جمال العربية

جمال العربية

مهيار الديلمي شاعرية جِنسيْن وثقافتيْن

يكفي أن يُشار - في ديوان الشعر العربي - إلى مهيار الديلمي باعتباره واحدًا من شعراء عصره الكبار - النصف الثاني من القرن الرابع والربع الأول من القرن الخامس الهجريين - وأن يقال فيه إن شاعريته خلاصة وارتشاف وتمثّلٌ - من غير تكرارٍ أو تقليد - لجوهر ما في الشعر العربي قبله. ففيها من بشار وأبي تمام وابن الرومي والبحتري والمتنبي، والشريف الرضي - أستاذه المباشر - بصفة خاصة. وقد حظيَ مهيار بين الجمهور الأدبي المعاصر بشهرة واسعة، منذ تغنى الموسيقار محمد عبد الوهاب بمقطوعته - ذات الأبيات التسعة - أُعجبت بي، مع تغيير في بيتها الأول، عندما غناه «ذات حسْنٍ» بدلاً من «أم سعد» حتى لا يفهم من السياق أنها أم زعيم الأمة سعد زغلول. يقول مهيار:

أعجبت بي بين نادي قومـها «أم سعدٍ» فمضت تسألُ بي
سـرّها ما علمت من خُلقي فأرادت علْمَها ما حسبي
لا تخالي نسبًا يخفضني أنا من يُرضيكِ عند النَّسب
قوميَ استولوْا على الدهر فتًى ومشوْا فوق رءوس الحقب
عمّموا بالشمس هاماتهمو وبنوْا أبياتهم بالشُّهب
وأبي « كسرى» على إيوانهِ أين في الناس أبٌ مثل أبي؟
سوْرة الملك القُدامى، وعلى شرفِ الإسلام لي والأدبِ
قد قبسْتُ المجد من خير أبٍ وقبسْتُ الدين من خير نبي
وضممْتُ الفخر من أطرافِه سؤدد الفرس ومجد العرب


هذه الغنائية المتدفقة في مقطوعة مهيار، وهذه الموسيقية الجليّة، واللغة الشعرية الرصينة القوية البنيان، عناصر أساسية تطالعنا في كل شعره، وتضفي من جمالها وبهائها على عالمه الشعري الرحب، الغزير العطاء؛ فديوانه هو الثاني بعد ديوان ابن الرومي في حجمه وعدد أبياته في كل الشعر العربي.

يلفت النظر في شعر مهيار، وبخاصة في مطوّلاته - روحه البدوية، التي أسعفته بالكثير من ملامح البادية على مستوى الأماكن والأشخاص والطلول والصور الشعرية، وهو الذي قضى حياته كلها في بغداد: العاصمة. وكأنها محاولة منه لتأكيد هويّته الثقافية العربية - وهو الفارسيّ الأصل - وعمق انتمائه للموروث الشعري العربي بكل قيمه وعناصره التي ينتظمها ديوان شعر البادية. لكن هذه الروح البدوية لم تحُلْ بينه وبين رحابة الاتساع لهموم عصره وشواغل زمانه وتقلب أحواله، وفي مقدمتها أحوال الصحاب والأصدقاء والخلاّن. يقول مهيار:

خليلُك من صفا لك فى البعادِ وجارُك من أَذمَّ على الودادِ
وحظُّك من صديقك أن تراهُ عدوًّا في هواك لمن تُعادي
ورُبّ أخٍ قصيِّ العِرْق فيه سلوٌّ عن أخيك من الولادِ
فلا تغررْكَ ألسنة «رطاب» بطائنهنَّ أكبادٌ صوادي
وعشْ إما قرين أخٍ وفيٍّ أمين الغيْب أو عيْش الوحادِ
فإني بعد تجريبي لأمرٍ أنسْتُ - ولا أغشُّكَ - بانفرادي
تريدُ خلائق الأيام مكْرًا لتُغصبني على خُلقي وعادي
وتغمزني الخطوبُ تظن أني ألينُ على عرائكها الشِّدادِ
وما «ثهلان» تشرفُ قُنّتاهُ بأحمل للنوائبِ من فؤادي
تُغرّبُ في تقلّبها الليالي عليَّ بكلِّ طارقةٍ نآدِ
إذا قلت: اكتفت مني، وكفّت نزَتْ بالداءِ ثائرةُ العِدادِ
رعى سمِنُ الحوادثِ في هزالي كأنّ صلاحهنّ على فَسادي
فيومًا في الذخيرة من صديقي ويومًا في الذخيرة من تِلادي
يذمُّ النوم دون الحرصِ قومٌ وقلتُ لرقْدتي عنه: حَمادِ
وما كان الغنى إلا يسيرًا لو انّ الرزق يبعثهُ اجتهادي
وضاحكةٍ إلى شَعْرٍ غريبِ شُكمْتُ به فأسلس من قيادي
تعدُّ سنيَّ تعجبُ من بياضي وأعجبُ منه - لو علمتْ - سوادي
أمانٍ كلّ يوم في انتقاصٍ يساوقهنَّ هَمٌّ في ازديادِ
وفرقةُ صاحبٍ قلقِ المطايا به قلقُ المدامع والوسادِ
تُخفِّضُ بعده الأيامُ صوتي على لَسَني، وتخفضُ من عمادي
وتخمدُ عن ضيوف الأنْس ناري وكنتُ بقربه واري الزنادِ
أقيمُ ولم أقمْ عنه لِمُسْلٍ ويرحل لم يسرْ مني بزادِ
كأنّا إذ خُلْقنا للتصافي خُلقنا للقطيعة والبعادِ


وهي أبيات نقتطعها من قصيدة طويلة، عامرة بتأملاته العميقة في طباع الناس وتقلّب أحوالهم، حتى لو كانوا من صفوة الأخوة والأصدقاء.

كما تتميز بلغة هادئة، واثقة النبرة، بعيدة عن الحوشية والتقعر والإغراب، الذي يأتي قليلاً في بعض قصائده، إشارة إلى تمكّنه وفحولته وسيطرته على أدواته، وهي حال من يؤكد ذاته ويدافع عنها باستمرار. لكن حاله مع الناس يظلّ معنى ساريًا مستمرًّا عبر قصائده، لعله كشف عن واقع عاشه الشاعر وكوتْه نيرانه، أو لعله شبهة تأثر بما قاله ابن الرومي في مدافعة الزمان والإخوان. يقول مهيار في بديعة من بدائعه:

ضاع الهوى ضياعَ من يحفظهُ ومات معْ أهل الوفاءِ الودُّ
انْجُ ربيح العِرضْ واقعد حَجْرةً(1) منفردًا، إن الحسامَ فرْدُ
كم مستريحٍ في ظلال نعمةٍ وأنت في تأميله تكدُّ
طالك بالمال، ولو أريْته صوْنًا رآك معه تُعدُّ
ملكْتُ نفسي مذْ هجرْتُ طمعي اليأسُ حرٌّ والرجاءُ عبْدُ
ولو علمتُ رغبةً تسوقُ لي نفْعًا لخفْتُ أن يضرَّ الزهدُ
جرّبتُ أخلاق الرجال، فإذا بسمْحها مع السؤال نَكْدُ
ورُمتُ أيديهم بكلِّ رُقية تلين، والأيدي معي تشتدُّ
لم يُعْيني فضلٌ أداريهم به وإنما أعيا عليَّ الجَدُّ(2)
ما كان من شعشع لي سرابَهُ غرَّ فمي وقلتُ: ماءٌ عِدُّ
في الناس مَنْ معروفه في عُنقي غُلٌّ، ومنهم من جَداهُ عِقْدُ (3)


هكذا تمضي بنا رحلتنا في ديوان «مهيار الديلمي» ، نستروح نسائم عصر مزدهر بشعر الفحول من شعراء العربية، كلٌّ منهم علم في ميدانه، ختام نهْج وطليعة نهْج، ينتسب إلى سابقيه، ويفسح طريق الإبداع أمام تابعيه. جمال العربية في شعرهم طرائق شتى، وتجليات متعددة، وأنفاسٌ تتكامل صانعة هذا العبق الفريد الذي هو خلاصة الشعر العربي ومعدنه وكيمياؤه. يقول مهيار في واحدة من قصائده العامرة بروح البداوة، يتقمص فيها حال الشاعر البدوي بين معاهده وأماكن صباه ومجالي صبْوته في شبابه:

مَنْ عذيري يوم شرقيِّ الحمى من هوًى جدَّ بقلبٍ مَزَحا
نظرة عادت فعادت حسرةً قتل الرامي بها مَنْ جَرَحا
قلن- يستطردن بي عينَ النَّقا: رجلٌ جُنَّ وقد كان صحا
لا تعُدْ-إن عُدْتَ حيًّا بعدها طارحًا عينيك فينا مَطْرحا
قد تذوّقتُ الهوى من قبلها وأرى مُعْذِبه قد أَمْلَحا
سل طريق العيس من «وادي الغضا» كيف أَغْسَقْتَ لنا رَأْدَ الضحى؟(4)
ألشيءٍ غير ما جيراننا نفضوا «نجدا» وحلّوا «الأبطحا»؟
يا نسيم الصبح من كاظمةٍ(5) شدَّ ما هجْتَ الجوى والبُرَحا(6)
الصَّبا - إن كان لابُدَّ الصَّبا- إنها كانت لقلبي أَرْوَحا
يا نداماى بسلْعٍ هل أرى ذلك المغْبقَ والمصطبحا
اذكرونا مثل ذكرانا لكم رُبَّ ذكرى قرّبت من نَزحا
واذكروا صبًّا، إذا غنَّى بكم شرب الدمع، وعافَ القدَحا
رجع العاذلُ عني آيسًا من فؤادي، فيكمو، أن يُفلحا
لو درى- لا حملت ناجيةٌ رحْلَهُ - فيمن لحاني مالحا
قد شربتُ الصبر عنكم مُكرهًا وتبعْتُ السُّقْمَ فيكم مُسْمحا
وعرفتُ الهمَّ من بعدكمو فكأني ما عرفتُ الفَرحا
ما لساري اللهو في ليل الصِّبا ضلَّ في فجرٍ برأسي وضُحى
ما سمعنا بالسّرى من قَبْلهِ بابن ليلٍ ساءه أن يُصبحا
طارقٌ زار، وما أنذرَنا مُرغيًا بَكْرًا، ولا مُستنبحا
صوّحت ريحانةُ العيش بِه فَمنِ الراعي نباتًا صوّحا؟
أنكرتْ تبديل أحوالي، ومَنْ صحب الدنيا على ما اقترحا؟
شدَّ ما منَّى غُرورًا نفْسَهُ تاجرُ الآدابِ في أن يَرْبحا
أبدًا تبصرُ حظًّا ناقصًا حيثما تُبصرُ فضلاً رَجحا
والمنى والظنُّ بابٌ أبدًا تغلقُ الأيدي إذا ما فُتحا
قد خبرْتُ الناس خُبْري شِيمي بُخلاء، وتَسمّوْا سُمَحا
وتولهّتُ على أخلاقهم داخلاً بين عصاها والِّلحا
وبعثت الماء من صُمِّ الصَّفا قبل أن أبعث ظنًّا مُنْجحا
يشتهون المالَ أنْ يبقى لهم فلماذا يشتهون المِدَحا؟


-------------------------------------
(1) حجْرة: ناحية. (2) الجدّ: الحظ.
(3) غلّ: قيد. جداه: عطاؤه وكرمه.
(4) أغسقْتَ: اشتدت ظلمتك.
(5) النقى ووادي الغضا والأبطح وكاظمة أسماء أماكن في شبه الجزيرة العربية (في صحراء نجد).
(6) البرحـــا: البرحاء: شدة المشقة والمعاناة.

-----------------------------------

ألا، يا عبادَ الله، قوموا لتسمعوا خصومة َ معشوقينِ يختصمانِ
وفي كل عامٍ يستجدانِ، مرةً، عتاباً وهجراً، ثمّ يصطلحانِ
يعيشانِ في الدّنْيا غَريبَينِ، أينما أقاما، وفي الأعوامِ يلتقيانِ


جميل بثينة

 

 

فاروق شوشة