النقد والنقّاد) الذي صدر في منتصف الستينيات تقريباً - على وجه التحديد عام 1964 قبل وفاته بعام - فيقول: (والذي لاشك فيه أن قوة الانفعال هي التي تولد الرؤية الشعرية لا التفكير الفلسفي الجاف). هذا الانفعال الذي يتحدث عنه مندور انفعال فردي بالضرورة (لأن الشاعر الغنائي لا يقول لنا ما هي الأشياء, وما هم الناس, وما هي الطبيعة وحقائق مظاهرها, بل يصوّر لنا الانطباعات التي تنعكس على صفحة روحه من كل هذه الأشياء, وهذا هو معنى الغنائية الوجدانية التي لازمت نشأته وبررت وجوده, وتخليه عنها أو نسيانها أو تناسيها كثيراً ما يجفف ماء هذا الشعر).

ومعنى كل هذه النصوص أن الأساس في الحكم النقدي هو الانفعال العميق الذي تكشفه صياغة القصيدة وتثيره في أنفسنا, وهذا أساس مضلل لأنه يردّنا إلى شيء غامض تماماً لا ندري - في النهاية - ما هو? فضلاً عن أنه لا يكشف المحتوى الاجتماعي لهذا المجهول الذي نسمّيه الانفعال, ومادام الأمر كذلك فلابد من فتح الباب على مصراعيه أمام التأثرية مرة أخرى. ولو سلمنا بوجود الانفعال الفردي أساساً للشعر, فماذا نفعل إزاء الشعر الذي يتجاوز ذات الشاعر ويعبّر عمّا هو أوسع منها? وهل يمكن أن تظل ذات الشاعر في عزلة, تعبّر عن انفعالها الفردي الخاص والفريد فحسب, أم أن هذه الذات يمكن أن تندمج في غيرها من الذوات فتصبح ذاتاً جمعية لا ذاتاً فردية? هنا (يتخلى مندور عن لفظ (الانفعال) ويستخدم لفظاً مقارباً له هو (الوجدان) ويصوغ توليفة جديدة من وجدانين هما: الوجدان الفردي) و (الوجدان الجمعي). وبذلك نكون إزاء نوعين من الشعر: شعر رومانتيكي, وشعر واقعي, وكلاهما قيّم, وكلاهما مقبول, وكلاهما يقوم على الوجدان أو الانفعال الذي لا يمكن أن يقوم الشعر دونه. كل ما في الأمر أن أحداث المجتمع قد تطغى فتفرض نفسها على الشاعر فيلتحم بآلام شعبه فيكتب شعر وجدان جمعي, وقد تخف فيعود الشاعر إلى ترنّمه الخالص أو وجدانه الفردي. وبمثل هذه التوليفة يوفق مندور بين مثله التعبيرية والأفكار الاشتراكية الجديدة, أو يوفق بين لانسون ومكسيم جوركي, خاصة أن الأخير يؤكد أن الأديب الكبير لابد أن يجمع بين الرومانتيكية والواقعية, وبذلك يمكن لمندور أن يقول في بساطة تكشف عن حسن النوايا أكثر مما تكشف عن عمق المراجعة: (وهكذا تخلص إلى أنه وإن تكون قد نهضت مذاهب جديدة تعارض الرومانسية فإن هذه المذاهب لم تستطع أن تنزع عن الشعر الغنائي طابعه الوجداني الذي يعتبر من صميم جوهره, فالشعر لابد أن يظل وجدانياً).

وتلك - مع الأسف - نظرة توفيقية لا تستطيع أن تتجاوز حدود نظرية التعبير أو مثلها الرومانتيكية المعتدلة, لأنها تظل تربط الشعر بحافز وهمي هو الانفعال, دون أن تتجاوز ذلك الحافز إلى الموقف الذي يصوغه الشاعر جمالياً من الواقع المحدد الذي يعيش فيه.

القصيدة.. وجدان أم التزام?

والمعضلة التي تطرحها هذه النظرة التوفيقية على خلل في الإجابة عن سؤال مؤداه: هل يتعامل الناقد مع القصيدة باعتبارها تعبيراً عن وجدان أم باعتبارها صياغة جمالية لموقف محدد من واقع اجتماعي محدد هو الآخر? في الحالة الأولى يلوذ الناقد بالانفعال ويحتكم إلى الذوق, أما في الحالة الثانية, فليس أمامه إلا الموقف وهو القصيدة ذاتها, فإذا كان الناقد متمسكاً بالبحث عن الموقف الاجتماعي المحدد الذي تجسده القصيدة أو تصوغه, فليس ثمة اتفاق بين وجدان جمعي ووجدان فردي, وإنما اختلاف بين موقفين من الواقع الاجتماعي لا سبيل إلى المساواة بينهما في الغاية أو القيمة لدى ناقد يجنح إلى الاشتراكية, أو يلوذ بنظرية الانعكاس.

وهناك معضلة أخرى ترتبط بوظيفة الشعر, هل هذه الوظيفة هي التعبير عن وجدان فحسب أم أن لها دورها الإيجابي ووظيفتها الاجتماعية? إن مندور يقول (إن الشعر الغنائي طفا على وجه الزمن ولم يستطع موجه أن يبتلعه كما ابتلع من قبل شعر الملاحم وشعر التمثيليات. وكان السبب في الإفلات من طوفان الزمن هو إشباعه حاجة إنسانية خالدة ما خلد الإنسان, وهي التعبير عن الوجدان البشري). والتعبير عن الوجدان البشري يردنا إلى (الانفعال) مرة أخرى, ولا يجعلنا ندرك وظيفة محددة للشعر سوى التعبير عن الانفعالات ومعالجة آلام النفس, وذلك فهم يبعدنا عن الواقعية الاشتراكية بدل أن يقترب بنا منها, ويبدو أن الذي أربك مندور في هذا الجانب هو التسليم بأن الرومانتيكيين قد وضعوا للشعر (فلسفته النهائية) عندما أخرجوه من دائرة المحاكاة وقالوا إنه تعبير عن الوجدان الفردي للشاعر, وأن جميع المذاهب التي تلت الرومانتيكية (لم تستطع أن تغير جوهر تلك الفلسفة), ومادامت الفلسفة النهائية قد وضعت فلا سبيل إلى تغييرها, وحسب مندور - والأمر كذلك - أن يوائم بين هذه الفلسفة الرومانتيكية النهائية والواقعية الاشتراكية, ويضيف الوجدان الجمعي إلى الوجدان الفردي, فيحفظ - بذلك - لتلك الفلسفة النهائية جوهرها الثابت دون تغيير, وذلك مجرد أمل طيب, ولكنه محض سراب لا سبيل إلى الوصول إليه, لأن فلسفة أي فن لا يمكن أن تكون نهائية, ولا يمكن أن تضعها - إن وجدت - مرحلة من المراحل أو تيار من التيارات, ومن الصعب أن نتصوّر - مثلاً - أن كتابات الوجوديين والماركسيين وغيرهم من كتّاب أو شعراء الإحياء الكلاسيكي (ت.إي.هيوم.إليوت.إزرا باوند وغيرهم) لم تستطع أن تغير جوهر الفلسفة النهائية التي وضعها الرومانتيكيون للشعر, سواء على مستوى الإبداع أو التأصيل.

وإذا كانت الوظيفة الأساسية للشعر هي التعبير عن الوجدان الذي يرد الشعر إلى انفعال غامض, فلا مفر من التسليم بأن الشعر قرين السذاجة والفورة ونقيض النضج والاتزان, بل نقيض الثقافة وربما الوعي, وبالتالي يصبح الشعر نتاج مرحلة الشباب الغض التي يكفي فيها الانفعال المتقد دون الخبرة المتزنة, وتصبح القصة - على عكس الشعر - نتاج مرحلة النضج والاتزان, ولذلك - من وجهة نظر مندور - بدأ إبراهيم عبدالقادر المازني شاعراً وانتهى بعد نضجه إلى القصة, ولذلك - أيضاً (يقول النقّاد إن الشعر هو إنتاج الشباب, وهو لا يتطلب معرفة عميقة بالحياة, ولا تجارب عدة فيها, كما يقولون إن القصة هي عمل النضوج). ويؤكد مندور هذه المقولة الموهمة في موضع آخر فيقول (قال النقّاد ولايزالون يقولون إن القصة من عمل النضوج, وإذا استطاع الشاب الغض أن ينبغ في الشعر أو الموسيقى مثلاً فإنه قلما يستطيع ذلك في فن القصة أو الأقصوصة).

الانفعال الموار

ولابد أن نتساهل إزاء هذه الأحكام دون أن نعارضها بما ينفيها, فالأمر هيّن مادمنا نعدها من قبيل النتائج التي تترتب على الإلحاح على الانفعال ورد النشاط الشعري بأسره إلى وقدته المحتدمة, ومادام الشعر يطفو على وجه الزمن لإشباعه حاجة التعبير عن الوجدان البشري, ومادامت هذه الحاجة تحتدم في فورات الشباب, فلا ضير لو اقترن الشعر بفترات الانفعال العاصف لدى الشباب, اقتراناً يقوم على السذاجة والفورة, والتباعد عن المعرفة العميقة, ولن نلتفت كثيراً إلى تناقض مندور مع نفسه بهذه النظرة, بعد أن طالب الشعراء باستخلاص المستقبل من اتجاهات الحاضر, المهم أن نلاحظ أن الإلحاح على الانفعال يؤدي إلى مزلق آخر يرتبط بمفهوم (الوحدة العضوية) في القصيدة الغنائية الخالصة, ويدل البحث عن أشكال غير أرسطية للوحدة العضوية, أو البحث عن العنصر الدرامي الكامن حتى في أشد القصائد الغنائية بساطة كما يقول ناقد مثل كلينث بروكس, بدل ذلك كله يلوذ مندور بمفهوم ثابت للوحدة يتنافر مع مفهومه الأثير عن الانفعال الموّار. وبذلك يضطرب الموقف أكثر, ومادام الشعر الغنائي - فيما يقول مندور - يعتمد على الفورة (ويقوم على تداعي المشاعر والخواطر في غير نسق وضعي محدد), فإن الوحدة العضوية فيه أمر لا يكاد يتصور (وإنما تتصور هذه الوحدة العضوية في القصائد ذات الموضوع الذي له بدء ووسط ونهاية, على نحو ما نشاهد اليوم في عدد من قصائد الشعراء الشبّان المعروفين بالشعراء الواقعيين, حيث يتخذ كل منهم موضوعاً لقصيدته قصة قصيرة أو دراما سريعة يعالج بها إحدى مشاكل عصره أو مجتمعه).

ويؤكد مندور هذا الرأي مرة أخرى بشكل يشي بعميق قناعته به فيقول إن المطالبة بالوحدة العضوية لا تكون إلا في فنون الأدب الموضوعي كفن المسرحية وفن القصة والأقصوصة. وأما في شعر القصائد, فلا ينبغي أن يطالب بها إلا في الشعر الموضوعي ذي الطابع الواقعي الذي تبنى القصيدة فيه, كما قلنا, على قصة قصيرة أو دراما سريعة. وأما الشعر الغنائي الخالص, أي شعر الوجدان, فمن أكبر التعسّف مطالبة الشاعر بمثل تلك الوحدة التي لا تقبل تقديماً أو تأخيراً في نسق أبياتها). والمعضلة التي يحاول مندور الفرار منها ينفي مفهوم الوحدة العضوية من القصيدة الغنائية ترتد إلى إلحاحه على الانفعال - باعتباره أساساً وحيداً للقصيدة الغنائية - من ناحية, وإلى مفهومه عن الوحدة العضوية من ناحية أخرى, إن (الانفعال) كما يفهمه مندور أقرب إلى العاصفة الوجدانية التي تتحرك صوب الخارج نتيجة حافز أو مثير يمثل ضغط العالم الخارجي, وهي في حركتها تعتمد على ما في عناصرها من فورة وتوثب. وعلى ما يزكّيه الحافز نفسه في هذه العناصر من ثورة. أما الوحدة العضوية فإن مندور يلوذ في فهمها بتصور أرسطي محدد, يجعلها قرينة (الحدث) البسيط الذي يتكون من جرم معين, يتحدد في بداية ووسط وخاتمة, ويتسم بالتناسب المنطقي بين وحداته, كما يقول أرسطو نفسه في كتابه (فن الشعر), ومادام مفهوم الانفعال - على هذا النحو - يتعارض مع مفهوم الوحدة العضوية, فلا مفر - لدى مندور - من التضحية بأحدهما إبقاء على الآخر, خاصة إذا كان الآخر - أعني الانفعال - أثيراً تماماً, يصعب التخلي عنه أو التفريط فيه, وكان يمكن تجاوز هذه المعضلة لو تمت مراجعة المقولات النقدية القديمة - مقولات الأربعينيات مراجعة عميقة متأنية, في ضوء مفاهيم الواقعية الاشتراكية التي حاول مندور الاقتراب منها, والإفادة من منجزاتها النقدية, ولكن مندور في حومة الممارسة النقدية التي لا تسمح بالمراجعة اكتفى بالتعديل الهيّن, الذي أوقعه في مزلق التسليم بأن الرومانتيكية وضعت للشعر (فلسفته النهائية): بكل ما تنطوي عليه هذه الفلسفة من التسليم بمقولة (الانفعال) الموهمة, التي عفّت عليها مفاهيم ما بعد الرومانتيكية سواء في العالم الرأسمالي أو العالم الاشتراكي, وبكل ما تنطوي عليه هذه الفلسفة - أيضاً - من فهم بسيط للوحدة العضوية, عُدّل هو الآخر في ضوء معطيات التحليل البنائي للشعر.

الشعر ووظيفته

وتتجلى المعضلات النقدية عند مندور أكثر من ذلك عندما نناقش الجانب الوظيفي للشعر من خلال ما يسمى (المضمون) وعلينا أن نلاحظ أن أي فهم واقعي للفن لربط المضمون بالشكل, ويضعهما معاً في تفاعل جدلي لا يتميز فيه أحدهما عن الآخر في حقيقة الأمر, إلا من قبيل التجريد النظري فحسب. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقول, مع أرنست فيشر: (إن أي موضوع من الموضوعات لا يرتفع إلى مستوى المضمون إلا من خلال موقف الفنان. أي أن المضمون ليس مجرد ما يقدمه الفنان فحسب, بل وكيف يقدمه الفنان, وفي أي سياق, وبأي درجة من درجات الوعي الاجتماعي والفردي). وإلى شيء قريب من هذا , قصد مندور عندما قال: (العبرة في الواقعية بالمضمون الذي يصبه الأديب أو الفنان في الواقع, أي وجهة نظره إلى هذا الواقع والحكم الذي يريد أن يوحي إلينا به من خلال الصورة الفنية التي اختارها لموضوعه).

وعندما نترجم مثل هذا الفهم إلى الشعر لابد أن نقول إن مضمون القصيدة هو موقف الشاعر على نحو ما يتجلى في صياغتها, وبالتالي, فنحن نستطيع أن نميّز قصيدة عن أخرى بمضمونها, واتجاهاً شعرياً عن آخر بموقفه النهائي. والموقف - هنا - موقف من واقع اجتماعي محدد بالضرورة. ولكن محمد مندور يعود فيقول لنا إن هناك إجماعاً على أن النظم في أي موضوع قبيح أو تافه بطبيعته لا يمكن أن يصبح شعراً (إلا إذا استطاع الشاعر أن يضفي الجمال على ما يصف وأن ينتزعه منه حتى تهتز له النفس أو تطمئن له حاسّة الجمال, وتلك عبارات تنقلنا من مفهوم المضمون باعتباره موقف الشاعر المصاغ جمالياً إلى جمالية أخرى غامضة, تقوم على أساس انطباعي لا يفيد في كثير أو قليل, ثم نجد مندور يقول في سياق آخر (الشعر في مضمونه أولاً وآخراً تعبير عن وجدان الشاعر أيّاً كان مصدر هذا الوجدان الذي تختلط فيه الطبيعة في ذات الشاعر وبمجتمعه وحياة ذلك المجتمع), أي أن المضمون يصبح مرة هو وجهة نظر الشاعر أو موقفه, وفي الأخرى هو الموضوع, وفي المرة الثالثة يصبح وجدان الشاعر. والفرق شاسع بين كل هذه (المضامين) وهو بالضبط الفرق بين رد وظيفة الشعر إلى تعبير عن وجدان يحوّل كل ما يمسّه إلى جمال خالص, ورد هذه الوظيفة إلى صياغة موقف, وهو فارق يشي بالازدواجية التي تشكّلت في ذهن مندور نتيجة ما يحاول أن يفيده من نظرية الانعكاس وينقله من الواقعية الاشتراكية إلى مفهومه التعبيري القديم عن الشعر. وهي ازدواجية تبرر لنا إلحاح مندور - حتى أواخر أيامه ـ على تعريف الأدب بأنه (كل ما يثير فينا بفضل صياغته انفعالات عاطفية أو إحساسات جمالية). كما تبرر لنا وضع مندور التأثيرية وتعريف لانسون للنقد جنباً إلى جنب مع الحديث عن وظيفة الأدب الاجتماعية التي لا تجعل من الأدب هروباً من الحياة ومشاكلها وقضاياها ومعاركها, وذلك في مقاله عن النقد الأيديولوجي, الذي يعد من أواخر مقالاته النقدية.

 

جابر عصفور