منير كنعان... اكتشاف فارس التشكيل الحديث

منير كنعان... اكتشاف فارس التشكيل الحديث

شهدت القاهرة طوال شهر يونيو عام 2001 احتفالية كبيرة بالفنان منير كنعان والذي رحل عن عالمنا عام (1999) عن 80 عاماً.

من خلال معرض كبير ضم أكثر من أربعمائة لوحة من مختارات أعمال الفنان منير كنعان طوال ستين عاماً أقيمت الاحتفالية التي ضمت سلسلة من الندوات التشكيلية حول عالمه إلى جانب ندوات شعرية وأدبية, مما شكّل ظاهرة ثقافية مفعمة بالثراء والحضور تتعادل مع ما كان يبثه الفنان أثناء حياته من حضور إبداعي ثري متألق كفارس من فرسان التشكيل المصري والعربي الحديث, وكأننا نعيد اكتشافه من جديد, ونطرحه للمستقبل.

افتقاد الحفاوة

- المعرض الاستعادي الكبير والذي افترشت لوحات كنعان فيه جدران قصر الفنون الضخم وقاعات متحف الفن الحديث الواسعة بأرض أوبرا القاهرة, في افتاح رسمي وشعبي لم تشـــهده قاعات المعرض الفنية بالقــاهرة من قبل, حشــدت له وزارة الثقافة - قطاع الفنون التشكيلية كل مقومات النجاح والتألق حتى أنه تم تكليف الفنان القدير أحمد فؤاد سليم قومسيراً لهذا المعرض مع دراســة فنــية وافية عن إبداع كنعان ضمها الملف الصحفي الــذي وزع خلال حفل الافتـــتاح الذي حضره وزير الثقافة المصري فاروق حسني وحشد كبير من رجال الصحافة والإعلام والأهم محبي وتلاميذ هذا الفنان الرائد الكبير الذي افتقد في حــياته هذه الحفاوة العظيمة التي حظيت به ذكراه.

يقف وراء هذا المعرض الاستعادي الكبير والاحتفالية المصاحبة له زوجة وفيّة ومحبّة ومخلصة ومؤمنة بإبداع زوجها وريادته هي الفنانة والصحفية سناء البيسي رئيسة تحرير مجلة (نصف الدنيا) التي تصدرها مؤسسة الأهرام الصحفية وابنه هشام الذي كرّس وقته في إعداد وتجهيز أعمال والده الراحل لهذا المعرض مع تصنيفها وتوثيقها تمهيدا لإصدار كتاب شامل عن منير كنعان, ولو لم تهتم الزوجة الوفية والابن المستنير, لما اهتم أحد بإبداعات منير كنعان ولطواها النسيان الذي يطوي إبداعات فنانين من جيله ومن جيل الروّاد لم تكن هناك أسرة تحرص على تقديمها بعد رحيلهم إلى محبّي الفن والمتخصصين والدارسين ليحتلوا مكانتهم التي يستحقونها.

وقد أطلق الفنان فاروق حسني وزير الثقافة على كنعان أنه (رائد الخروج على الإطار) ووصف كنعان بإنه عبقرية فنية متفرّدة, حاول أن يخطو بلوحاته نحو فضاء يفيض بالألوان والرؤى والأفكار النابعة من قلب البيئة المصرية, وأن كنعان لم يكن ابنا لزمانه فقط, بل باحث عن الحقيقة الداخلية وراء الشكل الظاهر متجاوزاً للنمطية خالقاً لنفسه عالماً يحمل اسمه, وأنه خلق بفنه حواراً بين الأشياء لتشير إلى فنان يحمل قلباً وروحاً جسورة مغامرة في مضمار الفن أثرت في أجيال عدة بعده, وتركت بصمات لافتة على خريطة الفن التشكيلي في مصر وفي العالم العربي.

ريادة عالمية

وصف الفنان بأنه رائد التجريدية في مصر والعالم العربي, إلا أن أحمد فؤاد سليم في دراسته القيّمة المرفقة مع مطبوعات المعرض يعطي كنعان ريادة عالمية في مجال (التجريدية التعبيرية) حيث أكد بأن كنعان قد أنجز مجموعته التجريدية بين الأعوام 1942 - 1943 - 1944 أي قبل مدرسة نيويورك الشهيرة التي بدأت عملها تحت المصطلح نفسه (التجريدية التعبــيرية) ســنة 1945 وكــانت تضم (بولــول) و (روشكو) و (جوركي) و (كلاين) و (مزرول) وآخرين من شوامخ فناني القرن العشرين, وكان يعود الفضل في طرح هذا المصطلح إلى الناقد الأمريكي (روبرت كوتيس) الذي سكه في العام نفسه بنيويورك.

وهكذا فإن الناقدة والكاتبة صافي ناز كاظم تلميذة كنعان في مدرسة أخبار اليوم والذي تعلمت منه التذوق الفني وكتبت عنه منذ الستينيات تنتقد بأن أحداً من ذوي القدرة لم يتقدم بعد جديّاً لتسجيل دور كنعان في المحاولة العالمية (فكنعان واحد من هؤلاء الذين أدركوا مسئوليتهم مبكراً للمشاركة في المحاولة العالمية لتجارب البحث عن التعبير, ظل مثابراً بعذابه وعناده ليسير باسم مصر في فرقة الاستكشاف الفني العالمي, عسى أن يجد لنا ولنفسه سفينة النجاة). وتخاف صافي ناز كاظم من أن يتوه تعب فنان أصيل في غمار العالمية التي لم يدخلها بعد الفن التشكيلي في المنطقة العربية ككل.

وأيّا كانت أبعاد هذه القضية, فمنير كنعان رائد كبير سواء اعترف به الغرب ونعلم بأنه لن يعترف, فإنه رائد في بلده وفنان بلده والمنطقة العربية ككل, ومن الأهم علينا الآن تسليط الأضواء على هؤلاء الروّاد وحتى يتسنى لنا كتابة تاريخ الحركة التشكيلية بإنصاف وموضوعية, فالريادة عبء ومسئولية وليست فقط شرفا ومكانة.

ويقول الناقد الفني الكبير مختار العطار (يبدو أن منير كنعان كان أول من تلقى الرسالة التي تفجّرت في أوربا عامة وباريس خاصة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة, انتهت الحرب سنة 1945 ولم يكد ينقضي العام حتى شاعت الاتجاهات التجريدية واللاشكلية, تعبيراً عن الحركة بعد الكبت النازي الفاشي الذي كان يصادر الأساليب الفنية الحديثة ويطارد أصحابها, يبدو أن كنعان استجاب لنداء الحرية فاشترك سنة 1946 في بينالي ساوباولو بالبرازيل بلوحتين تجريديتين فكان أول من مارس هذا الأسلوب في الفنون المرئية في مصر, بعده بعشر سنوات تحول (رمسيس يونان) من السيريالية إلى التجريدية, ومن بعده (فؤاد كامل) ثم بعده بخمس سنوات تقريباً انتقل (صلاح طاهر) إلى التعبير التجريدي بعد رحلة قصيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثم انتشر التجريد بين شباب الفنانين وشيوخهم).

براءة مدهشة


منير كنعان الذي ولد بحي الظاهر بالقاهرة في 13 فبراير سنة 1919 من أسرة لبنانية مارونية, ولو استقلت هذه الأسرة من ميناء بيروت وقت هجرتها السفينة المتجهة إلى نيويورك وليس السفينة المتجهة إلى الإسكندرية, لكان كنعان الأب اسما لفنان عالمي نقرأ عنه وعن أعماله في كتب الفن الأجنبية الأنيقة والرائعة وليسجل لنفسه ريادة عالمية في (التجريدية التعبيرية) أو في أي مرحلة من مراحل إبداعاتهم الثرية, ولكن الأسرة اتجهت إلى مصر ليلحق الفتى كنعان - وهو مازال في المرحلة الثانوية - بمكتب لتصميم الاعلانات استناداً إلى تفوقه في حصص الرسم وبراعته في التلوين, فيتجه من هذا التاريخ 1936 إلى العمل في المجال الفني وهو لم يتجاوز بعد السابعة عشرة من عمره, ودون أن يتلقى أي دراسة فنية أكاديمية يثبت كنعان براعة مدهشة في الرسوم الشخصية ورسم الوحدة والموضوعات الحياتية المختلفة ليبدأ سيرته الفنية الحقيقية بداية من عام 1940 حيث يعمل بعد خمس سنوات من هذا التاريخ كرسام ومخرج فني في مؤسسة أخبار اليوم مع المجلة الجديدة (آخر ساعة) لتزيّن رسومه أغلفة هذه المجلة بعد أن كان يرسمها فنانون أجانب.

- كان قدر منير كنعان أن يكون مصرياً فيثري الحركة الفنية بإبداعاته وليدة أصالته وموهبته وتمرّده, وكان يقول دائماً (بأن الصدق هو حبل النجاة في تجربته الفنية), ولم يكن يعنيه أن يكون رائداً أو الأول في أي شيء, بل لقد هوجم على تجاربه ومحاولاته الجريئة, فعندما عرض في أوائل الستينيات تراكيبه المنفذة من الخشب المحترق وحلوق النوافذ القديمة والخيش والمسامير وقطع الزجاج والسلك والزلط, بالإضافة إلى (غرباله) الشهير, قلب الموازين جميعاً رأساً على عقب, وترك المشاهدين حيارى بين مصدق ومكذب, ووقف الفنانون والمثقفون مشدوهين أمام ذلك الغامض الغاصب لخيالهم, ولم يسلم كنعان من هجوم أهل الدار الصحفية التي بها (دار أخبار اليوم) وانهال عليه النقد الساخر المحزن, ولكنه ظل صامداً متواصلاً مع ذاته المبدعة.

وبعيداً عن التقسيمات المختلفة لمراحل كنعان الفنية فإني ألخصها في اتجاهين أساسيين هما:

الواقعية التشخيصية:

وتبدأ مع بداية عمله في الصحافة وانتهى منها مع نهاية الخمسينيات من القرن الماضي, وإن استمرت معه حتى عام 1973 حين نراه يرسم بعض الرسوم الصحفية عن العبور وانتصار أكتوبر في وقت كان منغمساً فيه في التجريدية التعبيرية, وقد رسم في مرحلته الواقعية التشخيصية كل شيء عن مصر حتى إنهم أطلقوا على معرضه الكبير الاستعادي (مصر في عيون كنعان) وفي مجموعته الشهيرة (البواكي) صوّر الحياة اليومية الشعبية للناس في القاهرة, كما رسم البيئة المصرية من الشمال للجنوب بآثارها وجمالياتها الطبيعية, وله مجموعة رائعة من الوجوه والموديل العاري والرسوم التي تسجل اللحظات الوطنية والبطولات في تاريخ مصر والمنطقة العربية, وكانت معظم هذه الرسوم تنشر على صفحات مطبوعات دار أخبار اليوم وخاصة مجلة آخر ساعة.

ولهذا نفذها الفنان على ورق بالألوان المائية أو الجواش, وفي معرضه نكتشف اسكتشات لأصول هذه الرسوم بعضها منفذ بالألوان الزيتية على خشب أو كرتون وقد وقّعها الفنان باسمه باللغة الإنجليزية وهي أعمال كانت تخصه ويعدها لوحات فنية, أما التي يوقعها باسمه وامضائه المميز كنعان باللغة العربية فهي للصحافة وللنشر, ولابد من أن أشير هنا إلى أن عمله في مجال الصحافة وفي دار كبيرة وعريقة كدار أخبار اليوم جعله قادراً على معرفة كل ما يحدث في العالم يوماً بيوم, وخاصة في مجال الفنون الجميلة وإنه - دون شك -اطلع على أحدث الاتجاهات الفنية وتابعها عن طريق عمله, وأنا لا أريد أن أقول هنا إنه قلدها, لأنها قدره وما ميّزه بعد ذلك, ولكنه اكتشف فيها حقيقة ذاته ونوازعه الشخصية وميوله الحقيقية للاكتشاف والتجريب والمقامرة, واعتبر أن مهارته في الرسم الواقعي والتشخيص ما هي إلا مهارة حرفية لأكل العيش والعمل الحياتي وليست هي طريقه في الإبداع والتميّز.

التجريب التجريدي

وهي المرحلة التي بدأت بإرهاصاته التجريدية الأولى منذ عام 1945 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في أوربا وتحرير باريس وانطلاق الحركة التجريدية التي وصلت نيويورك في العام نفسه وأطلق عليها هناك (التجريدية التعبيرية) وإن كانت بداياته الحقيقية سيريالية مع مولد السيريالية المصرية المواكبة تماماً مع مولد السيريالية العالمية, ولم يتألق كنعان ويخطو خطوته الأولى الرائدة حقاً إلا في بداية الستينيات عندما نفذ مجموعة الحوائط بضربات عريضة من الفرشاة على مساحات خشبية كبيرة مع تسييل للألوان وتقطيع في المساحات مع خربشات وكأنها حوائط قديمة مهملة لعب فيها الزمن وعبث, ومعظم مجموعة الحوائط منفذة باللون الأبيض والبالتة الباردة, وبعد هزيمة عام 1967 وضع بجرأة على كل لوحاته حرف (X) (إكس) رافضاً الهزيمة ومتتالياتها, واستمر معه حرف الإكس هذا بعد ذلك في مجموعة الكولاج الكرتونية وحتى آخر حياته رافضاً كل ما نعانيه من سلبيات في حياتنا .إن أعمال القص واللصق والتي بدأت من السبعينيات تعد قمة أعمال هذا الفنان المتميز غزير الإنتاج, المتفاعل بصدق وحيوية مع متطلبات ذاته في التطور دون عوائق معنوية أو مادية, اعترف بأعماله الآخرون أو لم يعترفوا, اشترى الناس لوحاته هذه, أو لم يشتروا, وهو على كل حال لم يكن يرغب في أن تباع أعماله, لذلك ظلت تتراكم في مرسمه إلى أن أخرجها ابنه وزوجته الوفية في هذا المعرض الرائع الكبير. لقد قال صلاح جاهين (إن كنعان يعجبني فيه أنه يريد فيفعل ما يريد), وهذا هو الصدق الفني الذي التزم به منير كنعان, فنان من مصر, ولكنه عالمي اعترف به الغرب أم لم يعترف, يكفيه اعترافنا به وحبّنا لشخصه ولإبداعه وتقديرنا لتاريخه الفني).

 

عصمت داوستاشي

 
 




كنعان يحمل أحد أعماله





كولاج وتصوير.. مرحلة التقاطعات





تجريد إيقاعي (ورق قص ولصق) 1978





فضائيات (كرتون قص ولصق) 1990





الرقص الشعبي في لوحات (مصر في عيون كنعان)





من النوبة القديمة - 1956





من أعماله القديمة





لوحة كولاج من المرحلة الثالثة





لوحة تجريدية بعنوان (فضائيات) 1989