مرفأ الذاكرة: محاولة للانتصار على الهزيمة

مرفأ الذاكرة: محاولة للانتصار على الهزيمة

انبثق وعيي الثقافي مع وعيي القومي من مأساة 1948التي ظلت تطرح السؤال المعذب: كيف السبيل إلى التغلب على الهزيمة؟ ما عساه يكون دوري في أمة تطمح لأن تسترد مكانة كانت لها في الحضارة العالمية؟

من نشأة دينية دفعني إليها والدي وعملٍ صحفي دفعني إلى ممارسته وضع عائلي فقير, كنت مرصوداً لأكون "مثقفاً" ولكن لا النشأة الدينية القاصرة ولا العمل الصحفي المحكوم برغبة توفير بعض أسباب الرزق, كانا كافيين لتوفير الحد الأدنى من وسائل الثقافة, فكانت رحلة باريس التي استغرقت ثلاثة أعوام كافية لمنحى العزيمة على إصدار مجلة للمثقفين العرب وكتابة رواية أولى تصور مسيرة شاب شرقي نحو اكتساب ذخيرة تمكنه من أن يصبح "مثقفاً". وكان نجاح مجلة "الآداب" عام 1953وصدور رواية "الحي اللاتيني" في العام نفسه, يفتحان الأفق للاضطلاع بالدور المطموح إليه. وكانت افتتاحية العدد الأول من المجلة بعنوان: "رسالة الآداب" تعبر عن هذا الوعي المبكر لدور يرسمه لنفسه "مثقف" يود, برغبة محمومة, أن يُسهم في محاولة الانتصار على هزيمة قوضت كل أمل في إنشاء حضارة عربية جديدة.

ولكن ما كان أثقله عبئاً هذا الذي حاول "المثقف" ان يحمله على عاتقه!

هل كان من السذاجة بحيث إنه لم يع قط العقبات والمثبطات التي كانت تنتصب في وجه مشروعه؟

بالرغم من تبني "الآداب" لثورة عبدالناصر فور قيامها وقد تزامنت مع صدورها فقد وجدت نفسها تواجه معظم الأنظمة العربية التي كانت تستمد سلطتها من علاقتها بالقوى الاستعمارية, وكان نموذج هذه الأنظمة حكم نوري السعيد في العراق وحكم كميل شمعون في لبنان. ولأن المجلة التزمت الفكر القومي, فقد تعرضت للقمع في العراق حيث كان لها حظوة كبيرة لدى الكتاب والقراء على حد سواء. أما في لبنان, فقد كان حكم شمعون أعجز من أن يقمع أصوات المثقفين الذين تجمعوا على صفحات الجرائد الوطنية, وكنت أحدهم لأن "الآداب" احتجبت طوال ثلاثة أشهر لوقوع مكتبها في منطقة المقاومة الشعبية. حتى قامت ثورة 14 تموز"يوليو" في العراق فكانت ضربة للحكم الشمعوني بالرغم من أنها بررت للقوات الأمريكية النزول على الأرض اللبنانية.

في صميم المعركة

هكذا وجد "المثقف" نفسه في صميم المعركة القومية العربية, يخوضها بقلمه ومواقفه, ويزداد حدة في التزامه القومي, وينحاز إلى الفكر الناصري, ويسجل ذلك في قصص رافقت الأحداث وأدانت الانفصال في مجموعة "رحماك يا دمشق" التي منعت في سوريا, وتعاني مجلته ما تعاني من قمع ومنع. وقد وصف هذه المعاناة في روايته "أصابعنا التي تحترق" التي أراد بها أن يصور الهموم والمتاعب التي يواجهها المثقف العربي حين يحاول أن يحتفظ بنظافة قلمه ويده وموقفه.

وفي موازاة ذلك, كان لابد له من أن يخوض المعارك الأيديولوجية مع مذاهب قادمة كانت ذات نزعات شديدة التناقض بين أقصى اليسار كالشيوعية وأقصى اليمين كالسلفية, وقد هاجمت كلتاهما مجلة "الآداب" و "الحي اللاتيني". أما المجلة, فقد هاجمها الشيوعيون لأنها شاءت الإفادة من الفكر الوجودي, علماً بأن سبب التعاطف مع هذا الفكر كان منطلقاً من تأييده لنضال الشعوب في وجه الاستعمار, ومثاله نضال الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي, وليس تبني الفكر الوجودي. أما "الحي اللاتيني" فقد هاجمها من أقصى اليسار رضوان الشهال وآخرون من الشيوعيين الشديدي التطرف, ومن أقصى اليمين عيسى الناعوري الشديد السلفية.

وخاضت "الآداب" في الوقت نفسه معركتها مع المجلات المشبوهة ذات التمويل المخابراتي, وعلى رأسها "حوار" التي توقفت عن الصدور بعد انفضاح أمرها.

وإذن, فقد كان مفروضاً على "المثقف" أن يقاتل على عدة جبهات في وقت واحد, وهو الأمر الذي يؤكد أن الالتزام الحقيقي يربط أوثق الربط بين النظرية والتطبيق وأن سلوك المثقف الواعي لدوره لا يحتمل التناقض بين القول والفعل.

الحرية هي الأهم

على أن في رأس هموم المثقف منذ اضطلاعه بدوره, كان همّ الحرية, هذه الحرية التي كانت الأمة العربية محرومة منها بسبب الأنظمة القمعية والأصوليات الخانقة, ولاسيما حرية التعبير. وأذكر هنا أني شخصياً تعرضت عام 1958 لتهديد بالاغتيال على أيدي بعض المتعصبين الملتحين الذين قصدوني في المكتب ليستنكروا ما قلته في احتفال لحزب الكتائب بذكرى الاستقلال من أن لبنانياً مسيحياً يؤمن بالعروبة أقرب إلي من لبناني مسلم يكفر بالعروبة, فزعموا أن هذا يناقض الإسلام, وهددوني بهدر دمي, بالرغم من معرفتهم بأني كنت آنذاك رئيس جمعية متخرجي المقاصد الإسلامية. وقد شكوت الأمر إلى الشرطة, فتم اعتقال بعضهم إلى ان فضلت التنازل عن شكواي. ولكن ما كان أسوأ من ذلك الحملة التي شنها علي في أحد المساجد مُفت سابق بعد صدور روايتي "الخندق الغميق" التي تحدثت فيها عن نشأتي الدينية, وأراد أن يثير ضدي جمهور المصلين الذين كان بينهم أخ لي نهض يذكر المفتي بأني كنت زميلاً له في الكلية الدينية وأني كنت أجلس إلى جانبه, على طاولة الدراسة نفسها, فسارع المفتي يصدر عفوه عني بقوله: "عفا الله عنه!".

هذا على الصعيد الشخصي. أما على صعيد "الآداب" فإن مفهوم الإبداع في تخطيطها, لا ينفصل عن الحرية والديمقراطية, كانت حرية الأديب والمثقف العربي همنا الرئيسي, نرفع رايتها ونتحدى من أجل تحقيقها والحفاظ عليها جميع سلطات القمع والإرهاب. وقد دفعت المجلة ثمن مواقفها هذه غالياً, حتى أن "مصادرة الآداب وإحراقها والتنكيل بها, أصبحت ـ على حد تعبير نزار قباني ـ تقليداً عربياً راسخاً". على أن معركتنا من أجل الحرية اتخذت ساحة أخرى غير "الآداب" هي ساحة المؤتمرات الأدبية التي شارك فيها مشاركة فعالة "اتحاد الكتاب اللبنانيين", هذا الاتحاد الذي شكلته مع بضعة مثقفين لبنانيين عام 1968 وكنت أميناً عاما له عشر سنوات حضرنا فيها خمسة مؤتمرات أدبية أقامها الاتحاد العام للأدباء العرب. وبفضل ما كان يتميز به هذا الاتحاد عن سائر الاتحادات الأدبية العربية من استقلال عن السلطة, تمكنا من حمل لواء الدفاع عن حرية الأديب العربي وشجب القمع الذي يتعرض له. وربما كان المؤتمر التاسع للأدباء العرب الذي عقد في تونس عام 1973أهم مناسبة أدبية خاض فيها أدباؤنا معركة حرية التعبير, وأصر الوفد اللبناني على إثارة موضوع اضطهاد نظام السادات لما لا يقل عن مائة أديب مصري فصلوا من أعمالهم التحريرية وأبعدوا عن ممارسة نشاطهم الأدبي. وقد كشف هذا المؤتمر ارتباط معظم اتحادات الأدباء بالسلطة السياسية وتبعيتها لها وعجزها عن اتخاذ الموقف الذي كان يفرضه الدفاع عن الحرية والانتصار للمقموعين, بحيث اضطر الوفد اللبناني إلى الانسحاب من المؤتمر واضطر اتحاد الكتاب اللبنانيين إلى الاستقالة من الاتحاد العام للأدباء العرب, وقيادة معركة قاسية طوال أشهر كسب فيها اتحادنا تأييد الرأي العام الأدبي ومنعت فيها السلطة السياسية في عدة بلدان مجلة "الآداب" التي حملت إلى جانب الصحافة الوطنية في لبنان لواء الدفاع عن الحريات.

إحباط المثقف

نجحت هزيمة 67 في اشاعة إحباط في نفس "المثقف" قارب اليأس, فالتمس لإزالة هذا الاحباط عملاً يستغرقه وينسيه المأساة العربية الجديدة, فتحول إلى إعداد معجم فرنسي عربي كان ينوي المشاركة في تأليفه لحاجة طلابه الجامعيين وحاجة المترجمين. وقد غرق فعلاً في هذا المعجم الذي لقي نجاحاً, ولكنه صرفه عن التأليف القصصي والروائي وأغراه بالعمل المعجمي الذي أقبل عليه مع المرحوم صبحي الصالح. وحين زور ذلك المعجم أخذه الندم لقضاء أربع سنوات مرهقة أتى بعض القراصنة يسرقون جهدها بلا وازع من ضمير, حتى لتمنى لو لم يحظ ذلك المعجم بالنجاح!

على أن مهنة النشر, التي اضطر إلى ممارستها ليحمي حقوق التأليف التي تستحق له من مؤلفاته ومترجماته هي بالأصل مهنة عاقة, ونادرون هم الشرفاء الذين يتعاطونها. وإذا كانت بعض المكتبات تستغلها أبشع استغلال وتجني منها الأموال الطائلة المسروقة من جهد الناشرين, فان هناك مؤلفين متعبين بل مزعجين, بما ينساقون إليه من شكوك يوجهونها ظلما وبهتاناً إلى ناشرين شرفاء صادقين في المعاملة. وقد عانى "المثقف" من بعض هؤلاء المؤلفين الذين هم في الغالب كتاب فاشلون لا يلقون حظوة لدى القراء فيمضغون خيبتهم تهماً وسوء ظن وافتراء.

على أن ما يُعزي "المثقف" الذي أصبح بالمصادفة والاتفاق ناشراً أنه موضع ثقة وتقدير من عشرات الأدباء والشعراء والروائيين, والنقاد الذين يدينون بالفضل لدار الآداب التي احتلت المقام الأول في اصدار روائع الروايات والشعر والدراسة والتي تسهر على نشر أفضل نماذج النتاج الحديث, تأليفا وترجمة, ولو أن هذا السهر أوشك أن يجعل من "المثقف" الناشر ضحية "المثقفين" المؤلفين!

