أهل الشورى وأهل الاجتهاد في الدولة الإسلامية

أهل الشورى وأهل الاجتهاد في الدولة الإسلامية

تهدف الشورى إلى ترشيد القرار العام, وتعويد الأمة تحمل وممارسة المسئولية, والإسلام أساساً دين الجماعة والجماعية خصيصة متميزة فيه, والجماعية نزعته وروحه, مصداق ذلك ما نراه في المجالات المختلفة وبخاصة في العبادات من أفضلية صلاة الجماعة على الفرد, وصلاة الجمعة والعيدين, والاجتماع العام في الحج.. إلخ.

وقد قال الله تعالى في سورة "آل عمران 159" سورة آل عمران آية 159وشاورهم في الأمر وفي "سورة الشورى 38" سورة الشورى آية 38وأمرهم شورى بينهمفمن هم أهل الشورى؟

في رأينا أن أهل الشورى بالمعني العام هم جمهور الأمة رجالاً ونساء, فالخطاب القرآني عام والضمير في الآيتين للجمع, يؤكده أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشاور جمهور الصحابة في غزواته واستشاراته العامة ولم يخصها بطائفة معينة, وكان صلى الله عليه وسلم يقول: أشيروا علي أيها الناس وفي الناس المتعلم وغير المتعلم, وكذلك فإن جمهور الصحابة كانوا يشتركون في اختيار الخلفاء الراشدين عن طريق البيعة العامة, ويشاركون بآرائهم واقتراحاتهم في السياسات العامة للمجتمع فضلاً عن أن التكاليف الشرعية مفروضة على الأمة مجتمعة أساساً, والأمة مجتمعة مسئولة عن إقامة الحكم الإسلامي وعن اختيار الخليفة. وهذه مقدمة ضرورية لفهم طبيعة الحكم الإسلامي, وأنها ليست فئوية أو طبقية أو طائفية وليست ما يسمى بـ"حكم النخبة أو الصفوة" فالحكم مسئولية الأمة ـ أساساً ـ تختار من بينها جماعة أهل الحل والعقد "أهل الشورى بالمعني الاصطلاحي السياسي الخاص" تقوم بالنيابة عنها, وبإشرافها بالممارسة السياسية للشئون العامة, فالحكم الإسلامي مسئولية مشتركة بين الصفوة وجمهور الأمة, هذا الجمهور المتفاعل الواعي الذي تعنيه شئون الحكم. وتوضيح هذا الأمر ضروري أيضاً لمعرفة أن دعوى الحكم الإسلامي للصفوة, أدت إلى عزلة الصفوة وانغلاقها وانفصالها عن جمهور الأمة, وهو أحد أسباب التخلف الرئيسية, فالصفوة التي لا جذور لها صفوة ضعيفة غير فاعلة. وإننا اذا تأملنا ما كان يحصل في عهد الخلافة الراشدة من مشاركة كبار الصحابة للحاكم في الشئون العامة, وكذلك مشاركة الأفراد في إبداء الرأي والاعتراض والتقويم لاتضح لنا أن الحكم الإسلامي من مسئولية الأمة العامة, ولكن ماذا بعد الراشدين؟

في الحقيقة لم نجد أي دور أو أثر لما يسمى بأهل الحل والعقد في الحياة السياسية بعد الراشدين, وأول من كتب في شئون الحكم والسلطة الامام الماوردي "ت 450 هـ" وجدناه يذكر أهل الحل والعقد ويشترط فيهم شروطاً معينة ويحدد لهم دوراً هامشياً هو دور اختيار الخليفة لاغير, ولكن كيف يختارون؟ وكيف يظهرون؟ وهل يشاركون الخليفة في الشورى في الشئون العامة؟ وكيف يعزلون الحاكم إذا انحرف؟ لا شيء من ذلك واضح عنده. ولكن يجب أن يُذكر للماوردي أنه بحسه السياسي أدرك بوضوح طبيعة عمل الفقيه وطبيعة عمل السياسي, فنحن نعرف أن في تراثنا الفقهي طائفة تسمى "أهل الاجتهاد" وهم من بلغوا درجة عالية في العلم تمكنهم من استنباط الأحكام الشرعية, ولكن هل "أهل الاجتهاد" هم "أهل الحل والعقد"؟ هنا يأتي الماوردي ليميز لأول مرة بين الطائفتين فأهـل الحـل والعقد لا يشترط فيهم القدرة على استنباط الاحكام, وتكفي الخبرة السياسية والاخلاق الفاضلة, وهذا ما نفهمه من شروطه الثلاثة "العدالة, العلم بأمور الأمامة, الرأي والحكمة لاختيار الأصلح" ولكن لماذا يلجأ الماوردي لهذا التمييز؟ الحقيقة أن شروط الماوردي تنظير طبيعي لواقع العصر المعيش, فالفقهاء أُبعدوا عن الشئون السياسية فانصرفوا إلى البحث والتدريس وطلب العلم.. والسياسة ممارسة مستمرة وتفاعل مع الأحداث وشأن من انصرف إلى عمله وبحثه أن تضعف خبرته السياسية في شئون الحكم ولا تغني الخبرة النظرية هنا. لذلك كانت شروط الماوردي شروطاً سياسية وأخلاقية لاغير.. وليس معنى ذلك أن الفقيه لا يدخل في مسمى "أهل الحل والعقد" ولكن المقصود أن أهل الحل والعقد ليسوا خصوص الفقهاء أهل الاجتهاد, فإنه من الممكن أن يشملهم ويشمل غيرهم, وليس بالضرورة كل الفقهاء صالحين لهذا الأمر إلا من كانت عنده الخبرة السياسية المطلوبة وهنا نتساءل: من هم أهل الحل والعقد في العصر الحاضر؟

أصول التشريع

وللإجابة, يحسن معرفة عمل المجالس النيابية في العصر الحديث فالمعروف أن هذه المجالس إنما تقوم بالوظيفة التشريعية والرقابة السياسية عن طريق السؤال والتحقيق والاستجواب, وبالرقابة المالية عن طريق مناقشة واقرار الميزانية العامة, وربما يقول البعض ان المشرع هو الله, وهو كلمة حق, ولكن ماذا يقصد بها؟ فالمشرع هو الله بمعنى أنه هو الذي أنزل أصول التشريع, وهذا لا يمنع أننا نحن البشر نفهم هذا التشريع ونمارسه ونطبقه. وربما قال البعض إن التشريع للفقهاء أهل الاجتهاد, وهذا غفلة عن طبيعة عمل التشريع في المجالس النيابية, أدى إليها مفهوم التشريع عند البعض وأنه استنباط الأحكام الشرعية, وهذا كله في الحقيقة ليس هو المقصود من العمل التشريعي في المجالس البرلمانية.

فالعمل التشريعي في هذه المجالس إنما يتعلق بالجانب السياسي أساساً وهو ما يسمى بسياسة اللوائح والقرارات والأنظمة المتعلقة بالمجالات المختلفة للمجتمع من التعليم والإسكان والصحة والمرور.. إلخ.. إن عمل المجالس النيابية له طبيعة إجرائية لائحية تتعلق بالمواءمات وبالسياسات التي تتناسب المجتمع أكثر منها أن يكون متعلقاً بالجانب التشريعي الفقهي أو القانوني أو الفني, فهذا الجانب يشرف عليه ويضعه أهل الاختصاص من الخبراء أهل الفقه والقانون.

ولو راجعنا حصيلة المناقشات التي دارت في مؤسسات الشورى بالعالم كله لوجدناها تتصل بالشئون المدنية, وربط الموازنة العامة, واحكام هيمنة الأمة على شئون الحرب والسلم, وعندما نتحدث عن الشورى فإنما نعني جميع الشئون الدنيوية والحضارية العادية ثم جميع الوسائل التي تتم بها الواجبات الدينية والأهداف الشرعية, فإذن عمل الفقهاء غير عمل السياسيين وان كان لابد من اتصال بينهما, وطبيعة عمل المجالس النيابية غير طبيعة عمل المجالس الفنية وان كان هذا لا ينفي الصلة بينهما بأي حال.

ويوضح الدكتور محمد فتحي عثمان, دور كل من أهل الحل والعقد ودور العلماء أهل الاجتهاد في الدولة الإسلامية بقوله:"اعتقد أن الوظيفة التشريعية أشمل وأوسع من أن تقصر على الجانب الشرعي أو القانوني "الفني" فإن لهذه الوظيفة طابعها السياسي الذي يحتاج لكفاية أهل الحل والعقد السياسية وخبراتهم الاجتماعية العملية".

