الكويت .. كلمات عن زمَن النّكبَة

عرض: د. محمد المنسي قنديل

"صباح الخير يا وطني.." كانت هذه تحية الكاتب في مطلع كل يوم. ولكن الوطن كان غائبا. تحولت الصباحات الدافئة ويقظة الشمس على الخليج. ودبيب الحياة في أرجاء مدينة الكويت إلى صور محاصرة وذكريات مخنوقة..

          أيام عصيبة كان الوطن يعيشها خلف أسلاك الغزو. وجنود الاحتلال يحاولون محو خريطته وتبديل أسمائه. ولم يكن الكاتب يملك إلا الكلمات يحاول أن يرسم بها خريطة بديلة بكل ما فيها من ناس وما لها من شرعية. من هذه الكلمات جاء كتاب د. محمد الرميحي الجديد "الكويت.. كلمات عن زمن النكبة..". كتابا استثنائيا في ظروف استثنائية. شهادات يومية صارخة لكل أيام المحنة من الأسبوع الأول للغزو، وحتى الأسبوع الأخير للتحرير. كانت هذه هي الافتتاحيات اليومية لجريدة القبس الدولي ثم لجريدة صوت الكويت من بعدها اللتين قُدِرُّ لهما أن تنطقا بصوت الكويت في الوقت الذي حاول فيه جنود صدام حسين كتم أنفاسه حتى يتعود العالم على الأمر الواقع ويصدق أكذوبة أنه لا وجود للكويت.

          كانت الكويت موجودة رغما عن أنف صدام حسين. وكان الوطن ماثلا للأعين في كل لحظة حتى وهو بعيد. إنه وطن له رائحة معينة. وطعم خاص لم ينسه الكاتب أبدا. "الوطن كما عاشه أجدادنا ليس فقراً وغنى. وليس مناطق تختزن الماء أو النفط، ومناطق قاحلة دون مياه أو نفط. إنه التاريخ والتراث والتواصل مع آباء عاشوا فوق تلك البقعة من الأرض. وأجداد قاتلوا فوقها، وفوقها أنجبوا أطفالهم ونسجوا أحلامهم. وعلى شواطئها بنوا مرافئهم وفي بحارها غاصوا وواجهوا المشقات بحثا عن رزق يختطفونه من بين فكي الموت والردى والمنية".

لا وقت للبكاء

          منذ اللحظة الأولى. وبعد تسعة أيام فقط من الغزو تولى د. محمد الرميحي مسئولية جريدة القبس الدولية، وكانت أولى كلماته " ليس الوقت وقت حسرة وندم. الوقت وقت مقاومة شرعها الله وشرعها القانون الدولي وكل القيم الشريفة في العالم. الشعب من حقه أن يقاوم القوات المغتصبة بكل السبل التي تتوافر له. وهكذا يفعل شعب الكويت".

          لقد أفاق سريعاً من صدمة الغزو الأولى، وبدأ رحلة التغلب على الألم من أجل استشراف يوم الخلاص. وأدرك أن الكلمة هنا لها أهمية السلاح في إدارة مثل هذا الصراع. وهكذا تم أيضا طرح خيار المقاومة واستبعاد خيار الاستسلام حتى في أشد الأيام التي علت فيها غطرسة الاحتلال العراقي إلى أقصى مداها.

          وأهمية الكتاب بكل ما فيه من مواقف وقضايا أنه كان دائما يضع الأمور في موضعها الصحيح. فلم يقع في التاريخ حادث أثار كل هذه البلبلة وأحدث هذا الشرخ في الجسد العربي مثل غزو الكويت. لقد تداخلت الشعارات. وطرحت كلمات الحق التي يراد بها باطل، وانقسم المثقفون، ووقع رجل الشارع البسيط بين شقي الرحى. وكانت كلمات الكاتب واضحة ومحددة منذ البداية. " الأصل هو غزو الكويت. القضية هي غزو واحتلال. وما يتلوه هو حق الشعب في الكويت أن يتعامل مع هذا الغزو بكل الطرق والأساليب الممكنة وأن يستصرخ ضمير إخوان العرب وكل محبي السلام والعدل في العالم..".

عين على الطاغية

          والدكتور الرميحي وهو يمارس الصحافة اليومية لا تنسيه اندفاعات المهنة ذلك العالم الرابض في أعماقه وأعني به عالم الاجتماع الذي لا يكتفي برصد الظاهرة بقدر ما يهمه أن يبحث عن سببها وعن تطورها الاجتماعي. وإذا كانت إحدى عينيه على الوطن فإن الأخرى كانت على الرجل الذي سبب كل هذه الآلام للوطن. لقد رصد ظاهرة الديكتاتور ممثلة في صدام حسين كنموذج أمثل.

          وهو يبدأ رحلته لدراسة هذه الظاهرة الاجتماعية السياسية قائلا "الدخول إلى عالم الديكتاتور تجربة مرعبة حتى في الروايات. ومع أن روائيين كثيرين خاصة في أمريكا اللاتينية نجحوا في اختراق هذا العالم ليقدموا صورة عن النسيج العنكبوتي لهذا العالم، فإن طاغية بغداد وطاغوتها يجعل الواقع أغنى من أي خيال."

          وعلى طول الشهادات اليوم نلمح رصداً مهماً لهذه الظاهرة وأطوارها المختلفة وكيف صعد الديكتاتور إلى قمة السلطة ثم كيف انقلب على كل الذين ساهموا في صعوده وتحول إلى وحش أكلهم جميعا ثم قاد البلاد كلها إلى حرب غير مبررة مع جارتها التاريخية إيران استمرت ثماني سنوات وعاد بعدها ليتنازل عن كل ما حارب من أجله.

          ثم صراعاته الدموية مع كل الذين خالفوه في الرأي. وهو يرصد حتى ملامحه الشخصية وحركاته من خلال نشرات التليفزيون والأفلام الوثائقية والمراجع المختلفة "ولعل العالم قد لاحظ أن صدام حسين مهووس بنفسه وبطريقة مشيته. وحتى سلامه للجماهير عندما يرفع يده يذكرك بالسلام النازي و"الزعيم" من تصرفاته أيضا أنه لا ينحني. فحتى عندما يقدم له الأطفال الورد عند اللقاءات الدبلوماسية في المطارات لا ينحني "الزعيم" صدام حسين لتقبيلهم وإنما يرفعهم إلى مستواه. "

          وهو معزول عن حركة العالم. وربما كانت هذه العزلة هي أحد الأسباب الرئيسية التي قادت إلى الكارثة، فهو لا يدري بأي منطق يسير. ولا أي نظام يحكمه. غارق في عالم من الذات تضخمه الأوهام "إن صدام حسين افتقد عنصر الارتباط بالزمن. ففي الوقت الذي تغير فيه مزاج العالم كله إلى الحرية والديمقراطية والتعددية وحرية الشعوب في تقرير مصيرها يتحدث هو عن الضم والإلحاق وتحدي قيم وقوانين العالم. وهي تثبت قصور صدام حسين شخصيا عن استيعاب قدرة وقوة الإعلام العالمي. إذ إن هذا الإعلام بعد أن عرض صدام وهو يضم أحد الأطفال إليه والطفل يرتجف من الخوف والهلع انتقل فوراً إلى عرض منظر مروع وهو صورة هتلر وهو يضم أحد الأطفال إليه. وما أشبه الليلة بالبارحة."

           وهكذا. نتيجة لهذه العزلة أصبح هو الوحيد الذي يسعى لحرب يتوقاها الجميع. حرب سوف يدفع ثمنها- أول من يدفع- شعب العراق. ولكن الطاغية لم يكن يأبه بذلك ما دام محتفظاً بكرسيه. لقد وصل- على حد تعبير الكاتب- إلى نهاية النفق في سراديب الفكر الظلامي ولم يعد هناك طريق للعودة.

.. وعين على الوطن

          الحلم باستعادة الوطن لم يكن مجرد استغاثة. ولكنه كان حركة محمومة لسباق الزمن ولإيقاظ ضمير العالم حتى لا يتحول الاحتلال إلى أمر واقع، قامت بها الحكومة الشرعية عبر كل المؤسسات الدولية والدول الصديقة. وقام بها مثقفو الكويت دفاعاً عن إنسانية الوطن وحقه في الاستقلال. ولكن يبقى هم الكاتب الأساسي وحزنه الشديد الوطأة وهو يتتبع أخبار المرابطين. أبناء الوطن الذين ظلوا في الداخل يعانون من شظف الاحتلال ويتحملون فظائعه اليومية وينبتون أول بذور المقاومة والرفض لوجود هذا الاحتلال. يتحدث الرميحي عنهم في فخر وأسى ".. أنا أعرفهم.أعرفهم بأسمائهم ووجوههم وضحكات أطفالهم.جلسنا معاً في فصل واحد.تشاركنا في محاضرات وندوات.سافرنا معاً  تغنينا معاً بآمال المستقبل.حلمنا معاً: حلم العروبة وحلم الكويت.تألمنا معاً وفرحنا معاً. "

           هؤلاء الرفاق البعيدون داخل الوطن المحاصر كانوا يدفعون ثمن صمودهم.ثمن شراسة جنود الاحتلال التي لم يكن لها ما يبررها.فهذا مواطن رفض أن يرفع صورة صدام فأوقفوه أمام بيته ودون أن يعصبوا عينيه قتلوه أمام أهله وجيرانه، وهذا مستشفى مات فيه أحد الجرحى العراقيين فقتلوا من الأطباء والمساعدين اثني عشر واحداً.وهذا قبر جماعي اكتشفت فيه جثث لاثنين وعشرين طفلا ناقصي النمو.وهذه جثث لفتيات اغتصبن قبل الموت، ولفتيان ذاقوا التعذيب جحيما قبل الموت.ولا تتوقف سلسلة البشائع ولا يكف المرابطون عن دفع ثمن صمودهم.ويبلغ الألم مداه بالكاتب وهو يقول معلقا: " صدام لا يقتل صديقي وحده، ولا أطباء الكويت ورجال الكويت ونساء الكويت وحدهم.  إنه يقتل الأمل العربي والفكر العربي والتاريخ العربي، ولأن جريمته بهذا الحجم فإنه عدو كل عربي. ".

           بأي شيء يمكن أن تبرر مثل هذه المواقف. وبأي منطق يأخذ بعض المثقفين العرب بموقف النظام العراقي.لقد صوره البعض بصورة مخلِّص هذه الأمة، فكيف يمكن أن ينهض المخلص من وسط هذا الركام الوحشي وذلك الدمار الذي لم يسبق في التاريخ؟!.يخاطب الرميحي هؤلاء المتثاقفين العرب قائلا: "المتثاقفون العرب عندما يكتبون المدائح لصدام وقوة صدام يقفون في الواقع ضد أنفسهم أولا، ضد ضمائرهم وضد قيمهم وضد الإنسان أينما كان. إنهم لا يختارون فقط الخضوع للقوة ولكن إخضاع الآخرين أيضا.يختارون إلغاء الآخرين وفكر الآخرين.يختارون للثقافة زيا موحداً يختنقون فيه.إنهم يختارون الباطل ولكن بعد أن يخفوه خلف قناع الحق، وجريمتهم هنا مضاعفة بحق أنفسهم وحق الآخرين ".

يوم توحد الشهداء

           إنها أزمة لم تعصف بالكويت فقط. ولكنها عصفت بالخريطة العربية كلها. انقسم العرب على أنفسهم كما لم ينقسموا من قبل. وكان الموقف من قضية الغزو يبلغ أحيانا حدا بالغ الغرابة.

           فالكويت على مدى تاريخها الحديث وهي تدرك أنها دولة تعيش على أطراف العالم العربي كانت تعرف أيضا أن العروبة هي مصيرها، وتؤكد انتماءها إلى هذا المصير في كل لحظة.ورغم صغر حجمها فقد كان لها دورها الفعال في كل القضايا العربية.وعلى أرضها تجمعت كل القوميات العربية في تفاعل خلاق.ورغم ذلك فقد خلفت الأزمة في هذا الجسد الصغير جروحا غائرة. 

           ورغم كل ما أثارته مواقف الأشقاء فإن د.محمد الرميحي يبدو من خلال صفحات الكتاب قابضا على عروبته كالقابض على الجمر.يحاول أن يعلو فوق كل الجراح الآنية، ويفرق في موضوعية بين أطماع الحكام وخديعة الجماهير.لا ينزلق إلى موجة توجيه الاتهامات.ولا يقف عند الأحداث العارضة، ولكنه يستخدم بصيرة عالم الاجتماع كي يخرج رأسه من دوامات الاضطرابات المحمومة التي بلغت حد المأساة.فالكويت عربية.

           والذين يريدون ابتلاعها هم عرب.والذين يؤيدون ابتلاعها هم عرب أيضا.وهو في مواجهة كل هذا يعرض حقائق صاحب الحق بصبر يعجز المرء عن وصفه.ولعل هذا لا يتجلى بقدر ما يتجلى في مناقشته للفلسطينيين الذين كانوا يؤيدون الغزو، ولبيان منظمة التحرير الفلسطينية الذي سار في هذا الاتجاه.وهو يقول معلقا على هذا البيان: " بعض الفلسطينيين يقف الآن ضد كل ما حارب وما حاربنا من أجله طوال هذه السنين.لقد قلت دائما إن ما يقبله الفلسطينيون تجاه قضيتهم نقبله نحن.بعض الفلسطينيين حرمنا حتى من أن يقول لنا نحن مع الكويتيين وما يقبله الكويتيون نحن الفلسطينيين نقبله. "

           ويعود الكاتب بذاكرته إلى عام 1985 عندما وقع اعتداء أثيم على سمو أمير الكويت الشيخ جابر الصباح وقد تدافع أهل الكويت إلى بيته يطمئنون على سلامته.وكان الأمير مستلقيا على سريره المتواضع وهو يتحدث إلى جمع من رجال الصحافة، ولم يتحدث عن الاعتداء الذي كاد يودي بحياته بقدر ما كان مشغولا على اقتتال الإخوة الفلسطينيين في بيروت.ذلك الاقتتال الذي يسفك فيه العربي دم أخيه العربي.

           هذه الرؤية الناضجة التي طالما تبناها النظام في الكويت لقضية العرب المصيرية لم تهن منها الأحداث الأخيرة.وموقف بعض الفلسطينيين يجب ألا ينسحب أبداً على كل الفلسطينيين.

           وترتفع درجة الألم وسط أحداث الغزو بينما تعد الحكومة الشرعية العدة لعقد أول مؤتمر شعبي كويتي في الطائف ترتكب إسرائيل جريمة مذبحة الأقصى وتتناثر جثث الفلسطينيين في مدينة القدس وبجوار مسجدها.ويحس الكاتب بالتوحد في عمق المأساة وهو يصرخ في إحدى الافتتاحيات "يا أبناء فلسطين.يا إخوتنا في الفجيعة وفي المحنة وفي المجزرة.يصفكم شارون بأنكم متخلفون يريدكم في مستوى إنساني متدنٍ كي يبرر قتلكم واستباحتكم وطردكم.ويصفنا صدام بأننا أمثالكم دون تراث أو حضارة أو تاريخ ليبرر اقتلاعنا واستباحتنا وسبينا.شارون العربي لن يقف بيننا.ولن يمنعنا من عناق شهدائكم فهم شهداؤنا لأن العدو واحد والبصمات واحدة وتحرير فلسطين يبدأ من تحرير الكويت ".

جراح الحرب

           كانت طبول الحرب تدوي.والمنطقة كلها تنزلق نحو مزيد من الدمار.وصدام وحده هو الذي لا يرى نذر العاصفة.كانت الحرب والتضحية بأرواح شعبه هي الخيار السهل أمامه.أما بقية العالم فقد كان يعاني من نفس درجة الحيرة التي كانت تعصف في نفس الكاتب.بل إن وقعها عليه كعربي ومسلم كان أشد مرارة.ورغم فرحته باقتراب يوم التحرير والخلاص فإن الرميحي يكتب بعد أول موجة من موجات القصف "اللهم لا شماتة.فما يجرى في عروقنا دم عربي.ودم العربي على العربي حرام.واللهم لا شماتة.فما يجري في عروقنا دم مسلم.ودم المسلم على المسلم حرام.ولكن طاغية بغداد قلب القيم والمقاييس، وكاد يجعل من الشقيق خصما ومن الأخ عدوا ومن الجار غازيا غادراً شريراً.وكما حول شعبه إلى قطيع يساق إلى الذبح في مسالخ الحروب العبثية، أراد أن يحشرنا في المسلخ ذاته وأن يضحي بنا جميعا- كويتيين وعراقيين وعرباً آخرين - لبناء مجده المزيف وتجسيد هوسه المريض وتحقيق حلمه المجنون ".

           انتهت الحرب عندما بدأت.وكانت النهاية محتومة وسيق الشعب العراقي إلى حرب مكشوفة.ويستعرض الكاتب أغرب عبارة وردت في بيان مجلس الثورة العراقي الذي أعلن في النهاية أن العراق مستعد للانسحاب وخضوعه للقوانين الدولية و "كأن شيئا لم يكن".تستفز هذه العبارة مشاعر الكاتب.فالبيان يحاول أن يتنصل من كل ما حدث من دمار وخراب واغتصاب وقتل واقتلاع.كأن الطاغية يريد للعالم أن ينسى مدى بشاعة الفعل الذي ارتكبه وأن يهرب من العقاب الذي يستحقه.إن الكاتب وهو يتطلع إلى المستقبل يشخص الداء ويصف الدواء قائلا: "إن تحرير الكويت هو أبرز علامات العافية في الجسد العربي.ولكن هذه العافية لن تكتمل قبل استئصال صدام حسين ونظامه ".

           سوف يبقى هذا الكتاب علامة مهمة يرجع إليها كل من يحاول أن يؤرخ لهذه المرحلة الحرجة من التاريخ العربي.سوف يضع يده على نبض الأحداث اليومية لهذه الأزمة، سوف يدرك مدى ما كان فيها من قسوة، وسوف يرى أن المؤلف كان واحداً من الذين استشرفوا المستقبل ورأوا يوم الخلاص قادما رغم ظلام المحنة






غلاف الكتاب