الوسواس القسري.. فكر وفعل
الوسواس القسري.. فكر وفعل
(يستنفد المصابون باضطراب الوسواس القسري الكثير من الوقت والجهد والطاقة, وتسكنهم هواجس مكربة وضيق, يشعرون أنهم مجبرون على العمل وفقا لها مرارا وتكرارا) بهذه الكلمات يبدأ الطبيب والمعالج النفسي رايموند باري ورفاقه بحثهما المنشور حديثا في مجلة تخصصية, موضحين مدى شيوع هذا الاضطراب, ومظاهره النفسية الإكلينيكية وعلاجه. فما هو اضطراب الوسواس القسري? وما هي عوامله ونسبة انتشاره? وما هو الجديد في معالجته? ينظر الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية, إلى اضطراب الوسواس القسري على أنه أحد أمراض القلق التي تدخل ضمن فئة واسعة, تشمل ـ من بين ما تشمله ـ المخاوف المرضية, والقلق العام, ونوبات الهلع, إضافة إلى اضطراب الشدة النفسية ما بعد الصدمة. الوسواس القسري Obession هو فكرة أو صورة تخيلية أو اندفاع غير سار تبدو غريبة ومتطفلة وغير منطقية, تسيطر على الفرد رغم شعوره بسخافتها ومحاولاته التخلص منها. أما الفعل الاستحواذي القهري Compulsion فهو تصرف وسلوك متكرر وغير منطقي يسيطر على الشخص رغم شعوره ـ أيضا بسخافته وغرابته وعدم منطقيته ومحاولاته المتكررة للتخلص منه دون جدوى. ويشير بعض العلماء إلى أن الخاصية الرئيسية للاضطراب بشكليه (الوسواس والفعل), هي الشعور الذي ينتاب المريض من أجل مقاومة الوسواس والفعل. ومن أمثلة الوسواس القسري سيطرة فكرة خوف الأم على طفلها في المدرسة, ومن أمثلة الفعل الاستحواذي تكرار غسل اليدين دوماً كلما لمس الشخص شيئاً ما لا يستدعي ذلك. إن نسبة 2,5% من السكان تنطبق عليهم معايير الدليل التشخيصي للاضطراب الوسواسي, وتتفاوت هذه النسبة ما بين 1 % إلى 4 % من المرضى النفسيين, وينتشر هذا الاضطراب الوسواس بنسب عالية ـ مقارنة بالاضطرابات النفسية الأخرى ـ في بلدان مثل هونغ كونغ والنرويج, والولايات المتحدة الأمريكية, كما يمكن أن ينتشر بين الأطفال الذين لم يبلغوا الثانية عشرة من العمر, كما بينت المقابلات الإكلينيكية في الولايات المتحدة الأمريكية. أما في بلداننا العربية فقد تبين أن الوسواس القسري يتعلق بموضوعات دينيــة ومعتقدات روحية بحيث يجعل تشخيصه أمراً صـعباً, وأن أكثر هذه الحالات المرضية انتشاراً وجـدت في مصر. أما الأسباب التي تجعل من إحصائه بشكل دقيق امراً صعباً, فهو عدم اعتراف المصابين به بحاجتهم إلى المساعدة النفسية, وإظهار أنفسهم على أنهم طبيعيون, وعدم دخولهم مراكز العلاج التي تجري إحصاءات دقيقة للقادمين إليها وطالبي العلاج, ثم إنه كثيراً ما يكون أحد أهم أعراض الاكتئاب, فتشخص الحالة على أنها اكتئاب وليس وسواساً قسرياً. ثم إن هناك صعوبة أخرى تتعلق بتشخيص الحالة, فيجب أن نعتمد مقياساً دقيقاً يبين لنا كم مرة يحدث هذا السلوك عند الشخص حتى تشخص الحالة على أنها اضطراب وأنها ليست سوية, خاصة وأن الحد الفاصل والمعيار المعتمد في التمييز بين الشاذ والسوي غير دقيق وهو أمر في غاية الصعوبة. أما عن المظاهر النفسية والسلوكية للاضطراب فهي متنوعة, أكثرها انتشاراً الخوف من التلوث بالأوساخ والجراثيم حيث يتجنب الشخص مسك مقابض الأبواب ومصافحة الأيدي وإمساك الأوراق النقدية فيفرط في الاغتسال مما يحدث له تهيجاً جلدياً. وهناك الشكوك الملحة والمخاوف غير المنطقية يشعر فيها المريض بأنه مهمل أو أنه يرتكب أخطاء حين قيامه بشعائر وطقوس معينة. أما الوسواس القسري فيتظاهر على شكل دوافع ونزعات عدوانية أو جنسية وما يستتبعها من شعور بالذنب, وغالبا ما يرافقه الاكتئاب فيميل المريض لفقدان الاهتمام والطاقة وينخفض وزنه تدريجياً. لقد تبين أن العوامل الوراثية تلعب دوراً مهما في حدوثه, فقد وُجد تطابق نسبته 63% في حالات التوائم المتماثلة. لقد تحقق تطور كبير في معالجة الاضطراب خلال السنوات الأخيرة, ويمكننا أن نقسم هذا العلاج إلى نوعين: العلاج السلوكي والعلاج الدوائي. تعتمد المعالجة النفسية السلوكية على طريقة التعريض أو الغمر أو الإغراق exposure, حيث يتم تعريض المريض للوضع الذي يخشاه ثم عدم السماح له بالقيام بما كان يستتبع ذلك من سلوك متسم بالتكرار. تبدأ هذه المعالجة بخطوة تحديد الطقوس أو الشعائر التي يتبعها, مثل غسل اليدين أو التنظيف أو التأكد من الأشياء, ثم يسأل عن المواقف التي تحفزه على القيام بمثل هذه السلوكيات, وبعد تحديد هذه المواقف يتم تصنيف المحفزات التي تطلق هذه السلوكيات الوسواسية حسب درجة إزعاجها وإثارتها للقلق, فيعرض المريض إلى أدنى مثير للقلق, ثم للمثير الأكثر قلقا وهكذا, وتسمى هذه الطريقة بخفض الحساسية التدريجي والمنظم التي يرافقها تدريب المريض على الاسترخاء, بحيث يعمل الاسترخاء كنقيض للقلق, حتى يصل إلى مرحلة يحل فيها الهدوء والاسترخاء محل مثيرات القلق عن طريق الاقتران. وفي حالة المريض الذي يغسل يديه مراراً, يبدأ المعالج جلسته بلمس أشياء قذرة ثم يجعله يفعل فعله وسلوكه, ولا يسمح له بغسل يديه أثناء الجلسة, ويوضح المعالج للمريض بأن شعوره بأنه سيتلوث, سيختفي بالتدريج, وعلى أهل المريض أن يساعدوه على ذلك في المنزل بنفس الطريقة. أما المعالجة الدوائية فتستخدم مثبطات إعادة قبط السيروتونين, وخاصة العقار المسمى أنفرانيل Anfranil الذي يستعمل في حالات المصابين بالاكتئاب الذين تظهر لديهم أعراض الوسواس القسري أو دواء كلوميبرامين Clomipramine الذي تعطى جرعة منه مقدارها 25 ميلغراما ثلاث مرات يومياً, ويمكن زيادة الجرعة لتعطي نتائج أفضل مع بعض الحالات التي لا تفيدها الجرعات المنخفضة حتى تصل إلى 200 أو 250 ميلغراما يومياً. وتستلزم المعالج بهذا الدواء فترة تتراوح بين 4 إلى 6 أسابيع إذا كانت الحالة تعاني من الاكتئاب مع الوسواس, أما إذا لم تكن تعاني من أعراض الاكتئاب فيجب أن تطول مدة المعالجة حتى 12 أسبوعا قبل أن نتأكد من نجاعتها. ومن الآثار الجانبية التي يتركها هذا الدواء: الرجفة والدوار, والنعاس, وبعض التأثيرات المعدية والمعوية وجفاف الفم والإمساك, وتأثيرات جنسية وثانوية كالعجز الجنسي والتعرق. ويجب ألا يعطى هذا الدواء مع مثبطات أنزيم أوكسيد أحادي الأمين monoamine oxidase inhibitors مثل ترانيلسيبرومي tranylcypromine (واسمه Parnate) وكذلك فينيلزين phenelzine (أو Nardil) لأن ذلك قد يحدث فرطا في الضغط. ويعتبر مثبط إعادة قبط السيروتونين المسمى هيدرو كلوريد فلوكزتين Fluzetine hydrochloride (أبو بروزاك Prozac) فعال جداً في معالجة الوسواس القسري ومعدل جرعته اليومية 75 ميلغراما. وتأثيراته الجانبية أقل من سابقه. ولكن استعماله مع مثبطات أنزيم أكسيد أحادي الأمين يحدث آثارا خطيرة, لذلك لا يجوز وصفهما معاً إطلاقاً. وهناك هيدرو كلوريد السيترالين أو زولوفت Zoloft من الأدوية المرخصة حديثاً لمعالجة الاكتئاب والفعالة في معالجة الوسواس القسري. وتستعمل أيضا مثبطات إعادة قبط السيروتونين المسماة فلوفوكزامين Fluvoxamine أو لوفوكس (Luvox) المستعمل في العديد من الدول الأوربية, ويوصف بجرعة تبلغ 300 ميلغرام يومياً.
|