المستقبل والعروبة والأنسنة

المستقبل والعروبة والأنسنة

لم تكن فكرة القومية العربية بدعًا، وإن كان الذين انتقلوا بها من فكرة إلى عقيدة قد أحالوا على تجارب وحدوية (ألمانيا وإيطاليا) تحققت على أساس الارتقاء بالفكرة إلى عقيدة (الدولة الأمة) كما في الرؤية الألمانية إلى كلام حول الذاكرة والأحلام المشتركة في لغة فرنسا القومية ملخصة بأن القومية هي وعي الأمة لذاتها، فإن ذلك لا يعني أن القومية العربية (الفكرة) كوعي بمكون أساس من مكونات الذات والهوية المركبة في الوطن العربي، قد أتت من مكان آخر غير الثقافة والذاكرة والحلم العربي.

أما احترام الوعي بها إلى حد الطموح بتحويلها إلى عقيدة، فقد حصل على مفصل صعب، هو مفصل سقوط الجامع الإسلامي العثماني، بعدما كان هذا الجامع قد شرع بالكف عن الجمع، من خلال بعث الفكرة الطورانية، التي كانت «جمعية الاتحاد والترقي»، بعد «تركيا الفتاة»، آخر تجلياتها الجارفة، في حين كان الغرب متربصًا فضرب ضربته.

من هنا كان لبعض المؤسسين في العقيدة القومية، أن يتعدوا في أطروحة التأسيس إشكالية التتريك واختزال الأطراف العثمانية، والعربية منها خاصة، في المركز التركي، لتبدو وكأنها إشكالية مع الإسلام عقيدة وشريعة، باعتبار أن الإسلام هو النصاب النظري والعقدي للسلطنة العثمانية، وإن كان البعض قد حاول لاحقًا، في الأربعينيات، تلطيف هذه المسألة برؤية يمكن تلخيصها بإمكان استيعاب الإسلام كمكوّن وتجاوزه على مقتضى المعاصرة والحداثة (البعث وشعار الرسالة الخالدة المراوغ).

غير أن الوعي القومي العقائدي لم يفلح تمامًا في إنتاج فكره المميز، وظلّت العقيدة القومية قائمة على جملة من المشاعر والشعارات، ما جعلها في لحظة استكمال تعبئتها السياسية من أجل التحرير والتحرر والوحدة، مضطرة إلى الدخول في مسار إحيائي لم تجد غير الإسلام مضمونًا له. ومن عاند الدخول في هذا المسار وجد نفسه في أحضان العقيدة الماركسية، مضطرًا إلى التوفيق الصعب أو المستحيل بين الأممية والقومية (جناح صلاح جيد في حزب البعث وحركة القوميين العرب، منتهية إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية على تناقضات حادة، إضافة إلى منظمة العمل الشيوعي اللبنانية). أما الذين دخلوا في المسار الإحيائي (حركة فتح إلى حد ما والتيار الناصري) فإن أكثرهم لم يجدوا ضيرًا في إقامة اقتناعهم القومي على أساس المعادلة التبادلية بين الإسلام والعروبة، ما ملخصه أن الإسلام بمعناه الثقافي الذي يتسع للثقافة البينية المتكونة خلال تاريخ طويل بين الإسلام والمسيحية المشرقية، هو المضمون الطبيعي لأي نهوض قومي، وأن العروبة هي وظيفة حضارية، ليست إسلامية حصرًا، ولكنها وظيفة إسلامية أولاً، وهنا أمكن للمسيحي العربي أن يجد مكانه، غير مضطر إلى التنصل من مكوناته وتراثه وخصوصياته.

إذن، لم تكن الأزمة هنا، أي في العلاقة الإشكالية والجدلية في الوقت نفسه، بين الإسلام والقومية العربية، في حين أن العروبة كفكرة، لم تصل إلى أي مستوى إشكالي في وعي المسلمين لإسلامهم ولهويتهم المركبة من عناصر مختلفة، يبرز بعضها في لحظة معينة أكثر من غيره من دون أن يلغي غيره، لتعود لحظة أخرى فتستدعي بروز عنصر آخر على بقية العناصر، وهكذا دواليك من العروبة مرة إلى السلام مرة ثانية، إلى البعد الوطني (القطري) مرة أخرى..إلخ، وظلت الهوية المركبة مفتوحة على التطور حتى استطاعت أن تفسح في إطارها مكانًا للقطرية، شاب تأسيس الدول على مقتضاها بعد الحرب الكونية الأولى، كثير من الاصطناع، ولكنه لم يمنع الكيانات من الرسوخ على جدل حارّ بين القطرية أو الوطنية. لم يلبث أن انتهى إلى التوفيق بين الأمرين نظريًا، في حين أن الواقع العملي، أي مسلك الدول القطرية تحت الشعار القومي، كان باستمرار ترجيحًا للقطري على القومي، أو توظيفًا للقومي في القطري، بحيث أنه عندما كان يحصل التعارض، كان القطري يلغي القومي (العراق وسورية ومصر وليبيا)، في لحظات الوحدة وعقود الفصال، ومعروف أن قيادة البعث في سورية، قد شاركت للتمهيد للانفصال ووقعّت وثيقة إعدام الوحدة بين مصر وسورية (صلاح الدين البيطار) ودخلت في وزارة الانفصال الأولى (د.عبدالله عبدالدايم).

لعل التجربة اللبنانية بعد الطائف ومن خلاله، تؤشر إلى مسلك أشد واقعية من كل المسالك القطرية الأخرى، فقد نصّ الدستور اللبناني على عروبة لبنان وعلى أنه وطن نهائي لأهله وعلى العيش المشترك ضمانة للأمرين، مغطيًا بذلك مستوى من الوعي المتحرك في لبنان، أدى بالمسلمين إلى الكفّ عن الاستقالة من الهمّ الوطني (القطري) لمصلحة القومي، وأدى بالمسيحيين إلى تظهير الوعي بالانتماء العربي لمصلحة الوطنية اللبنانية. هنا لا يعود مبررًا أن نلتمس أسباب القصور في إنجاز الدولة القطرية في النزوع القمي، ولا أن نلتمس أسباب العجز عن تحقيق الأهداف القومية في الانتماء الوطني (القطري). وإن كان التداخل غير المنهجي بين مقتضيات تجديد إنجاز الكيان اللبناني على مقتضى الطائف، وبين الوصاية القطرية السورية تحت شعارات قومية، قد أعاد لبنان إلى ما قبل الطائف وقبل الدولة وقبل المجتمع، فإنه أكد أن استمرار هذا الكيان قد وجد وصفته في اتفاق الطائف، ولكن شرط التحقيق والنهوض والتماسك والوفاق وإعادة بناء الدولة واستعادة المجتمع لحوار مكوناته، كلها مرهونة بتحقيق تقدم سوري على طريق دولة تعددية ديمقراطية حديثة تتعامل مع أشقائها على أنهم أنداد لا أتباع ولا أعداء.

ومزيد من الإلحاح على المنهجية يمكننا من الاقتراب من اكتشاف التشارط بين القومي والقطري، مما يعني أن القطري شرط القومي قبل - أو كما - أن القومي شرط القطري، ولو كنا فعلنا ذلك مبكرًا على مجموعة من شواهد الفشل، وانتهى مع كارثة العراق بالتحرير الأجنبي من الاحتلال الوطني بذريعة قومية وحصار ما تبقى من فلسطين والفلسطينيين، وإقامة الوحدة اليمنية بالقوة على موجب المركزية (الشمال)، انتهى إلى نعي قاس للقومية العربية من جهة، ومكابرة من لا يرون أزمتها من جهة أخرى، مع عدم استعدادهم لممارسة أي نقد، ومع التماهي تمامًا مع النظام العراقي، متناسين الخسائر المتراكمة من نكبة فلسطين إلى نكستها، ومن الوحدة إلى التوبة عنها، ومن التخلف والحروب الداخلية والتبعية إلى آخر ما تراكم في عهد الحيوية القومية! من خسائر وتراجعات وانكشافات جعلت الحد الأدنى من التضامن العربي مطلبًا مثاليًا وبعيد المنال جدًا، وقدمت ذرائع لإسلام سياسي يراوح في أطروحاته بين دفن المستقبل في الماضي أو تحويل المعاصرة إلى قشرة وتحويل الأصالة إلى رجعة.

من أجل قومية عربية حديثة

هل نستطيع الآن، وفي هذه الفترة الحرجة، أن نستوي على حال مع المسألة القومية العربية تجنبنا منزلقات خطيرة تنتظرنا؟ هذا أمر تحف به جملة شروط منها:

- أنسنة القومية العربية، أي عدم تحويلها ثانية أو إبقائها عصبية أو عصابًا عرقيا قاتلاً ومقتولاً في النهاية، وهنا يصبح الأكراد والتركمان والآشوريون والكلدان والأمازيغ والدنيكا والبوير وزنوج موريتانيا وأمثالهم، معنى إنسانيًا متممًا لمعنى العروبة والقومية العربية، ومن دونهم يبقى هذا المعنى ناقصًا ومشوهًا وملغومًا بالعداوات البدائية (الهوتو والتوتسي) وما الفرق؟ وهم من أصل عرقي واحد ومذهب ديني واحد! (أليس لافتًا أنه بعد عمر طويل من التجربة مع الحداثة والقومية والوطنية تبين أن بنيتنا الأساس لاتزال قارة في أساسها على البيولوجي بعيدًا عن المتغير الثقافي والمعرفي. كما ظهر من ظهور القبلية في كل مكان.. حتى في تونس الأكثر تنويرًا!!).

- تحديث القومية، أي شقّ طريق العرب وتعبيدها، أو الطرق العربية، إلى الحداثة والمعاصرة، أي تحويل القبائل والطوائف والأحزاب إلى شعوب، حتى لا تبقى القبيلة ملجأ أخيرًا للحركة القومية بسبب فشلها وقصورها وتقصيرها، تقطع الطريق على المعاصرة والتقدم، كما سبق لها أن استدعت قيمها السالبة من الجاهلية، دون الإيجابية، لتقطع على الإسلام وشرعه المفتوح على التطوير والتطور، طريقه إلى اكتمال مشروعه الحضاري الإنساني القائم على الحقوق الإنسانية، حقوق الفرد والجماعة، وعلى الحرية وعلى فقه المقاصد الخاضع لتبدلات تأتي من تبدّل الأحوال والأفهام.

- إقامة الحال، دولة ومجتمعًا، على الحرية والديمقطراية، أي من دون اختزال أو تنميط للشعوب وتعدديتها في الحكام والأحزاب، وإدارتها بالعصبيات المتأججة واستدعاء الأمثلة الأكثر مركزية واستبدادًا وشمولية في تجارب الأمم (التجربة النازية والفاشية) وإهمال مسألة الديمقراطية ودورها في تحقيق الوحدة الألمانية والإيطالية.

- الكفّ عن إقامة العلاقة مع المختلف في الداخل والخارج، في القطر والأمة، على التقابل الحاد والإلغائي، فالغرب غرب والشرق شرق حقًا وصدقًا، ولكن المشتركات بين الشرق والغرب آخذة في التوسع. أما الاستنكاف عن التواصل فإنه لا يثمر إلا مزيدًا من الفصال والتدابر بين العرب وغيرهم وبين العرب أنفسهم كما هو مشهود.

- الكفّ عن اعتبار الأقطار العربية والدول الوطنية العربية والوعي الاجتماعي الوطني (القطري) خللاً أو عيبًا قوميًا، ما أدى إلى وضع المواطن العربي في أي قطر، بين خيارين، خيار الوعي بأمر غائم غامض إشكالي غير متحقق ومحفوف تحقيقه بالمصاعب والعوائق (الدولة القومية) وخيار الوعي بما هو متحقق وشاخص وملموس من دولة قطرية واجتماع وطني قطري. وكأن الخيارين متناقضان، في حين أن الجمع بينهما ممكن دائمًا، خاصة إذا ما عدنا إلى إيماننا الذي أنجز لنا خصائصنا الحضارية، بأن المركب أقوى وأجمل من البسيط، وأن تعدد البعد في الكائن أو في الوعي بالكون والكائن أغنى من الأحادية العاطلة والباطلة.

- التدقيق في ما إذا كانت الأمة العربية كمفهوم ومصداق قد تشكّلت فعلاً، وما إذا كان هذا التشكل المفترض قادرًا على الحفاظ على نصابه المفهومي وحركته على أرض الواقع، في خضم التبدلات في فضاء المعرفة وحركة الاجتماع البشري. مما قد يعني أننا قد نكون معنيين باختيار حالاتنا الوطنية القطرية للكشف عن واقعة لا يجوز أن تكون فاجعة أو مدهشة إلا للسذج والغافلين أو المتغافلين، ألا وهي أن المتحقق فعلاً هو تشكّل الأمة بالمعنى القطري، أي تشكّل الأمم التي نسميها شعوبًا، ولكنها شعوب انتهت إلى أن تكون أممًا بعيدًا عن ظروف تفسر نشأتها ولا تفسر تطورها. إن هذا الاقتناع الذي انتشر وترسخ في الوعي الأوربي، هو الذي أنتج أكثر صيغ الوحدة العصرية المؤهلة للاستمرار والرسوخ وتحقيق التضامن والتقدم، أعني الاتحاد الأوربي الذي على طريق السعي إلى تحقيقه وبلورته وإقامته على الممكن تبلورت رؤية أوربية مشتركة (لا تنفي الخلاف) للعصر وأهله وظواهره، على مقتضى العولمة والتعدد والحرية والاختيار والديمقراطية والحوار والقانون والاختلاف التكاملي والخروج المتعمد الواعي من تاريخ الحروب إلى تاريخ الحوار الحقيقي داخل الحضارة الواحدة وبينها وبين الحضارات الأخرى. أي إعادة إنتاج الحداثة طبقًا لمؤشرات التطور العلمي والاجتماعي معًا، ولو بقيت فكرة الأمة - الدولة مسيطرة على العقل الأوربي لكانت أوربا عرضة لحروب دورية بين أقطارها. ولما كان تقدمها العلمي قد بلغ حد إنذارها بضرورة أن تلتئم قبل أن يتحول الفارق بينها وبين الولايات المتحدة فارقًا نوعيًا يستحيل تجاوزه. وفي تقديري أنه إذا ما اتفقنا على العروبة مكونًا رحبًا جامعًا، لا يلغي الآخر، ولا يختزل المتعدد، فإنها تصبح معنى أو واقعة مرفودة ورافدة للوطنية بتجليها الكياني المتعدد المستقطب بالتواصل، محفوظة - أي العروبة - بالإيمان والتوحيد الذي له علامته المميزة في حالنا المشرقية، وهي تكافؤ الإسلام والمسيحية في منبعها ومقاصدهما الإنسانية، مما جعلهما فضاء فسيحًا للوصلة الحية بين التعدد والوحدة. وعندما كاشفنا العقل الأمريكي العصابي الجيد باعتبار ثقافتنا هي المسئولة عن إسقاط برجي مانهاتن، فإنه لا يمكن أن يكون قد غفل أو تغافل عن هذا الفضاء الثقافي المركب، وهو إن سمّاه إسلاميًا، سرًا أو علنا، فإنما يريد أن يموّه أو يعبئ مسيحيًا. وإن كان الموقف المسيحي قد بلغ من السطوع البابوي درجة تستحق أن تعتبر محطة تاريخية نوعية تستدعي أن نرتقي إلى مصافها.

قومية لا أصولية

قد نكون مدعومين الآن أكثر من أي وقت مضى لأن نستحضر العروبة في وعينا مبرّأة من العصاب القومي أو القوموي، أي عدم تحويلها مرة ثانية إلى عقيدة فصل ومفاصلة مع الآخر والذات معًا. مما يضعها مع الإسلام الأصولي، أي مباينها المفترض، في صعيد واحد، هو صعيد إقامة الحضارة، أي اللاحضارة في المحصلة، على العقائد.. وعصرنا لم يعد عصرًا عقائديًا، حتى بالنسبة إلى الإسلام.. ونحن أمام تحد حضاري يدعونا إلى الدخول مؤهلين إلى السياق الحضاري الكوني. هل يمكن أن نستنبط من هذا الكلام بشارة لأحد بالمستقبل؟ أكثر المعنيين بهذه المسألة هم الإسلاميون أو الإسلامويون، ولا أعتقد أنهم مبشرون بمستقبل زاهر، إلا إذا كانت السلبية القومية، أو الأزمة القومية، كافية لأن تكون زادهم إلى الحضور الإشكالي المعقد والمثير والمخيف! والخوف عليهم وعلينا وعلى الإسلام منهم، وأعتقد أن الذي يعتبر نفسه مؤهلاً للنجاح لأن الآخر فشل، يبسط الأمور كثيرًا ويتورط، ويورط، في إعادة إنتاج الأزمة بشكل أسوأ.

كل ما يمكن أن يثمره الاندفاع الإسلامي المشبوب والمسكون بكومة من العصبيات أو العصابيات الطائفية والمذهبية والفئوية داخل المذهب الواحد، بعيدًا عن الاجتهاد كناظم منهجي للمعرفة والعمل، وعلى أساس المزاج الذي يلتبس بالأيديولوجيا في جانبها السلبي، كل ما يمكن أن يثمره الاندفاع الإسلامي المشبوب والمسكون بكومة من العصبيات أو العصابيات الطائفية والمذهبية والفئوية داخل المذهب الواحد، بعيدًا عن الاجتهاد كناظم منهجي للمعرفة والعمل، وعلى أساس المزاج الذي يلتبس بالأيديولوجيا في جانبها السلبي، كل ما يمكن أن يثمره ذلك، هو إحياء العقيدة القومية على احتمالين، احتمال عصبي عنصري ديماغوجي عدواني ضد الآخر، عدواني في الداخل في المحصلة، وتمهيدًا لكارثة أعظم، واحتمال حضاري يعاد النظر فيه بالمسلمات وغير المسلمات، لتصبح القومية أطروحة تجمع منهجيًا لا تلفيقًا بين المنجز والمطلوب إنجازه، بين الذاكرة والحلم، بين الواقع والمرتجى، بين الذات والآخر.. أعني طريقًا عربيًا نحو التحديث لا تقطع مع جذورها، وتذهب إلى مضمون حداثي حقيقي غير شكلاني، يراعي الخصوصيات ولا يتميع أمام أمثلة تحتاج إلى تبصّر وتدقيق ونقد. إلى وصل وقطع وقبول ورفض معًا.

خصوصية مشرقية

إن منطقتنا العربية تتميز بخصوصية مشرقية أصلية، هي كون هذه المنطقة موئلاً للتعدد والتنوع والاختلاف، أكان ذلك دينيًا أم مذهبيًا أم إثنيًا. يضاف إليه التجاور بين التقليد والحداثة، وتداخل المدني بغير المدني، إلى ما هنالك من مسميات الفروق. وهذا أمر حسن في الأصل، لأنه تعبير عن غنى الحياة ومطابق لسنّة الخلق.

ولكن هل قدر هذا الواقع أن يظلّ محكومًا بفكرة التنازع وأدوار الغلبة؟ أم عليه أن يكدح في سبيل معادلة «العيش معًا متساوين ومختلفين» وعلى أساس نصاب المواطنة الجامع، حيث تصبح مصالحة المساواة والاختلاف كناية عن مصالحة العدل والحرية؟ وتستقر رؤية التعدد على المعرفة المعمقة والرعاية لكل مكونات الاجتماع العربي، وتنهض على واقعية واعتدال متخففة من شطحات الأيديولوجيا وإكراهاتها المعلومة، وهذا الأمر ضروري لئلا تنزلق كل من إشكاليات المكونات المختلفة للاجتماع العربي (دينيًا أو إثنيًا) إلى أحضان أحد مشروعين يترصدان المنطقة العربية والآن خصوصًا، هما «الشرق الأوسط الإسلامي» و«الشرق الأوسط الأمريكي» متجاهلين أن هذا الشرق الذي يقترعان على لونه، إنما هو عربي في عنوانه الأول.

ويبقى الاعتدال هو الحل لأسباب وعوارض الفشل والقلق والإحباط الذي ترصد الأطروحة القومية أو العربية في مسيرتها المعاصرة، والاعتدال ليس مجرد مزاج أو موقف لحظة، بل هو رؤية متكاملة ينبغي ترجمتها في مشروع كي تبلغ مقاصدها، وهو مشروع له مرتكزاته المعتبرة في المدى العربي، الرسمي الدولي، والمجتمعي الشعبي، والطلائعي المثقف، كما له في النسيج العربي العام حاملات إسلامية ومسيحية، سنية وشيعية وغيرهما، تقليدية وحداثية، علمانية ودينية. هذا لا يعني الدعوة إلى اطمئنان غير مشروط، إذ للتطرف أيضًا مرتكزاته الثابتة وأدواته المتمرسة في أساليب التأثير والتجنيد. وعليه فإن تعزيز الوسطية والاعتدال يتطلب حركة متكاملة في مستويات ثلاثة هي الدولة الراعية، والمجتمع المعتصم بقيمه ومصالحه المشتركة، والنخب المتقدمة في مختلف حقول المعرفة والإنتاج، ما من شأنه أن يؤمن التراكم والفاعلية، بدلاً من أن يبقى الاعتدال مزاجًا لأفراد أو جماعات مشتتة تنتظر من يستقطبها أو يجذبها إلى موقع متطرف بسبب شعورها بالضعف أو كسلها أو عدم قدرتها على التكامل العضوي فيما بينها، ما يجعلها عرضة لإملاءات القطيع الطائفي أو المذهبي أو العنصري، على أنها إذا اجتمعت وفعلت فلابد أن تتفادى الوقوع في النزعة الحزبية أو الاختزالية أو الإلغائية.

لقد تبين أن الأزمة الثقافية تقع في صلب التأزم العربي الراهن وتتربص بالربيع العربي الجاري، وتمثل في الوقت نفسه آلية متعاظمة الدور في إنتاج المشكلات وإعادة إنتاجها، ولقد أحسن إعلان الرياض في ختام إحدى القمم العربية في الأعوام الأولى من القرن الحالي، في دعوته الحارة إلى عناية استثنائية بالمسألة الثقافية، التربوية في البلدان العربية، كمدخل أساس لتوفير الأهلية والمناعة العربية في مواجهة تحديات غير مسبوقة.

إن الوسطية والاعتدال والنسبية والحوار والتبادل والاحتفاء بالتنوع، والشراكة النبيلة مع الآخر المختلف، قيم تشكّل «ثقافة حياة» لا بل شرط الحياة، وفقًا لقانون الخلق الذي دعانا لما يحيينا كما في النص القرأني العظيم، أما التطرف والغلو واحتكار الحق والحقيقة ومركزية الذات والقطيعة والنبذ والتكفير والاحتراب، وإعلاء الذات على أساس دونية الآخر، أو المختلف، فتلك مسالك خراب، وثقافة عبث، لا يجوز أن تزينها أقنعة ومسميات شتى، ولا يجوز أن تكون العروبة قناعًا لما يتناقض مع تراثها ومحمولاتها ووظيفتها الحضارية.

أما حصر وعي العروبة في ضرورة الدولة الأمة على تعقيداتها وعلى شك منا في واقعيته وفي نوايا مَن تصدّوا لها، فإنه لا يجوز أن يعمي بصائرنا عن المتحقق والمتجدد بآلياته الداخلية، من وحدة الاجتماع العربي، بمعنى وعيه والتزامه بالمشترك في الذاكرة والحلم والأفكار والقيم والمصالح، ومن حقيقة ورسوخ الكيانات الوطنية العربية، والتي يمكن أن تكون صيغة كصيغة الاتحاد الأوربي ضمانة لتضامنها وتكاملها وحرية اختيارها.
--------------------------------
* مفكر وباحث من لبنان.

--------------------------------------------

قد كان بوسعي
أن أتجنّب أسئلة التّاريخ
وأهرب من تعذيب الذّات
قد كان بوسعي
أن أتجنّب آهة كلّ المحزونين
وصرخة كلّ المسحوقين
وثورة آلاف الأمواتْ..
لكنّي خنتُ قوانين الأنثى
واخترتُ.. مواجهةَ الكلماتْ

سعاد الصباح

 

هاني فحص