ولكن عنوان "المثقف" الأول وموضع اعتزازه, إنما هو هذه المجلة التي تبلغ الآن عامها السادس والأربعين, وستحتفل بعد أربعة أعوام, أي في عام 2002 بيوبيلها الذهبي, إن مد الله في العمر, والا فسيواصل سماح ادريس, مسيرتها الشاقة, بالرغم من أنه يعتبرها عبئاً ثقيلاً يدعي أنه يحرمه فرصة عمل يبتكره بنفسه ولا يكون إرثا يئول إليه حتى من أبيه. إنه طموح لا يسع الأب إلا أن يباركه, رغم إيمانه بأن الإرث هو من التراث مفهوماً وصلة لغوية, وأن متابعة هذا الإرث قدر تاريخي ليس من الممكن ولامن المرغوب فيه التخلي عنه, شرط أن يتم العمل على تجاوزه. ولولا إيمان الابن بأنه سيتجاوز الأب في العطاء لما ارتضى تسلم هذا الميراث من يد أب أدركته الشيخوخة.

عناوين كبرى

هي ذي العناوين الكبرى لتجربة مثقف عربي حاول أن يعيش عصره ويكون شاهداً صادقاً عليه.

ولكن هذا المثقف, وقد استعرض تجربته, لن يكون صادقاً كل الصدق إذا لم يعترف بأنه آثر أحياناً ألا يقول الحقيقة, كل الحقيقة, بدافع من هوى يخون الموضوعية, أو خطأ كان يستطيع تجنبه.

أما نموذج الهوى الذي يخالف الموضوعية, فإن المثقف قد سبق له أن اعترف علناً في ندوة أدبية عقدت في المغرب أنه لم يرفع صوته للاحتجاج على اضطهاد تعرض له بعض الأدباء المصريين في عهد عبدالناصر, وعلى رأسهم محمود أمين العالم. إن الامتناع عن كشف الحقيقة, كل الحقيقة, خيانة للصدق الذي يدعيه المرء.

وأما الخطأ الذي كان "المثقف" يستطيع تجنبه فقد أوضحه في رواية "أصابعنا التي تحترق" بصدد حذف صفحات من ثلاثة أعداد من "الآداب" من النسخة المرسلة إلى العراق في عهد نوري السعيد, خوفاً من منع المجلة التي كانت تلقى في السوق العراقية أكبر الرواج.

وفي قول الحقيقة ينتصب ادوارد سعيد ضميراً للمثقف العربي الملتزم, ونموذجاً للكاتب المعارض, المقاتل الذي لا تخلف الهزائم والنكسات إحباطاً في نفسه ولا يأساً, بل تزيده اصراراً على الاستمرار في النضال والقتال والمقاومة.

على أن "قول الحقيقة" إنما ينفجر في أنصع صورة وأعظمها جرأة في آخر مقال قرأناه له في جريدة "الحياة" بتاريخ 19حزيران "يونيو" الماضي. فهذا المقال الذي كتبه بمناسبة انقضاء ثلاثين عاماً على هزيمة حزيران, مثال لروح الشمولية التي يتميز بها ادوارد سعيد في مواجهة الوقائع وتعرية الحقائق واستيعاب الوضع من جميع وجوهه في آن, من غير إهمال أي عنصر من عناصر القضية. وهو يجمع إلى هذا الوعي الكبير للحقائق حساً عميقاً بالديمقراطية والحرية, إلى جرأة بالغة لا يتحلى بها سواه من المفكرين المعاصرين في مواجهة الأنظمة, يتوج ذلك كله نزعة الاستقلال الكامل عن جميع هذه الأنظمة التي يحملها, من غير تفرقة ولا تمييز, مسئولية الهزائم التي تعانيها الأمة العربية منذ عقود طويلة.

"نحن محكومون بالمقاومة ومواصلة القتال".

ونحن بحاجة إلى دروس كثيرة نتعلمها من ادوارد سعيد.

 

سهل إدريس

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب