ومازالوا يغادرون .. !

ومازالوا يغادرون .. !

قبل أن تستيقظ حواسي بالكامل يبدأ يومي برائحة القهوة تصل إلى أنفي الغافي فتنبهه.. ويصل إلى مسمعي حفيف خفيه فوق البلاط يجر قدميه, اعتاد ألا يحمل نفسه عناء رفعهما, ثم تهل رائحة دخان مكتومة تأتيني خفيفة من خلال فتحة الباب الموارب.. تلك طقوس ونيس عمري الصباحية.

أفتح عيني المثقلتين بالنعاس على خصلة من ضياء الشمس تشق عنفوان الستارة السميكة وتتسلل رقيقة مستقيمة حتى حافة السرير تفضح حبات الغبار المتراقصة أمامها.

ارحمني يا الله من تلك الجلبة المبكرة أنا التي أعشق المكوث في حضن السرير الدافئ تزورني خيالات أطياف أحبتي. لا أذكر تفاصيلها لكنها تسعدني.

منذ ثلاثين عاما يغزو صباحي بوقع خطاه وآثار إدمانه الأزلي على ارتشاف القهوة وامتصاص دخان لفافة قبل أن تعلن الساعة السادسة صباحا, مهما طال السهر, يعقبها صفير متقطع يداعب به عصافير الحب تلك التي تحتل موقعها في الصالة وتستجيب له.

ونيس عمري يحمل في صدره ألف علة.. وعليه فالقهوة ممنوعة والدخان.. وكذلك العصافير بزغبها المؤذي الذي يزيد من الحساسية التي يعانيها. ولكن ـ "الأعمار بيد الله" ـ هكذا يصدني كلما فتحت أمامه موشح النصائح الطبية, ويزيد "ما طعم الحياة دون رشفة مرار تعيننا على الذي أمر منها"؟!

منزلنا الكبير بحجراته القديمة المرتفعة الأسقف كان يضيق بنا يوما حين كان الصغار يملأون أسرته ويتبرمون ضيقا كلما اضطروا لانتظار دورهم أمام باب الحمام,والقياس الأكبر لأوعية الطهي كان يناسبنا.

الغرف الكبيرة المسكونة بالصمت الموحش صارت تفتح كل شهر مرة للتنظيف, حتى غرفة الطعام صرنا نؤجل الأكل فيها إلى أيام المناسبات, لأن الصدى يرجع فيها حين نتحدث, هكذا خيل لنا, أو أننا خفنا منظر الكراسي الفارغة من أصحابها, صارت تنقلاتنا محصورة بين غرفة نومنا الصغيرة وصالة الجلوس الودود بنباتاتها وعصافيرها.

لم يبق الصغار صغارا, كبروا, درسوا, أحبوا, تزوجوا.. سافروا وغادرونا. غادرنا الجميع ولم يبق من آثارهم سوى وسائد فارغة, وهاتف يرن أيام الأعياد وأول كل شهر, هذا يحدثنا من فنزويلا وتلك من أمريكا ومن الكويت والصغير استقطبته فرنسا, كأن عائلتنا مكوك انفجر ليتناثر في دول العالم المختلفة. استهوتهم أحلام شدتهم إلى تيار البعد.

خفنا الوحدة فأكثرنا من الإنجاب.. تسخر منا الأيام. فقد عدنا كما بدأنا اثنين يحملان هموم المجموعة, وألم الشوق, مضافة إليهما وحشة الوحدة.

ونيس عمري وأنا تلمنا الليالي في حديث الذكريات عنهم. فإن ضربنا صفحا عن الماضي تحدثنا عن شهوة لقائهم, متسائلين عن موعد الإجازة. وعندما تفر من عيني دمعة شوق يمسحها بيد أرعشها الكبر والوجد قائلا "افرحي لأنهم بخير حال".

قوارير الأدوية بجانب السرير على الطرف الأيمن تخص ونيس عمري وتلك التي بالطرف الأيسر لي, يذكرني بتوقيت الجرعات, وأحثه كي لا ينسى خاصته.

البارحة كان الإعياء يأخذ مني بقايا النشاط المناسب لمن هن في عمري. ناولني الحبوب المسكنة وكأس الماء, نمت مبكرة عن موعد الإبكار المعتاد. مازال هذا الدواء يسكن الطنين في رأسي, لكنه يخفف آلام "القولون" ورغم بقايا الطنين المزعج تنبهت إلى تأخر الوقت فشعاع الضوء وصل الحائط المقابل, أي أنه مر فوق السرير منذ فترة ولكن لِمَ لم توقظني رائحة القهوة.. بل أني لم أسمع حفيف الخفين, حتى العصافير صامتة هذا الصباح.. فتحت عيني أفزعهما الصمت الموحش, إلى جنبي ونيس عمري يلتحف الأغطية يسكنه هدوء مرعب.

 

سوزان خواتمي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات