هل نتقدم إلى الخلف?.. د. سليمان إبراهيم العسكري سليمان إبراهيم العسكري

هل نتقدم إلى الخلف?.. د. سليمان إبراهيم العسكري

هناك إدانة - على نطاق واسع - في أوساط المثقفين العرب, لآلية النقل من الماضي, لأنها تقطع الطريق على كل اجتهاد يوائم ما بين الحاضر ومكتسباته والماضي ومعطياته.

لكن إدانة النقل من الحاضر , المنتمي لثقافات تهيمن - أو تريد أن تهيمن - على الثقافات المستضعفة في عالم اليوم, ومنها ثقافتنا العربية الإسلامية, لم تحظ إلا بأقل القليل من محاولات النقد أو حتى إعمال التفكير فيها. ومن هذه المحاولات القليلة, بل النادرة هذه الأيام, مداخلة ذكية لمفكر عربي, نرى أنها جديرة بالاهتمام والتمعن فيها.

  • تسرّبت فكرة (التقدم) و(التأخر) إلينا بطريقة جعلتنا, بالرغم من نقائصها, نشك في أننا أقل من أمم أخرى, وننطوي على عيوب ومثالب لا علاج لها
  • تحكيم معايير القوة العسكرية والتقنية والاقتصادية لبعض الأمم لا يقطع بأنها تتقدم روحيًا وثقافيًا على أمم أخرى أقل منها قوة في زمن معين
  • ظهرت تحذيرات من أخطار التنمية الاقتصادية السريعة على البيئة والأنواع, ولم تظهر في المقابل تحذيرات من تعرض ثقافات الدول الفقيرة للتلوث أو الانقراض
  • في (حقوق الإنسان) لابد من مراعاة الفروقات الثقافية والدينية للمجتمعات عند التطبيق, فما ينطبق منه لدى ثقافة معينة ليس بالضرورة قابلاً للتطبيق لدى ثقافة أخرى مختلفة

د. جلال أمين, أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة حاليًا, مثقف عربي من طراز خاص وتكمن خصوصيته في روحه المتمردة - بالمعنى الثقافي - على المسلمات, أو الأمور التي يريد لها البعض أن تكون مسلمات. وهو بهذه الروح يدخل في مناطق مجهولة, ويدهش بأفكار لامعة, لا نجزم بصوابها أو مجانبتها الصواب, لكننا نقطع بجدية هذه الأفكار وجدتها في الوقت ذاته. وهو في هذا الشأن, مع نفر قليل من الكتّاب والمفكرين العرب المعاصرين, يقوم بدور مهم في تحريك الراكد وإيقاظ النائم, وهو دور جليل وخطير, في زمن عربي حرج يتطلب نبذ الركود حيثما كان, وفي أي من مناشط حياتنا العربية, وإيقاظ النيام عن متغيرات فادحة تحدث في عالمنا العربي اليوم, خاصة في المجال الثقافي. وبالرغم من كون جلال أمين أستاذًا مرموقًا في علم الاقتصاد, فإنه لم يقولب عقله فيما تتقولب فيه عقول كثيرين من الاقتصاديين العرب وغير العرب, بل يعبر أرقام وإحصاءات ومنحنيات الاقتصاد بعين كاشفة ليرى الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتراءى له وراء ذلك كله. لقد جاء أحدث كتبه بعنوان واضح الدلالة وهو (خرافة التقدم والتأخر) لكن وضوح الدلالة لا يغني عن الغوص في صلب الكتاب الذي هو - شأن كل كتبه وكتاباته - مسرح فكري لأداء سهل ممتنع, يختلط فيه العلم بالفن, والتمرد بالحكمة!

نحن وهم

الكتاب منذ البداية يعمد إلى هز مسلمة بدت راسخة في أذهان كثيرين, وهي فكرة (التقدم) ونقيضها (التأخر), فيقول (من أين تسرّبت إلينا هذه الفكرة! فكرة التقدم والتأخر, فتشربت بها عقولنا إلى هذه الدرجة, ولم يعد يخامرنا أدنى شك في أنهم (متقدمون) ونحن (متأخرون), ليس في هذا الشيء أو في ذلك الميدان بعينه, ولكن (بصفة عامة), حتى بدأنا نتساءل, خفية أو صراحة, عما إذا كان فينا عيب متأصل, أو نقائض تمنعنا أصلاً من التقدم مثلهم. عيوب أو نقائض تعود إما إلى لون البشرة أو نوع الجينات, أو طبيعة اللغة, أو المناخ وحتميات الجغرافيا, أو أشياء سحيقة حدثت في التاريخ نتيجة لتفاعل كل هذه العوامل مجتمعة?? كيف تسربت إلى عقولنا هذه الخرافة, خرافة التقدم أو التأخر?).

من هذه البداية يتضح لنا أن الكاتب بصدد البحث في المصطلح من زاوية علاقة (الأنا) العربي بالآخر الغربي. وهو يطرح ذلك في تساؤل يلي التساؤل الأول وإن في موضوع آخر: (أين العلاقة بين كون أمتك أقوى من أمتي عسكريًا, أو أكثر رخاءً أو أكثر تقدمًا في العلم والتكنولوجيا, وبين ما إذا كان دينك أقرب إلى الحقيقة من ديني? لغتك أرقى من لغتي? أدبك في عصر ازدهاره أجمل أو أقل جمالاً من أدبي في عصر ازدهاره? موسيقاك أقدر على تحريك المشاعر أم موسيقاي? شعبك أخف دمًا أم أثقل ظلاً من شعبي? أسرع بديهة أو أكثر فصاحة? معاملتك للمرأة أكثر إنسانية أم معاملتي لها? حبك للأطفال أقوى أم أضعف من حبي لهم? ما العلاقة بين القوة العسكرية أو الرخاء المادي أو التقدم العلمي أو التكنولوجي بما إذا كنت أسرع إلى الصفح مني? أكثر أم أقل استعدادًا للعفو عند المقدرة? أو أقدر أم أقل قدرة على ضبط النفس عند الغضب?).

وبالرغم من أن صيغة التساؤل توحي بطلب الحوار, فإنها بمضمون ما تتساءل عنه, تحتشد بكثير من الاستنكار لتحكيم معيار القوة العسكرية, أو الاقتصادية, أو التقنية, في الحكم على قضايا روحية ونفسية وثقافية لا يعقل أن تخضع لمنطق القوة المادية وأدواتها من أسلحة وأرصدة ومنتجات واستهلاك مادي, فهذه كلها لا يمكن أن تكون معيارًا لمقاييس الروح والنفس والعلاقات الثقافية داخل أي مجتمع, بل هي لا تصلح كمعيار لقياس السعادة والتعاسة في أي مجتمع بشري, وليس ببعيد عنا مثال أن أكثر معدلات الانتحار في العالم ليست في دول الجنوب الفقيرة أو المنعوتة بأنها دول متخلفة, بل إن أكبر معدل للانتحار يحدث في أكثر دول الشمال تقدمًا ورخاءً - من حيث المدنيّة ومتوسط دخل الفرد والضمان الصحي والاجتماعي.

حقول تجارب فاشلة

يمسك الكاتب في كتابه بتلابيب مفهوم التنمية كما طرح علينا من خارج إطارنا الثقافي, فيقول: (لم يخطر ببال كُتَّاب التنمية في ذلك الوقت, ولا نحن جرؤنا على لفت نظرهم إلى أن الخصائص العكسية قد تكون بلغت عندهم حدًا لم تعد معها أفضل من خصائصنا التي لا تعجبهم. فالمبالغة في قدرة الإنسان على السيطرة على مصيره قد يترتب عليها من النتائج, ما هو أسوأ من المبالغة في التقليل من دوره.

والإعجاب بالجديد لأنه جديد قد لا يكون أفضل من التمسك بالقديم لمجرد أنه قديم. وتحرير المرأة قد يصل إلى حد تحريرها من الروابط العائلية نفسها مما قد يقلل من رفاهية الجميع بمن فيهم المرأة نفسها, والإفراط في الفردية قد لا يكون أفضل من الإفراط في الارتباط بالأقارب البعيدين..).

وفي مراجعة تاريخية للمفهوم, يحدد: (في عقدي الخمسينيات والستينيات كانت من أكثر نظريات التنمية شيوعًا نظرية روستو (W.Rostow) في مراحل النمو الاقتصادي, التي قالت إن أي دولة يمكن تصنيفها إلى مرحلة أو أخرى من مراحل خمس, وأنه من الممكن ترتيب الدول بعضها فوق بعض بحسب مدى تقدمها في السير من مرحلة متأخرة إلى مرحلة متقدمة. والهدف النهائي هو بالطبع الوصول إلى ما وصلت إليه الولايات المتحدة, وهي مرحلة الاستهلاك الجماهيري العالي (Mass High Consumption), والتي تعتبر أهم سماتها شيوع استهلاك السلع المعمرة كالسيارة والثلاجة والمكنسة الكهربائية, انهمكنا نحن طلاب التنمية الاقتصادية في ذلك الوقت في محاولة تحديد إلى أي مرحلة من مراحل روستو تنتسب هذه الدولة أو تلك, وهل معدل الاستثمار الذي تتطلبه معادلة روستو للانتقال من مرحلة متخلفة إلى مرحلة أعلى, هو المعدل الصافي أم الإجمالي, ولم نلاحظ وقتها أن كتاب روستو كله لم يحتو على كلمة واحدة عن السمات الثقافية للأمة, وما يمكن أن يحدث لها نتيجة الانتقال من مرحلة من المراحل الخمس إلى مرحلة أخرى...).

وتستمر المراجعة التاريخية التشريحية للمفهوم الذي لا تلبث صيغته القديمة أن تتداعى أمام صيغة جديدة, فمنذ نهاية الستينيات وطوال السبعينيات انتشرت أفكار مدارس جديدة في التنمية هي المدرسة الرافضة للتبعية (Dependency) والمنادية بفك الارتباط (Delinking) مع الغرب, وبالتنمية المعتمدة على النفس (Self reliance). ولكن الملاحظ أن رفض التبعية من جانب الغالبية العظمى من هؤلاء الكتّاب كان منصبًا على التبعية الاقتصادية, ولم تحظ التبعية الثقافية باهتمام يذكر من جانبهم. وربما كان تفسير ذلك أن قادة هذه المدرسة كانوا من أمريكا اللاتينية, ومن ثم هم ينتسبون في الأساس إلى الثقافة الغربية نفسها, لغة ودينًا وقيمًا أخلاقية وسلوكية, إلى حد ما.

ونادرًا جدًا ما وجدنا في هذه الكتابات أي إشارة إلى أن الإنسان له حاجات ثقافية أيضًا إلى جانب حاجاته المادية, وأن الثقافة الوطنية تحتاج إلى حماية مثلما يحتاج الإنسان إلى الغذاء الكافي والكساء والمأوى الملائمين. وظهر في السبعينيات أيضًا من عبّروا عن قلقهم من تدهور البيئة, ومن أن التنمية الاقتصادية السريعة قد تهدد البيئة المادية بالتلوث كما تهدد بعض الكائنات الحية من الحيوان والنبات بخطر الانقراض, ولكن قلما كنت تجد أحدًا يعبر عن قلقه من الخطر الذي يهدد ثقافات الدول الفقيرة بالتلوث, ويهدد بعض هذه الثقافات بالانقراض.

النقائص والعواقب

أمام ظاهرة انهيار الصياغات في طرح مفهوم التنمية, ينمو الشك الداعي إلى التساؤل: أين كنا سائرين إذن ونحن على خطى المفهوم السابق? ألم نكن نسعى إلى (التقدم) الذي حددوه لنا من خارج ثقافتنا وخصوصيتنا? هل كان ذلك تقدمًا إلى الخلف? ومن يجزم لنا في أن الدرب الجديد الذي تحدده الصيغة المستجدة لمفهوم التنمية ليس قابلا للتداعي مثل سابقه? هل نحن حقول تجارب للنظريات الوافدة, التي ثبت أنها لم تلتفت لأطرنا الثقافية وإرثنا الروحي? إنه تساؤل مشروع يفضي إلى شكوك واجبة الطرح, خاصة عندما نرى ونراجع ما انتهت إليه النظرة الجائرة لثقافتنا التي لا توصف الآن في الغرب - على الأقل في أجهزة الإعلام - لا بالتأخر أو بالتخلف, بل (بالإرهاب) ولم يعد المطلوب هو الارتقاء بهذه الثقافة, بحيث تتكيف مع متطلبات التنمية الاقتصادية, على أساس أن هذه هي طريقة التعامل المناسبة مع (التخلف), بل يبدو أن المطلوب الآن - من قبل بعض الدوائر المتعصبة في الغرب - هو استئصال هذه الثقافة من جذورها, على أساس أن هذه هي طريقة التعامل المناسبة مع (الإرهاب).. هكذا! وهو موقف جائر لا يبرره صدور أصوات نشاز متعصبة تنتمي إلى ثقافتنا, ولا يبرره ارتكاب بعض المحسوبين على ثقافتنا, وخاصة الإسلامية لأحداث عنف جسيمة وشاذة نستنكرها بشدة ونطالب قوى المجتمع كافة, حكومية وأهلية بمكافحتها بلا هوادة, وعزلها عن ثقافتنا التي ندافع عنها ونطالب بحمايتها من المتعصب الغربي وحاملي راية التعصب التكفيري في الجانب الإسلامي.

ولو تغاضينا نظريًا من زاوية اقتصادية بحتة لنتائج (تجارب) التنمية وفقًا للحدود التي رسمها لنا الآخرون لوجدنا أنه (بعد أربعين عامًا من هذه التنمية الاقتصادية النشطة بفترات صعودها وهبوطها, بنجاحاتها وفشلها, كانت الصورة العامة- كما كان لابد أن نتوقع - بائسة تمامًا من الناحية الثقافية والحضارية, وهي ما يمكن وصفه بالمسخ الذي يجمع بين هويتين أو شخصيتين, ويتسم بالقبح الشديد, فضلاً عن فقدانه أي شخصية, ومن ثم عجزه عن أن يقدم أي مساهمة متميزة للثقافة الإنسانية, إذ انشغل سياسيو ومثقفو وفنانو أمم العالم الفقيرة بتقليد وتكرار ما يفعله سياسيو الغرب ومثقفوه وفنانوه. وعندما شرع الاقتصاديون عندنا وعندهم في تقديم كشف الحساب عن المكاسب وخسائر هذه الأعوام الأربعين (1950 - 1990) لم يُضمِّنوا كشفهم بندًا يتعلق بالثقافة والحضارة, بل اقتصروا فقط على البنود الاقتصادية, كمتوسط الدخل, ومعدلات الادخار والاستثمار, ودرجة التصنيع, ومدى تدفق الاستثمارات الأجنبية... إلخ, وهكذا نفكر في التنمية إلى يومنا هذا! بل ولم يتناولوا حتى أثر التغيرات الثقافية والسلوكية في المتغيرات الاقتصادية, بينما كان من الممكن جدًا أن يكتشفوا أن كثيرًا من أوجه الفشل الاقتصادي قد يكون راجعًا إلى تغير في أنماط السلوك والقيم والأخلاق والحياة الثقافية بوجه عام. ومن ثم كان لابد من تغيير الصياغة, وخضوع حقل التجارب الذي هو نحن, للمعايير الجديدة الوافدة أيضًا, والواردة بتسمية جديدة, يشير إليها الكاتب بجرأة ويسميها بوضوح: (التنمية البشرية), ويقول إن خطورتها تكمن في الإيحاء بأننا نتكلم عن مختلف جوانب الحياة الإنسانية ورفاهيتها, وهذا - بالطبع - غير صحيح.

ويعطي الكاتب مثالاً صارخًا بمعلومة شائعة تم الترويج لها حتى باتت بديهية لدى كثير من المتحدثين العرب أنفسهم عن التنمية, وهي مقارنة الناتج القومي الإجمالي للدول العربية مجتمعة, بالناتج القومي الإجمالي لإسبانيا, والقول بإن مجموع الناتج القومي لاثنتين وعشرين دولة عربية هو أقل من الناتج القومي الإجمالي لدولة واحدة هي إسبانيا, وهنا يرى جلال أمين أن ذلك المثال لا ينطوي إلا على محاولة إذلال وإهانة للعرب (وتقديم سلاح جديد ليستخدمه أعداؤهم للإمعان في إهانتهم وإذلالهم, وهذا هو ما حدث بالفعل, إذ لم يفت أي شخص من المهتمين بالتشهير بالعرب في الغرب - وفي بلادنا على السواء- استخدام هذه المقارنة. وكان اختيار إسبانيا بالذات, لأنها دولة لا تقترن في الذهن بالتقدم الاقتصادي الباهر, ومن ثم فتفوقها على الدول العربية مجتمعة, لابد أن ينطوي على إذلال أكبر للعرب). وفي لمحة ذكية ومضادة لهذا المثال يقول جلال أمين: (ولكن هذا الانطباع المهين ينطوي أيضًا على قدر كبير من التضليل, فكثرة عدد الدول العربية يستخدم هنا للإيحاء بالعجز بالرغم من الكثرة, مع أن سبعًا من هذه الدول العربية يقل عدد سكانها مجتمعة عن نصف عدد سكان إسبانيا, فضلا عن مدى توافر مصادر الدخل والغنى , وزيادة الناتج القومي الإسباني على الناتج القومي للعرب تستخدم للإيحاء بالقوة والبأس من ناحية إسبانيا, والفشل والضعف من ناحية العرب, مع أن زيادة طفيفة في سعر النفط, يمكن أن تجعل هذه المقارنة لمصلحة العرب! والعبارة توحي على أي حال بأن هناك شيئًا شاذًا في العرب جعل دولة واحدة كإسبانيا تتفوق عليهم جميعًا, مع أن المقولة نفسها تنطبق أيضًا, وبدرجة أشد درامية, على دولة كالهند, إذ إن الناتج القومي لإسبانيا, التي لا يزيد عدد سكانها على أربعين مليونًا يزيد على الناتج القومي للهند التي يبلغ عدد سكانها خمسا وعشرين مرة قدر سكان إسبانيا. ولكن من حسن حظ الهند أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ليس مشغولاً في هذه الأيام بالتشهير بالهند! بل يفضل التركيز على العرب).

حقوق الإنسان, وإبعاد الروح

بتمهيد مقنع ينتقل تمرد الكاتب إلى مفهوم شائع وافد أيضًا هو (حقوق الإنسان), ويقول: لابد أن نتوقع أن تختلف المجتمعات الإنسانية والثقافات الإنسانية فيما بينها اختلافًا شاسعًا, حول ما نعتبره وما لا نعتبره من (حقوق الإنسان). نعم من السهل أن نتفق جميعًا على ما يعتبر حاجات إنسانية وما لا يعتبر كذلك, ولكن لا يمكن أن نتوقع أن تعترف كل المجتمعات, على مر العصور, ومع اختلاف ظروفها الجغرافية والتاريخية والاقتصادية, ومع اختلاف درجة نموها الاقتصادي وتطورها الاجتماعي والخلقي, ومع اختلاف ما تدين به من أديان ومذاهب وعقائد, بالحقوق نفسها لأفرادها, وأن تشترك فيما تعتبره من حقوق الإنسان وما لا تعتبره كذلك.

وفي مثال تطبيقي على ما سلف, فإن الأسرة العربية تعتبر أنه من حقوق الابن أو البنت أن توفر لهما الأسرة ضرورات الحياة حتى يتم الابن تعليمه والبنت تتزوج وتنتقل إلى بيت الزوجية, وتعتبر هذا الحق من قبيل المسلمات, أي من قبيل (حقوق الإنسان) التي يكتسبها المرء بحكم صغر سنه, بينما قد تجد الأسرة الأمريكية أو البريطانية أن قيام الأب والأم بالإنفاق على الابن والبنت بعد سن مبكرة نسبيًا من قبيل التفضل والمبالغة في الكرم مادام الابن أو البنت قد أصبحا قادرين على كسب الدخل بطريق أو بآخر حتى قبل إتمام الولد لتعليمه, أو انتقال البنت إلى بيت الزوجية, والأسرة العربية - ومثلها الإفريقية والآسيوية - قد تعتبر أن لكبار السن حقوقًا تشمل استمرار إقامتهم مع ذويهم, مهما زادت أعباء خدمتهم, ولكن لا تعتبر الأسرة الأمريكية أو الأوربية ذلك من قبيل (حقوق الإنسان).

