فضاء فضي لاسع

فضاء فضي لاسع

كنت أحدس أن الرجل يغرز عينيه في قفاي لحظتئذ, أحدق في الصفحة المشعة المثبتة على شاشة الكمبيوتر حيث سواد الحروف لا يعفيها من زئبقية عصية على الضبط, الضوء الفضي, يجعل عيني المركزتين عليها دائختين.

كم مرة تملكني إحساس القبض على الريح حين تخرج الصفحة من رحم الطبع وبها أخطاء تحيل الفكر كفرا والتجول تبولا?!

أحس الرجل يلصق بصره الصقري بقفاي, أحرص على عدم الالتفات وراء, لا أريد أن تصبح حربنا المبطنة مكشوفة فنستعمل فيها أظفارنا وأرجلنا ورأسينا, يتعمد بين الفينة والأخرى ممازحة الراقنات المصطفات كبنيان واطئ غير مرصوص, يثني على خفة أصابع إحداهن فتندلق في دلال صامت مهزوم, يفتر ثغرها عن ابتسامة قانية مصقولة وخائفة, يظل للحظة فاغراً أمام الشاشات الفضية.

سح المطر بقوة هذه الصبيحة, صدمني طلبها السافر في الاحتماء بمطريتي, سرنا جنبا إلى جنب, بدت وكأن حبات الماء الوقحة المندلقة من خلل شعرها تتلكأ على بشرتها السمراء اللامعة اللزجة قبل أن تضيع بين الشفتين العامرتين, عاتبت نظراتها الجذلانة ارتباكي, خفت سرعة خطوي حتى وازت سيرها الهين الرشيق غير المكترث للسيل الرقيق وهو يغسل الإسفلت بإصرار.

ـ يمكنك أن تطبعي الصفحة يا آنسة!

تعود النظرة الصقرية بسرعة إلي, أحسها تأكل قفاي بإصرار أشد وأمضى.. أترك مكاني ولا ألتفت, لا أريد استعمال أظفاري ورجلي ورأسي, فلا نهش ولا ركل ولانطح (لم يشك أي ممن عملوا أو تعاملوا معنا قرنا من الزمن منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر, نحن مؤسسة لها تقاليد, والتقاليد هي أساس السمعة المهنية والأخلاقية, أشكركم على حسن انتباهكم)!

قالها المدير السبعيني ببطء لكن في حزم وترك مقعده بنفس البطء لكن في حزم أشد لم تنل منه العقود السبعة.

تركت لها مكاني في الحافلة المكتظة, شكرتني بعينيها الجذلاوين, بينما ساطتني أعين الركاب الخابية.. انشغلت بنفض البلل العالق بجوانب معطفي وظلت هي ترمقني من طرف خفي, ارتباكي يمنحها فرصة تندر, خمنت.

اجلس محاذرا رفع عيني حتى لا تصطدما بنظرته الجفولة, أخشخش الأوراق التي بين يدي وأكشط إحدى الصفحات بسن القلم, لم يتكسر هذه المرة لحسن حظ أعصابه, لكن صمتي أخرجه عن صمته:

ـ هل مازال موجودا مع الراقنات?

ـ ن.. ع.. ممم! اضغط على الأحرف القليلة للكلمة الجوابية وأزيد في الكشط على الورقة التي أمامي, (غضطط.. طراق) يتكسر سن القلم أخيرا..

أحسه ينخسف في بعضه فأزفر نفسا مكتظا بارتياح, أدفع يدي إلى حيث علبة السجائر, أتركه يدفن نظراته الجفولة في عمل منته يربض أمامه كالعادة وقتا ميتا يطول ويقصر حسب وشوشة الأبهاء, أنفث دخانا كثيفا متعمدا النظر إليه بتركيز وقح, أضبطني ممارسا لتباصر مع نجم هوليودي رخيص, أستسخف الموقف برمته وأنشغل بما كان بين يدي.

أصر مالك الغرفة على مصافحتي طويلا على غير عادته:

ـ كيف حالك يا أستاذ, حسبناك في سفر?!

كان جهاز التلفزيون معطلا منذ أسابيع, تركته حيث هو كتلة جامدة أرثيها... انتبهت إلى أني عبأت الشيك بمبلغ الكراء أمس ونسيته, الرجل الستيني لا ينسى مواعيد مستحقاته.

ـ شكرا تفضل..

ناولته الورقة البنكية الصفراء وانمسحت من أمامه مرتقيا الدرج الضيق العطن مثنى وثلاثا.. تغرق المدينة في بياض فضي لاسع مخفية السماء المعتمة, تهرول الكائنات للحاق بالقطار, يئز صوت الصفير الحاد, (تش. ش. ش ط..اا ق) افتح عيني مفزوعا.

اللعنة.. إنها نفس الخطوات الثقيلة السكرانة تجلد لمرة ألفية صمت الدرج الضيق.. سيعلو صراخ المرأة لمرة ألفية أيضا.. سيصرخ الأطفال ويبكون, وسيأتي مالك الغرف بأكملها ليعيد المياه إلى أنابيبها.

(.. ثمة بنايات شطرنجية تخترق الفضاء الفضي اللاسع, في هذه المدينة الموصوفة تصطف علب كرتونية حمراء وسوداء وزرقاء بلا عد ولا حصر.. تتلقفها الكائنات وتفض شرائطها وتشرع في التهام ما بها دون أن تتوقف عن الجري للحاق بالقطار النافث لأزيز وصفير ودخان الانطلاق)(1).

تتوقف جلبة الخطوات الثقيلة السكرانة للحظة ويصر صوت ارتطام معدني مستهتر, أؤشر على الصفحة قبل أن يطرد الرجل السكران زوجته وأطفاله وصراخهم إلى الفضاء الضيق للدرج العطن, يرتطم الكتاب بقنينة الحبوب المنومة.

تجمدت في مكاني بينما المهرولون يقلون تباعا, سهام سوداء تخترق البياض الفضي اللاسع في سرعة وانضباط, أقف وحدي في زحام ليس فيه أحد يشبهها.

إنها قد تنسى ملامح وجهي لكنها لن تنسى بالتأكيد المطرية, يجلو البياض الفضي اللاسع عن بياض أشد لسعا, تقل السهام السوداء المارقة من أمامي وخلفي شيئا فشيئا, تستحثها أعماقي في الظهور طاردة الخوف أسفل البطن.. تغيم رؤية البنايات الشطرنجية شيئا فشيئا.. تنفتح المظلة فجأة وتمرق من يدي مختفية في البياض الفضي الكثيف المتناسل, تضيع كل المعالم قبل أن انتبه, أستحث أعماقي على مزيد من التنكر للخوف بينما يبتعد صوت أشبه بأزيز القطار.. فجأة رأيتها.. تجمدت في مكاني أكثر وتيبست.. انشقت طبقة بيضاء انقسامية إلى ما لا نهاية عنها, ذات البشرة السمراء معقودة الحاجبين, ازددت تجمدا في مكاني, قطرات الماء السوداء تسح منها فتترك صوت خمود ناري يتصاعد بخاره فتغيم الرؤية في الفضاء الفضي اللاسع المتناسل.. تتجه صوبي السمراء الجهنمية الملامح في سرعة ضوئية مصوبة الطرف المدبب المسنون للمطرية السوداء الطويلة.. (أين مطريتي.. من أعطاها مطريتي?).

يختنق الصراخ المستغيث في حنجرتي, يصدر أمر دماغي بأقصى استعجال إلى أطرافي لتسابق سرعة تناسل الفضاء الفضي اللاسع, أظل مسمرا في مكاني جبلا جلموديا أحدس ثقله بقدر استشعاري للسرعة الضوئية الفضية اللاسعة, تقترب بنظرتها الصقرية والطرف المدبب المسنون للمطرية, استحث بداخلي أوامر الانفلات, ينيخ الجبل رسوخه, أتبعثر شظايا من هلع, أحس الطرف المدبب المسنون يخترق كتلة ثيابي الثقيلة.. آ.. آ.. آ.. ه..

استيقظ متعرقا مفزوعا.. أركن إلى سكون كئيب.. ألقي نظرة على ساعة السرير.. مازال الضوء الفضي للصباح بعيدا وقنينة الحبوب المنومة فارغة.

 

مصطفى حيران