اللغة حياة

اللغة حياة

العشرينات أم العشرينيّات أم غيرهما؟

في الإنجليزية صيغة خاصة تقوم على جمع العقود للدلالة على السنوات التسع التي تليها، فيجمعون twenty «عشرين»، مثلًا، على twenties «عشرينات» ويعنون بها الأعوام الحادي والعشرين والثاني والعشرين حتى التاسع والعشرين، ومثل ذلك الثلاثون والأربعون حتى التسعين، وقريب منه عندهم جمع المائة، ولا أدري أيّ كاتب متأثر باللغة الإنجليزية أدخل إلى العربية ترجمة هذه الصيغة.

لكن مقاييس الإنجليزية غير مقاييس العربية، ولم يُعرف عن العرب جمع العقود، ولذلك تصدّى مجمع اللغة العربية في القاهرة للقضية، فأجاز ذلك الجمع شرط دخول النسبة على العقد، نحو: عشرينيات وثلاثينيات، للدلالة على المعنى المشار إليه، ولم يجز عشرينات وثلاثينات.. إلخ. وبقول آخر، لم يجز جمع العقود بل جمع ما يُنسب إليها.

ولم يورد المجمع في قراره مسوّغات هذه الإجازة وذلك المنع، وربما احتفظ بالتسويغ في ملفاته، لكننا نقدّر أنه أخذ برأي سيبويه في أنه لا يجوز أن يثنى أو يُجمع جمع المذكر السالم وما أُلحق به، وكذلك جمع المؤنث السالم، وبتوكيده أن العرب: «لم يجيزوا عشرونان واستغنوا عنه بأربعين»، وأن قولنا مئاتان «تثنية مئات» وألفانان «تثنية ألفين» واثنانان خطأ، على حين أن جمع العلم المصوغ صياغة جمع المؤنث السالم جائز، مثل أذرعات «وهي بلدة شامية» التي تثنى على أذرعاتان، وينبغي جمعها على أذرعاتات. ومعروف أن النسبة إلى الملحق بجمع المذكر السالم جائزة، وتكون بأن يشبه العقد بكلمة «حين» وتزاد ياء النسب عليه، فيقال: عشريني، وثلاثيني..إلخ، وتجمع هذه النسبة جمع مؤنث سالمًا فيقال عشرينيات وثلاثينيات.

لكن هنا اعتراضين: الأول أن سيبويه لم يجز جمعَ جمعِ المذكر السالم والملحق به بزيادة الواو أو الياء عليهما، ولا جمعَ جمعِ المؤنث السالم بزيادة الألف والتاء عليه، لكن عشرينات جمع مؤنث سالم للملحق بجمع المذكر السالم، فهو يخرج عن حكم سيبويه. والثاني أن الذي يسمح بتشبيه العقد بالاسم المفرد وبالنسبة إليه، ينبغي أن يسمح بجمعه جمع مؤنث سالمًا لأنه لغير الذكور العاقلين، فيقال: عشرينات، وأمثالها، كما ينبغي أن يسمح بتثنية العقود أيضًا، فيقال: عشرينان، وثلاثينان.

فالوجهان قياسيان، لكن الاستعمال يرجح أحدهما، فالعرب لم يستعملوا العقود قط مجموعة، على حين أنهم نسبوا إلى بعضها كما رأينا، خلافًا لرأي بعض النحاة الذين يوجبون تجريد تلك العقود من علامة الجمع، قبل إدخال ياء النسب إليها، فالحقيقة المقرّرة أن عشرين ليست جمعًا لعشر، ولا ثلاثين جمعًا لثلاث..إلخ. ولذلك يعامل المستعمل العربي هذه العقود معاملة الجمع الذي لا مفرد له، أو معاملة اسم الجمع، أو معاملة الشبيه بالمفرد، فينسب إليها بلا حذف، وعلى ذلك اسم المحدِّث أبي نصر الستّيني، واسم تلميذ ابن جنِيّ، عُمر بن ثابت الثمانيني، نسبة إلى بلدة الثمانين قرب الموصل، والاسم المنسوب يجوز جمعه.

هذا وقد عرض للمؤرخين القدماء مثل هذه الحالة، فعبروا عنها بطريقتين:

الأولى بأن أضافوا كلمة عَشر إلى العقد والمائة، فقالوا: عشر العشرين أو الثلاثين..إلخ. لكنهم عنوا بذلك العشر الأخير من العقد أو المائة المذكورة، فإذا قالوا: عشر الثلاثين، مثلًا، فإنهم يعنون الأعداد من أحد وعشرين إلى ثلاثين، ومثال ذلك إشارة ابن العماد الحنبلي إلى وفاة محمد ابن إدريس الرازي «في عشر التسعين» ووفاة أحمد بن عبدالجبار العطاردي «في عشر المائة»، ونذكر أن الرازي توفي عن اثنتين وثمانين سنة، والعطاردي عن خمس وتسعين.

والثانية ما استعمله ابن خلدون، وهو إضافة كلمة أعوام إلى المائة أو العقد أو حتى إلى العدد المفرد، كقوله في مقدمته: «ضعف أمر الخلافة أعوام الخمس مائة للهجرة في آخرها». وهو يريد القول: خلال القرن الخامس الهجري. لكن استعماله يبدو ملتبسًا، فمرّة نفهم أنه يعني نيف العقد السابق للعقد المذكور أو العشرة السابقة للمائة المذكورة، ومرة يوحي أنه يقصد نيف العقد المذكور نفسه أو العشرة التي تلي المائة. ومن ذلك أنه يذكر في تاريخه تكهّن أبي يعقوب الكندي «أن انقراض أمر العرب يكون أعوام الستين والست مائة» ويعقّب على هذا بأن الأمر «كان كذلك» ويشير، في موضع آخر، إلى ما هو معروف من سقوط الخلافة العباسية سنة 656 هـ، فيكون معنى «أعوام الستين» هو ما بين الخمسين والستين، وهو ما يمكن تشبيهه بالصيغة الفرنسية: soixantaine وأمثالها. ومن ذلك إشارته، في المقابل، إلى حكم محمد بن تكش للرها وهمذان وبلاد الجبل «أعوام تسعين وخمس مائة»، وقد ابتدأ حكم ابن تكش هذا سنة 590هـ، فتكون «أعوام التسعين» هي ما بين 590 و600هـ. وذلك ما يمكن تشبيهه بالصيغة الفرنسية: les années quatre-vingt-dix «السنوات تسعون، أو سنوات التسعين». ومن ذلك استعماله الغريب «هلك أعوام أربع وأربعين من المائة الثامنة» والأغرب منه قوله: «وكان هذا في حدود أعوام سنة ست وسبعين». ويصعب تفسير هذين الاستعمالين: فكيف يكون تاريخ الهلاك المحدد بدقة أعواما، وكيف تكون السنة الواحدة أعواما أيضا؟ من المحتمل أنه جعل لمجموع الأعوام في التاريخ ما يسميه المعاصرون عددا أصليا، وجعل للعام الواحد فيه ما يسمونه عددا ترتيبيًا.

والسؤال الأخير، إذا كانت العشرينات والعشرينيات مما لم يستعمله العرب، وكان عشر العقد أو المائة يعني، في العربية، عكس ما يعنيه جمع العقد في الإنجليزية، أي يعني السنوات العشر السابقة لنهاية العقد لا التسع اللاحقة له، وإذا كانت إضافة كلمة أعوام إلى العدد غير واضحة المعنى، عند ابن خلدون، فكيف نصنع؟

لعل الجواب المنطقي عن ذلك، وبما يوافق الطبيعة الحيوية للغة هو ان يعتمد الاستعمال الحديث ولو مقتبسًا، مع تفضيل العشرينيات وأمثالها على العشرينات، علمًا أن العشرينات، مثلًا، توحي، في العربية، معنى العشرين + العشرين + العشرين.. إلخ. وليس السنوات العشر التي تلي العشرين.

وليست «عشرينية» وأشباهها نسبة مصدرية، أو مصدرًا صناعيًا، كما ظنّ بعض اللغويّين المعاصرين - وهو ما سميناه اجتهادًا مصدر الهوية - بل هي صفة قامت مقام موصوفها، وأصلها: عام عشريني أو سنة عشرينية، وأعوام أو سنوات عشرينية..إلخ، فلما حذف الموصوف أريد التذكير بأنه جمع، فاعتمد جمع الصفة التي قامت مقامه جمع مؤنث سالمًا، فقيل عشرينيات.

مصطفى الجوزو