وللأسباب السالفة يرى جلال أمين أن (شعار) الدفاع عن حقوق الإنسان الذي يتردد الآن بكثرة, كثيرًا ما يكون بمنزلة قولة حق يراد بها باطل, والمؤكد أن استخدامه في هذه الأيام كثيرًا ما يكون قائمًا على خطأ كبير, حتى إذا افترضنا حسن النية, فمفهوم حقوق الإنسان لابد أن يختلف من ثقافة إلى أخرى, ولا يجوز أن يكون الشرطي المسئول عن حماية احترام حقوق الإنسان هو من أصحاب ثقافة بعينها دون غيرها, وإلا كيف نفهم تطبيق شعار حقوق الإنسان في أوربا وأمريكا, وتطبيقه في إفريقيا وآسيا من قبل شرطي الثقافة التي تحاول الهيمنة على غيرها?

الروح والأخلاق

وفي مضمار كشف نقائص مفهومي التقدم والتخلف الوافدين, ينتقل الكاتب إلى نقطة افتراق مركزية تدور حول قضية الدين والأخلاق, فيقول: إن الظن بأن (تحرير) الأخلاق من الولاء لدين معين أو ثقافة بعينها ينطوي على خطوة (أرقى) أو أكثر سموًا, فأعتقد أنه يتضمن خطأ كبيرًا. وقديمًا قيل إن (المفتاح المزيف يفتح جميع الأبواب), وهذا القول يمكن أن ينطبق على موضوعنا الآن, بمعنى أن الزعم بأن شخصًا ما ينتمي إلى الإنسانية جمعاء دون أن يشعر بالولاء لأي ثقافة أو دين أو ملة بعينها, قد لا يعني أكثر من أنه شخص لا يحمل أي انتماء أو ولاء من أي نوع ولأي شيء.

علاج التعصب ليس بإضعاف الولاء, بل بإشاعة روح التعقّل والحكمة في حمل هذا الولاء وفي التعبير عنه, بحيث لا يتحول الولاء إلى كراهية للغير, وتقوية الحس الأخلاقي تكون بترسيخ ولاء المرء لدينه وثقافته دون اعتداء على حق أصحاب أي دين آخر أو ثقافة أخرى, وحقهم في التعبير عن ولائهم لدينهم وثقافاتهم. وليس هذا بالمطلب المستحيل أو العسير, وقد عرفنا في أكثر من مكان في عالمنا العربي مثل هذا المناخ من الولاء للعقيدة والثقافة والوطن المصحوب بالتعقل والتسامح, قبل أن تنتشر الموجة الحالية من التعصب البعيد عن التسامح, التي لا نرضاها لنا ولا لغيرنا, لكننا في الوقت نفسه لا نبرئ بعض أسبابها من القهر المستمر الذي يمارسه الآخرون, في بعض الدوائر الغربية, بل في أغلبها, والمتمثل في الظلم الواضح والفادح بالتحيز للجانب الإسرائيلي ضد الفلسطينيين الذين تغتصب أبسط حقوقهم الإنسانية يوميًا, وعلى مسمع ومرأى من العالم (المتقدم)! وليس القهر المادي باغتصاب الحقوق والأرض هو الوجه الوحيد للقهر الوافد, فقهر المفاهيم التي لا تراعي خصوصية ثقافية وروحية هو وجه آخر من وجوه القهر.

إن (خرافة التقدم والتأخر) محاولة نقد شجاعة لمفكر عربي يكفيه شرف المحاولة, وهي محاولة ووجهة نظر تستحق كثيرًا المتابعة والنقد ووضعها على طاولة الحوار الثقافي العربي لمزيد من التبلور, ولمراجعة الكثير من المسلمات والأفكار التي تبنيناها وبدأ الزمن يتخطاها.

 

سليمان إبراهيم العسكري