رحلتي الطويلة من أجل الحرية

رحلتي الطويلة من أجل الحرية

السيرة الذاتية لنلسون مانديلا
ترجمة: عاشور الشامس

التاريخ ليس حكراً على صانعيه, بل هو تراث قومي وإنساني يستمد منه الإلهام وتستخلص العبرة وتستفاد الدروس. والسيرة الذاتية التي يدونها صناع التاريخ عنصر رئيسي في تدوين التاريخ, لأن الأقدار هيأت لهؤلاءالقادة أن يشكلوا مجتمعاتهم ويسهموا في تقرير مصائرها بما أؤتمنوا عليه من الذياد عن قضايا الأمة والتحدث باسمها ورسم سياساتها لسنوات بعيدة لما تأت. ومن هنا رأينا كثيرين من زعماء العالم ـ وزعيماته مثل مارجريت تاتشر ـ يحرصون بعد أداء رسالتهم العامة على تدوين مذكراتهم أو سيرهم الذاتية, تجلية للحقائق الغامضة بشأن مسالكهم, أو كشفاً للمخفي من أسرار السياسة, أو دفاعاً عن المنهاج الذي ارتضوه في تسيير دفة البلاد وربما أيضا لادعاء بطولات فارغة انتحلوها تضخيماً لذواتهم, وإن كان المفروض في السيرة الذاتية أن تتسم بالصدق, لأن كاتبها هو أدرى الناس بنفسه وبكل ما صدر عنه من تصرفات خاصة أو عامة.

والسيرة الذاتية لزعيم جنوب إفريقيا نلسون مانديلا التي اختار لها بالإنجليزية عنواناً يترجم إلى "المسيرة الطويلة إلى الحرية" والتي ترجمها إلى العربية ترجمة تنم عن إجادة للغتين وفهم لمؤدياتهما الأستاذ عاشور الشامس, هي سيرة تنضح بالصدق لرجل نشأ في بيئة مدقعة الفقر, وإن كان تبناه ملك لإحدى القبائل, ولكنه رغب في أن يستقل بحياته وكان أقصى مناه أن يعمل في مناجم الذهب في جوهانسبرج, لا كعامل تنقيب وحفر, بل في أي وظيفة إدارية, ولكنه كان يرتطم بالحواجز التي تنبهه إلى أنه إفريقي أسود السحنة وأن البلاد تحكمها أقلية بيضاء تحتم على سكان البلاد الأصليين والملونين والهنود أن تكون خطواتهم محصاة عليهم, فلابد من ترخيص للانتقال من مكان إلى مكان, ولابد من تصريح للسير في أي منطقة, ولابد من رخصة لركوب حافلة, فضلاً عن إلزامهم بالعيش في مناطق لايبرحونها, وحظر غشيانهم للأماكن المخصصة للبيض. وقوانين التفرقة العنصرية مسلطة عليهم, فإن خالفوها تعرضوا للمحاكمات ونتائجها معروفة سلفا وهي الزج بهم في السجون.

يقظة الحس النضالي

لم يكن لنلسون مانديلا أي اهتمام فعلي بالسياسة في شبابه الأول, ولافكر في الانتساب إلى أي جماعة تهدف إلى الذب عن حياض قومه, ولكن هذه الإجراءات التعسفية أيقظت فيه الحس النضالي, إذ كيف يرتضي لنفسه ولقومه كل هذا الذل المؤبد في حين أن الأرض أرضهم والبلاد بلادهم, وهم أقوامها الأصليون, في حين أن البيض قوم طارئون على البلاد احتلوها وتحكموا فيها, فهم السادة وكل من عداهم عبيد, وكل القوانين تتحيز لهم وتجور على حقوق السود.

بدأ صاحب السيرة نشاطه السياسي الحزبي على اعتقاد خاطئ بأن قضية بلاده يمكن أن تكتسب بالنضال السلبي الذي كان أبرز دعاته المهاتما غاندي في الهند, فالاجتماعات والخطب والمظاهرات والاحتجاجات هي السبيل الآمن المسالم إلى تحقيق الحرية التي ينشدونها, والظفر بالحقوق التي سلبت منهم. ولكن حتى هذا المسلك السلمي لم يقابل من السلطات الغاشمة إلا بمزيد من البطش, سواء بتقديم مانديلا إلى المحاكمة ثم الزج به في السجون, أوبفرض حظر على تنقلاته ونشاطه مع ملاحقته من جانب أذناب السلطة. كان مانديلا في بادئ الأمر يدعو إلى إخراج البيض من البلاد لتصبح بعد ذلك خالصة لأهلها من الإفريقيين والملونين والهنود. ولهذا أخذ يشن عليهم حملات وصفها بقوله:

"إن الحملة حررتني من انبهاري بقوة الرجل الأبيض ومؤسساته التي كانت تبدو لي وكأنها لاتقهر. أما الآن, فقد أذقت الرجل الأبيض طعم لكماتي وأصبح بإمكاني أن أمشي مرفوع الرأس وأواجه الجميع بعزة وكرامة نابعة من عدم إذعاني للظلم أو استسلامي للخوف. أجل, لقد بلغت رشدي كمناضل من أجل الحرية".

ولكن من أين يعيش المناضل؟ لابد له من مورد رزق. ومن هنا صار مانديلا يتابع دراسة القانون, ويعمل ككاتب في مؤسسة للمحاماة, مما هيأ له حتى قبل أن يغدو مؤهلاً لممارسة المحاماة أن يدافع عن زملائه المناضلين وهم يساقون إلى أجهزة التحقيق والمحاكمة التابعة للدولة. وقد هيأت له دراسة القانون ـ دون أن يتخلى عن نشاطه السياسي ـ أن يقارن بين قوانين حقوق الإنسان والشرائع المرعية في بلاده, وأن يكون على بصيرة بحقوقه كلما تحرشت به قوى البغي ورغبت في التنكيل به باسم القانون أو في غيابه.

في الوطن متسع

وكلما ازداد انخراط صاحب السيرة في العمل السياسي, ازداد وعياً بأن الظلم ظلم, سواء اقترف في حق أسود أو في حق أبيض, وازداد إدراكاً بأن الدعوة إلى إخراج البيض من البلاد تتساوى في تعسفها مع السياسة التي تنتهجها حكومة البيض في إخراج السود من جميع جوانب الحياة, ومن هنا تغيرت نظرة مانديلا إلى الحل المرتجى لبلاده, وصار يعتقد أن الوطن يتسع لجميع من يعيشون فيه من بيض وسود وأقلية وأكثرية, وكانت الثمرة الناضجة لهذا التفكير هي إصداره ميثاقاً ينص على أن الشعب كل الشعب هو الحاكم, وأن لجميع الأفراد حقوقاً متساوية بغض النظرعن العرق أو اللون أو الجنس, وأن الدعوة إلى التمييز جريمة يعاقب عليها القانون, وأن جميع أبناء الشعب شركاء في ثروة الوطن, وأن لجميع فئات المجتمع الحرية الكاملة في استعمال لغاتها الخاصة وحماية ثقافتها الشعبية وعاداتها. فالوطن يتسع للبيض والسود, ولا عداوة بين هؤلاء وأولئك, وليتضافر الجميع في سبيل بناء صرح الوطن كأنداد أمام القانون والمجتمع.

ولكن حتى هذه الدعوة البصيرة لم تجد استجابة من الحكومة القائمة, التي شددت النكير على مانديلا وأعوانه, فصاروا يخرجون من اعتقال إلى اعتقال, ومن محاكمة إلى محاكمة, فهم في نظر السلطة طريدو العدالة. وبعدما كان مانديلا يؤمن بأن النضال السلمي كفيل بتحقيق أهداف حركته, أكدت له تجارب الحياة أن القوة لاتفل إلا بالقوة, والسلاح لايقهر إلا بالسلاح, وسافر إلى بلدان مجاورة سراً حيث تدرب على استخدام الأسلحة, وهرب بعض أعوانه إلى أوربا لشراء السلاح, وهكذا انفجر الوضع في جنوب إفريقيا, انفجارات هنا, ومعارك دامية هناك, فازدادت الحكومة شراسة وسقط كثير من الضحايا. ولكن البلاد كلها التهبت برغبة عارمة تنشد الحرية مهما تكن التضحيات. وكان لابد من تقديم مانديلا إلى المحاكمة هو وكل المجاهدين معه, فحكم عليهم بالسجن المؤبد الذي قضوا فيه 28 عاماً لم تزعزع إيمانهم ولا أوهنت عزيمتهم. بل إن محاميهم رغب في استئناف هذا الحكم عساه يتمكن من تخفيفه أو إلغائه, ولكن مانديلا ورفاقه رفضوا ذلك تماماً قائلين إنهم يرتضون العقوبة مهما كانت. وفي تفسير هذا الموقف قال مانديلا:

"قررنا ألا نستأنف الدعوى مهما كانت العقوبة. صعق المحامون من ذلك الموقف, ولكننا كنا مؤمنين بأن الاستئناف سيضعف من موقفنا الأخلاقي المبدئي الذي اتخذناه من هذه القضية. فقد أصررنا منذ البداية على اعتزازنا بما قمنا به من أعمال, وعلى أننا قمنا بها من منطلقات مبدئية أخلاقية, ولذا فلن نناقض ذلك القول بالاستئناف ضد الحكم. عقوبة الإعدام ستفجر رد فعل جماهيرياً عارماً لم نكن نرغب في إجهاضه. والاستئناف بعد ذلك الموقف المتحدي الشجاع الذي اتخذناه في المحكمة سوف يكون صدمة بل وخيبة أمل كبرى للجماهير. فالرسالة التي نريد توصيلها إلى الناس هي أن كل شيء يهون في سبيل نضالنا من أجل الحرية".

في السجن ـ أو على الأصح في السجون لأن مانديلا ورفاقه كانوا ينقلون من سجن إلى آخر ـ عوملوا معاملة العبيد في تكسير الحجارة, وتنظيف مجاري المخلفات البشرية, والتعرية في البرد القارس, والحرمان من الطعام إلا ما يعافه الحيوان, ومنعهم من كتابة الرسائل أو استقبال الزوار إلا كل ستة أشهر, وعزلهم عن الدنيا فلا يقرأون صحفاً أو يصغون إلى إذاعة.

حر بعد السبعين

ولكن الفحش الغليظ الذي ارتكبته حكومة البيض في جنوب إفريقيا ترددت أصداؤه في الخارج, فأصدرت الأمم المتحدة عقوباتها على نظام الفصل العنصري المتمثل في هذه الحكومة, وترددت في الكونجرس الأمريكي وغيره من المؤسسات المحلية والعالمية نداءات بالإفراج عن المعتقلين ومعاقبة المستبدين, وما كان مستطاعاً في عالم متحضر أن تستمر هذه السياسات العنصرية إلى الأبد. فسمحت حكومة جنوب إفريقيا لمانديلا بالتفاوض معها, وهي مفاوضات تعثرت مرات وبدأت وهو مازال في السجن, وتكثفت عندما أطلق سراحه وقد تجاوز السبعين من عمره إلى أن انتهت باقتناع الحكومة بالنزول على حكم الشعب. فأجريت انتخابات عامة سبقتها دورات لتعليم أبناء القبائل كيف ينتخبون للمرة الأولى في حياتهم, وأسفرت الانتخابات عن فوز مانديلا بالأغلبية, فانسحب الحاكم دوكليرك, وجاء زعماء الدنيا وملوكها ليشهدوا تنصيب مانديلا رئىسا لدولة جنوب إفريقيا الموحدة التي ألغيت عنها العقوبات الدولية.

ولاتخلو سيرة هذا الزعيم الإفريقي من مواقف إنسانية تهز الضمائر. فقد حكمت عليه حياة النضال والسجون أن يهمل والدته العجوز. زارها ذات مرة وأيقظها من النوم فبدت له وكأنها رأت شبحاً. وهو يصف هذا الموقف الإنساني بقوله:

"غمرتها السعادة, ورغم سعادتي بالعودة انتابني شعور بالذنب لرؤية أمي تعيش بمفردها في تلك الظروف التعسة. وتساءلت ـ ربما ليس للمرة الأولى ـ عما إذا كان المرء محقاً في التقصير نحو أهله وأفراد عائلته للنضال من أجل رعاية الآخرين؟ هل في الدنيا أفضل وأهم من أن يتولى الإنسان رعاية أمه العجوز؟ وهل العمل السياسي هو مجرد وسيلة لتبرير تخلي الإنسان عن مسئولياته وعذر لعجز المرء عن أن يقدم ما يستطيع بالأسلوب الذي يريده؟".

وقال في مناسبة أخرى:

"إن المرء في هذه الحياة عليه واجبان: واجب تجاه أسرته ووالديه وزوجته وأبنائه, وواجب تجاه قومه ومجتمعه ووطنه. وفي المجتمع الإنساني السوي يستطيع المرء أن يوفق بين هذه الواجبات بماتيسر له من إمكانات وقدرات. أما في بلد مثل جنوب إفريقيا, فمن المستحيل على رجل من أصلي أو لوني أن يفي بحقوق الجميع. فالملون في جنوب إفريقيا إن حاول أن يعيش إنسانا عوقب وأقصي. وإن أراد أن يفي بواجبه تجاه وطنه حرم من أسرته وبيته وعاش حياة مشتتة تغلفها السرية والتمرد. ولم أختر منذ الوهلة الأولى أن أضع قومي قبل أسرتي, ولكنني عندما حاولت أن أخدم قومي وجدت نفسي محروماً من الوفاء بواجبي نحو أسرتي: ابناً وأخاً وأباً وزوجاً".

توفيت والدته وهو في السجن, فمنع من تشييع جنازتها أو زيارة قبرها. وقتل نجله في حادث سيارة فحيل بينه وبين توديعه الوادع الأخير. وكانت زوجته الأولى قد انفصلت عنه فتزوج "ويني" التي تعرضت بدورها للسجن والاعتقال والتعذيب, فلما أفرج عنه انفصل عنها مع أنها أم أولاده.

قدر من الإنسانية

ومن المواقف الإنسانية لمانديلا في السجن عطفه حتى على سجانيه, فقد كان يدرك أنهم يأتمرون بأمر رؤسائهم, وأن البطش ليس من طبيعتهم, فكان يعذرهم إن شددوا عليه النكير. وفي "الدفاع" عن حارسه قال مانديلا:

"في أعماق كل إنسان حتى أكثر الناس وحشية وقسوة قدر من الإنسانية, وبإمكان كل إنسان أن يتغير إذا لمست جوانب الخير في قلبه ونفسه. لم يكن الحارس شريراً بكل ماتعنيه تلك الكلمة, ولكن وحشيته فرضت عليه من قبل نظام غير إنساني. كان يتصرف بوحشية لأنه كان يلقى مكافأة على وحشيته".

وقد أثقل مانديلا سيرته بالحديث عن عشرات أو مئات من الأشخاص الذين تعامل معهم, سواء كانوا من أنصاره أو من خصومه, وحاول إعطاء كل ذي حق حقه, فكان منصفاً للأعداء والأصدقاء على السواء, ولم يكن ينبعث في الكلام عن خصومه عن غل أو حقد, وإنما كان يجتهد في تصويرهم على حقيقتهم تاركاً للقارئ أن يحكم عليهم.

فالتسجيل الأمين للتاريخ قضى عليه أن يقول كلمة حق في كل من كان له دور في الحياة العامة تعامل معه مانديلا. ومن الإنصاف ألا ينسب النجاح كله إلى شخص بل أن يوزع الأنصبة على العاملين كل بحسب حجمه في هذا النضال.

ويختم مانديلا سيرته الملهمة بالتغني بالحرية, ولايعرف قيمة الحرية إلا من جرب السجون والمنافي والقيود والسدود, وفي هذا يقول:

"إن الحرية لاتتجزأ. فالأغلال التي تقيد واحداً منا تقيدنا جميعاً. والأغلال التي تقيد قومي هي أغلال تقيدني.. الحرية ليست مجرد التخلص من الأغلال, ولكن الحرية أن تعيش حياة تحترم فيها حرية الآخرين وتعززها.. لقد سرت على طريق الحرية الطويل, وبذلت جهدي كي لا أتداعى أو أسقط, وإن تعثرت خطواتي أحياناً. ولكنني اكتشفت سراً يقول: إن الإنسان الحر كلما صعد جبلاً عظيما وجد من ورائه جبالاً أخرى يصعدها. والآن, فإنني أستريح, ولكنها استراحة محارب, استمتع فيها بما حولي من أمجاد, وألقي ببصري إلى الوراء, أتأمل الطريق الذي قطعت. استراحة المحارب قصيرة, لأن للحرية تبعاتها, ولايسعني الانتظار لأن رحلتي طويلة لم تنته بعد".

وعلى يدي مانديلا خرجت بلاده من الظلمات إلى النور, وصارت دولة تحترم القانون, ولها في المجتمع الدولي مكانتها. وجفت بحار الدماء التي غطت أديمها, وصار الناس آمنين على مالهم وحياتهم وأعراضهم. ولكن الثمن الذي دفع في هذا السبيل كان باهظاً, والدنيا لاتؤخذ إلا غلابا كما قال الشاعر.

 

وديع فلسطين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




نيلسون مانديلا





غلاف الكتاب