ويضيف مبيناً طبيعة عمل المجلس التشريعي:"ذلك أن كثيراً من الأنظمة واللوائح والقرارات فيما ليس فيه نص شرعي قد يكون مبنياً على تحقيق المصلحة وسد الذريعة, شأن الكثير من الاجتهادات المبكرة في عهود الصحابة والتابعين وتابعيهم, وما إلى ذلك من مجالات الاجتهاد التي لا يقصر الرأي فيها على الفقهاء المجتهدين, وإنما يطلب الرأي من كل صاحب رأي ومن كل منتفع بهذه الأنظمة والقرارات ومستفيد منها أو من ممثلي المنتفعين والمستفيدين وهم جمهور الأمة".

أهل الحل والعقد

ولكن ما شروطهم؟

يوضح الدكتور محمد فتحي عثمان أن المطلوب في أهل الحل والعقد الثقل السياسي والاجتماعي وهو غير العلم والاجتهاد, وان السياسة علم وفن وقد يكون جانب الفن فيها أوفر, ولا تكفي في ذلك درجة الاجتهاد ولا معرفة الواقع الذي تطبق عليه الأحكام, وقد يكون الواحد من هؤلاء الذي توفروا على العلم وتفرغوا لطلبه وأفنوا فيه أعمارهم بعيداً عن الالتصاق بالواقع السياسي والاجتماعي وإن تحقق هذا لبعضهم كان ذلك استثناء. ويشير العلامة ابن خلدون "المتوفى 808 هـ" إلى ذلك في قوله "إن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها". وأشار العلامة القرافي "ت 684" إلى هذه الحقيقة حين ذكر أن أعلم العلماء قد لا يكون بالضرورة أقضى القضاة.

ونحن إذا استعرضنا استشارات الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده فإننا نجد أن معظم تلك الاستشارات كانت أقرب إلى القرارات السياسية والتنظيمية منها إلى الاجتهادات التشريعية الفنية, وهي أولى أن تكون من ضمن عمل أهل الحل والعقد من أن تعتبر من عمل العلماء المجتهدين, وأمثلة ذلك استشارات الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر وفي الحديبية وفي المصالحة على ثلث ثمار المدينة يوم الخندق وفي أُحد وفي هوازن واستشارة عمر رضي الله عنه في قسمة أرض السواد وفي تدوين الدواوين.. إلخ.

ونخلص من كل هذا إلى أن أهل الحل والعقد "أي أهل الشورى" هم أعضاء المجالس النيابية في العصر الحديث, وإن كان لا يقتصر عليهم وحدهم, حيث إن مصطلح "أهل الحل والعقد" يشمل جميع من توافرت فيهم خبرات سياسية واجتماعية عن طريق مشاركتهم واحتكاكهم المستمر بمشاكل الناس وتفاعلهم مع قضاياهم فأصبح لهم وزن سياسي واجتماعي معين, وأما عن ظروفهم فهي:

1ـ الأخلاق الدينية الفاضلة.

2ـ خبرة سياسية واجتماعية.

3ـ إلمام بالمبادئ العامة للشريعة.

وهي نفس شروط الماوردي في أهل الاختيار.

ولكن ما دور أهل الاجتهاد في الدولة الإسلامية؟

نرجع إلى الدكتور محمد فتحي عثمان لنستمع إليه قائلاً:

"لكن الدولة الإسلامية في أمس الحاجة للعلماء والمجتهدين, فهم هداتها ونبراسها وحراس الشريعة والشرعية, مهمتهم جليلة خطيرة في دولة تقوم على الإسلام وهؤلاء يكونون هيئة تختص بالرقابة الشرعية في الدولة الإسلامية وتكون أشبه بمجلس الدولة في فرنسا أوتقارب المحكمة العليا في الولايات المتحدة أو تجمع بين النظامين في صورة ما".

واختصاص هيئة المجتهدين هي:

1ـ مراجعة الأنظمة واللوائح والقرارات المهمة.

2ـ الفتيا في أي مسألة قد تثور عند تطبيق أحكام الشريعة.

3ـ القضاء الدستوري والإداري العالي.

4ـ النظر في المظالم والحكم في المنازعات بين الإمام وهيئة الوزراء وهيئة الشورى.

5ـ الإشراف على الانتخابات والاستفتاءات العامة.

6ـ المساعي الحميدة بين مختلف الأطراف السياسية عند النزاع. وتكون هذه الهيئة مستقلة ويجوز أن تكون تابعة لهيئة الشورى أو أهل الحل والعقد.

أهل الشورى

أما عن طريقة الوصول إلى أهل الشورى وهل تكون بالتعيين أو الانتخاب ففي عهد الصحابة كان الأسلوب المتبع هو الاختيار الطبيعي عن طريق التدرج الاجتماعي فالفرد كان يبرز بجهاده وعمله وعلمه وخبرته ووزنه الاجتماعي والسياسي, وكان ذلك أسلوباً مناسباً مع دولة جديدة قامت على دعوة جديدة حملها ونشرها هؤلاء, ولكن مع تكاثر الأفراد وتعقد أمور المجتمع لم يبق أمامنا إلا أسلوب التعيين أو الانتخاب, ولا يزال بيننا من ينادي بالتعيين نفورا مما يراه من مساوئ الانتخاب, والحقيقة أنه مهما كانت مساوئ الانتخاب فهي ترجح محاسن التعيين, وذلك للسببين الآتيين:

1ـ أن مجلس الشورى يفترض فيه أنه ممثل للأمة, الساهر على مصالحها, والقائم على رقابة السلطة والمال العام, وكيفية إنفاقه والمصحح لكل انحراف أو اعوجاج في السلطة أو الأجهزة الإدارية, فهل يستطيع المجلس المعين أن يقوم بهذا الدور بصورة فعالة. ان المجلس المعين يصبح جهازاً إدارياً كباقي اجهزة الدولة ولكن على مستوى عال. فهل يكون من المنطق, ومن حسن السياسية, أن نعتمد على مجلس هذا شأنه؟ إن في وقوف المجلس المعين موقفاً معارضاً ومحاسباً للسلطة التي أتت به ومهما كانت النيات حسنة, أمرا محرجا إلى حد كبير.

2ـ إن المجلس المعين لابد أن يجعل ولاءه لمن أتى به, فاذا أتت به السلطة فمن الطبيعي أن يراعي هذا الاعتبار ولكن إذا أتت به الأمة عن طريق الانتخاب فسيكون ولاؤه الأكبر للأمة.

إن مجلس الشورى لا يستطيع أن يؤدي دوره المطلوب في المراقبة والمحاسبة والمساءلة إلا إذا كان منتخباً انتخاباً حراً نزيهاً ومعبراً عن إرادة الأمة حقاً وواقعاً.

نظام الانتخابات

وإذا كان نظام الانتخاب العام لم يكن معروفاً في صدر الإسلام وما تلاه, فقد كان هناك نظام البيعة. والبيعة في جوهرها تعني إعلان الفرد المبايع موافقته ورضاه بشخص المبايع له مع التزامه الاخلاص والولاء, ونظام الانتخاب المعاصر يحقق هذا المقصود عن طريق "التصويت", وحيث إن أساليب التمثيل النيابي المعبر عن الإرادة العامة للأمة تتطور بحسب البيئات, وحيث إننا مأمورون بالشورى في معالجة الشئون العامة, ومأمورون أيضاً بالشورى في نفس الوسيلة المؤدية إلى تشكيل مجلس الشورى, فإنه لا مانع من الإفادة من تجارب الآخرين مادامت صالحة وتحقق الهدف المقصود من نظام التمثيل النيابي. ونحن لا نجد وسيلة عصرية مناسبة تحقق الاشتراطات السابقة مثل نظام الانتخاب العام, وإذا كان هذا النظام قد تعرض لنقد بسبب ما لابس تطبيقه من مساوئ, فإنه كأي نظام آخر لا يخلو من بعض السلبيات, والمهم في النهاية أن مزاياه أكثر على أنه يمكن ملافاة أوجه القصور عن طريق اشتراطات معينة, منها: تقييد الدعاية الانتخابية وتحديد النفقات المالية ومراعاة الآداب والقيم الإسلامية, وإحكام الرقابة القضائية على جميع المراحل الانتخابية وأخيرا العقاب على الأعمال المخلة والمنافية لنزاهة الانتخاب.

 

عبدالحميد الأنصاري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات