البحرين بارقة من الأمل

البحرين بارقة من الأمل

عدسة: حــــســــين لاري

أجل, إنها بارقة كبيرة من الأمل, تشع علينا من جزيرة صغيرة وسط خليج حار, فالبحرين تعيش هذه الأيام تجربة مختلفة من تاريخها, تعيش ربيعا بالغ الخصوصية تنبع زهوره من بين صخور الملح وبقايا المحار, جزيرة ضيقة بأرضها رحبة بنفوس أهلها, يطلع منها جيل جديد من الحكام العرب يعلن عن ولادة نظام جديد قادر على محو تركة الماضي, وإضاءة شموس صغيرة قادرة على إنارة المستقبل, إن التاريخ يتغير بسرعة في تلك الجزيرة المثقلة بالتاريخ.

سألني وزير الإعلام البحريني نبيل الحمر حين قابلته: كيف تسير أمورك في البحرين ?

قلت: في النهار أجلس مع المهتمين بالسياسة, أما في الليل فأذهب إلى تجمعات الفنانين التشكيليين .

قال الوزير على الفور: بيني وبينك أنا أفضل الفن على السياسة .

ولكن كان لابد من الحديث في السياسة, فالمناسبة التي قادتني إلى البحرين هي تلك التغيرات السياسية المتلاحقة التي تعيشها, وليس من المبالغة القول إن أهل البحرين يستيقظون يوميا على خبر جديد يبيح أمرا كان محظورا في السابق, أو يعلن عن بدء مشروع كانوا في أمس الحاجة إليه, وكما تقول الدكتورة رفيعة غباشي رئيسة جامعة الخليج وهي متخصصة في الطب النفسي: لقد أشرقت قلوب البحرينيين وعادت إليهم ابتسامة كانت غائبة, ولا يعرف أهمية هذه الحالة مثل طبيب نفسي, ويقول الفنان المعروف عبد الله المحرقي: الآن أستطيع أن أرسم دون ألم, أما منصور الجمري وهو واحد من أشد المعارضين فيصف الأمر بأنه أشبه بحلم كان من المستحيل تصوره, فذلك المعارض الشاب الذي قضى أكثر من 15 عاما ممنوعا من دخول البحرين يجد نفسه فجأة على أرضها وبين ناسها بل إن أمير البلاد نفسه يقابله ويسمح له بقول كل ما يريد قوله في المحاضرات والمنتديات العامة, إنها حالة نادرة من الانفتاح السياسي قلما تشهده ليس البحرين والخليج فقط ولكن كل بلدان الوطن العربي, ويعبر د .محمد جابر الأنصاري المفكر المعروف عن ذلك الأمر قائلا: (لقد أصبح لدينا الشجاعة على مواجهة أخطاء الماضي), وقد بدا هذا الأمر واضحا في كل ما قمت به من مقابلات, فقد قابلت أثناء جولتي في البحرين العديد من الشخصيات الذين يمثلون كل ألوان الطيف السياسي, وكل واحد يبادرني بالقول: (اطرح علي أي سؤال تشاء), ذابت الخشية والتوقي ولم يعد هناك كلام في المحظور, بل لم يعد محظور أصلا في البحرين, إن الحماس لما يحدث يتعدى نطاق الجزيرة الجغرافي الضيق ليؤثر في المحيط العربي العام المتعطش لأي ممارسة ديمقراطية, فذلك الركود العربي السياسي قد أماتنا جميعا وقتل في داخل العديد منا أي أمل في التغيير, لذلك كانت المفاجأة أن يأتي التغيير من البحرين. أقول لوزير الإعلام: ولكن هل هناك انفتاح إعلامي يتوازى مع الانفتاح السياسي?.

يقول متحمسا: (لقد بدأنا في ذلك بالفعل حتى قبل أن يطرح الميثاق الوطني للاستفتاء, فقد اشتممنا الريح قبل أن تهب كما يقولون, وفتحنا كل أبوابنا على مصاريعها, نحن لا نريد جلد أنفسنا ولكن نريد أن تتطهر, لقد وضع الميثاق أسسا كثيرة تتعلق بحياة المواطنين أهمها هو الانفتاح الإعلامي وحرية الرأي لأن هذا هو الطريق للمستقبل, ولأضرب لك مثلا على قانون المطبوعات السابق, لقد بدأ هذا القانون بصورة مبسطة في الستينيات من القرن الماضي, وتعدل بصورة كبيرة في منتصف الثمانينيات, ومع كل ما فيه من محاذير فلم يعتقل صحفي, ولم تغلق صحيفة في ظل هذا القانون ورغم تعاقب ثلاثة من وزراء الإعلام عليه, ولكننا نحس الآن بالحاجة إلى قانون جديد لمواجهة التطور الذي يحدث في وسائل الإعلام, إن العالم قد أصبح قرية صغيرة, بل أصبح بيتا واحدا تقتحمه الفضائيات, وشبكة الإنترنت, والنشر الإلكتروني, وعلينا أن نساير كل هذا, ولكن يبقى العامل الحاسم في كل هذا وهو أن حرية الرأي مكفولة لكل المواطنين, فسمو أمير البلاد قد قام بحركة إصلاحية سوف تحدد مستقبل البحرين, وقد انجرف الجميع في تيار هذه الحركة, بما فيها أجهزة الإعلام التي نمثلها).

الأمير, الشعب, الميثاق

بدأت مرحلة جديدة من العمل السياسي في البحرين في الثالث من أكتوبر عام2000 عندما أعلن أمير البلاد عن طرح ميثاق العمل الوطني للاستفتاء العام, وكان الهدف من المبادئ التي تضمنته أن يكون عقدا اجتماعيا جديدا بين الحاكم والشعب, ولعل صيغته تعيد إلى الأذهان واقعة (المجنا كارتا) التاريخية الشهيرة والتي تأسست عليها الديمقراطية الإنجليزية العتيدة, وهذه المقاربة التاريخية هي التي تأسر ألباب الكثيرين ممن تحدثت إليهم في البحرين, واشترك في إعداد هذا الميثاق لجنة كان على رأسها ولي عهد البحرين وضمت في عضويتها العديد من الخبراء والمفكرين والشخصيات العامة من أجل أن يخرج البيان بصيغة حضارية وعصرية مميزة, والأهم من ذلك أن يكون تعبيرا عن فعل يغير الواقع ولا يحاول فقط أن يجمله, من أجل ذلك لم تكن مهمة اللجنة سهلة كما يشهد بذلك إبراهيم نشمي الكاتب البحريني المعروف والمدير العام لصحيفة الأيام:

(لقد شاركت في أعمال لجنة إعداد الميثاق الوطني, وطوال الاجتماعات كنت أضع يدي على قلبي خوفا من أن يكون دورنا هو مجرد تجميل الواقع, لا نكذب ولكن نتجمل كما يقولون, ولكن من خلال التجربة العملية, كان سقف النقاش بين كل ألوان الطيف السياسي الذين ضمتهم اللجنة عاليا جدا, واستطاع أن يتجاوز الرؤية المتشككة الحذرة التي كانت في صدورنا, وكلما واجهتنا نقطة حساسة, يعترض عليها أصحاب الفكر التقليدي كان سمو أمير البلاد يتدخل شخصيا كي يذللها لصالح أن يأتي الميثاق في صورته التي خرج بها, الميثاق مشروع إصلاحي يهدف إلى إخراج البحرين من عنق الزجاجة الذي وصلت إليه, وهو ينص على أن يكون نظام البحرين مملكة دستورية وراثية, وأن يكون هناك مجلسان واحد منهما منتخب له حق التشريع ومجلس آخر معين يقوم بمهمة الشورى, استكمال المؤسسات الدستورية من خلال المحكمة الدستورية وفصل السلطات ونقل النيابة العامة إلى سلطة وزارة العدل بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية, وإنشاء جهازين للمراقبة المالية والإدارية للحفاظ على المال العام, كما أنه يجب ألا يكون هناك أي نوع من التميز بين طوائف المجتمع لأي سبب من الأسباب, كما أعطى الميثاق المرأة لأول مرة الحق في التصويت والترشيح والانتخاب, وهو أمر غير موجود في العديد من دول الخليج, لقد كان التصويت بالإيجاب على كل هذه التغييرات, بل إن سمو الأمير قد أعلن أنه لن يقر مسألة تحويل البحرين إلى ملكية دستورية إلا من خلال التوافق بينه وبين المجلس التشريعي القادم, إن هذا كله ليس تجميلا للواقع ولكنه يمثل تغييرا جذريا ونقلة نوعية يجب أن نكون أهلا لها, وبموجب هذا العقد يتم تحديث سلطات الدولة ومؤسساتها, ولعل أهم ما في هذا الميثاق الجديد الذي لم يخرج عن إطار الدستور أنه قد أعاد للبحرين مجلسها التشريعي الذي افتقدته منذ السبعينيات, وسوف يتم اختيار أعضائه من قبل الشعب بالاختيار الحر المباشر ولكنه وضع بجانبه مجلسا للشورى حتى يحدث نوعا من التوازن بين المجلسين).

شجرة الحياة

في مكان ناء نسبيا, وسط هضاب ملحية قاحلة, توجد شجرة الحياة, الكائن الأخضر الذي يقف منتصبا في مواجهة الريح والرمال الساخنة, إنها أطول الأشجار عمرا في البحرين,

وهي تستمد ماءها من مكامن سرية في قاع التربة, ولا أحد يعلم كيف قاومت كل هذا الجفاف التي يحيط بها ما يربو على المائتي عام, ولكنها تستحق بالفعل هذا اللقب, فغصونها تميل على الأرض حتى تلامسها وتصنع منها جذورا جديدة, إنها تبقي نفسها بنفسها, وتجدد ذاتها دون حاجة إلى لقاح أو تزاوج, وإذا كانت البحرين هي جزيرة الخلود كما يطلق عليها في الأساطير القديمة, فإن في هذه الشجرة بعض من رائحة من الأسطورة ومن تواصل التاريخ البحريني واستمراره على هذه البقعة الصغيرة من الأرض, فالزمن العربي هنا هو مزيج من كل شيء, تماما مثلما امتزج الماء المالح على أرضها مع الماء العذب وأخذت من هذا الامتزاج اسمها, وامتزجت أعمال الناس من فلاحين يجيدون الزراعة في هذه الرقعة الضيقة ويصعدون بنفوسهم مع هامات النخيل, إلى غواصين خلف اللؤلؤ حيث المصير مجهول والسعي خلف الرزق سعي دائم خلف الموت, خليط من البشر والديانات, رحب بهم المكان على ما به من ضيق, ودخلت التاريخ المعاصر عبر بوابات الاستقلال الصعبة والبحث عن الذات والهوية, إن الميثاق يتحدث عن ثنائية أخرى هي العلاقة بين الحاكم والمحكوم, وهو يختزل في سطور قليلة تاريخا طويلا من العمل الدءوب, بما فيه من نجاحات وإخفاقات, فقد أصبحت أسرة آل خليفة جزءا من تاريخ الجزيرة منذ حوالي 250 عاما, فهم جزء من قبيلة العتوب التي هاجرت من نجد عندما ضاقت الحياة وأقفرت الأرض, رحلة هلالية أخرى ولكنها مضت غربا هذه المرة, إلى الكويت ثم إلى شاطئ الزبارة في قطر, ورغم أنهم أهل بدو ورعي فإنهم لم يهابوا الموت فركبوا أمواجه وتاجروا وحاربوا وغزوا وسافروا, ثم حلموا بالاستقرار في هذه الجزيرة التي كانت تحت السيطرة الفارسية, ولكن هذا الحلم لم يكن سهلا فقد ذاقوا أكثر من هزيمة قبل أن يستطيعوا الوصول إلى شواطئها, وكلفتهم هزيمتهم الأولى ضياعا في الصحراء لأكثر من ثلاثين عاما, في الوقت ذاته كانت الجزيرة مرهقة أيضا وتمزقها صراعات الجيران الأقوياء, الفرس في إيران, واليعاربة في عمان والموحدين في شبه الجزيرة, وحين أقبل عليها آل خليفة للمرة الثانية كانت الأمور مهيأة لهم, هذه المرة أقبلوا على الجزيرة بسفنهم وأسلحتهم وقد قرروا البقاء ولو تحولت الجزيرة إلى مقبرة, وعندما قام الفرس بحملة مضادة لاستعادة حكم البلاد خاض آل خليفة ضدهم معركة الوجود واستطاعوا أن يهزموهم, وبذلك خلصت الجزيرة لحكمهم في عام 1782, ويقول الشيخ خليفة الخليفة مدير الإعلام الخارجي: ( لقد بدأت مع وصول آل خليفة إلى البحرين مرحلة جديدة وصعبة في تاريخ البحرين, فالحفاظ على استقلالها كان أشبه بالسير فوق صراط تحته هوة من الجحيم, فالمؤامرات ومحاولات الغزو الخارجي لم تتوقف, وكانت الخلافات تدب أحيانا بين أبناء الأسرة الواحدة ولكنهم يعودون للاتحاد في وجه أي خطر خارجي, ولكنها رغم ذلك كانت تنمو وكانت تجارتها تزدهر, وبدا أن ذلك الموقع الساحر في وسط الخليج يقول كلمته, فهي التي أصبحت تسيطر على تجارة اللؤلؤ, وهي التي تقوم بنقل البضائع بين مدن الخليج ).

كان على حكامها حفاظا على هذا الاستقلال المهدد أن يتلاعبوا مع كل القوى المتربصة بهم, بالدهاء أحيانا, ودفع الإتاوات في أحيان أخرى, والتوقيع على معاهدات في أحايين ثالثة, ولكن هاجس الخوف من الخطر الخارجي هو الذي حكم آل الخليفة على مر هذه السنوات, ولعل هذا هو سبب تصرفهم بقسوة أحيانا في وجه أي إضرابات أو مطالب داخلية, ورغم ذلك فقد زرع الإنجليز ـ العدو الأكبر لهذه الجزيرة الصغيرة ـ بذور الفتنة فيها, لقد كانوا دائما أشد الطامعين فيها لأنها تمثل نقطة مهمة على طريق التجارة في إمبراطوريتهم الواسعة, وقد بدأ الإنجليز لعبتهم بدهاء شديد ضد البحرين, فقد بدأوا أولا بتأليب كل القوى المحيطة ضدها , لعلها تضعف حكم آل خليفة وترغمهم على الاستجارة بهم ليقوموا بحمايتهم, ثم قرروا بعد ذلك التدخل المباشر في شئونها, وحتى يضمن الإنجليز الاستقرار لنفوذهم قاموا بممارسة أشهر ألعابهم وهي لعبة فرق تسد, فقد أيقظت من تحت الرماد التناقضات القديمة بين الطائفة الشيعية, والطائفة السنية التي تدعمت في البلاد بعد قدوم آل الخليفة إلى الحكم, أي أنها قد أعادت إلى الوجود ملفا كان عمره أكثر من مائتي عام على الأقل, قدمت بريطانيا نفسها في البحرين على أنها صديقة للطائفة الشيعية ـ كما يقول محمد الجاسم وسوسن الشاعر في كتابهما عن (البحرين, قصة الصراع السياسي). وكان الهدف هو إحداث نوع من شق الصف البحريني بحيث يجد الحاكم نصف الشعب معه (حزب الشيخ) من السنة والنصف الآخر ضده ( حزب الإنجليز ) من الشيعة, وقد تسبب هذا الصراع في عزل شيخ الجزيرة في هذا الوقت في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي, ولم يكن عزله بسبب حب الإنجليز في الطائفة الشيعية بطبيعة الحال ولكن كراهية فيه وفي سياسته المناوئة للتدخل الإنجليزي المباشر, وفي الحقيقة أن الأحوال الاقتصادية كانت سيئة بالنسبة للطائفتين, ولم يكن هناك اضطهاد ديني بقدر ما كان هناك اضطهاد طبقي شعر به أهل الجزيرة في مراحل كثيرة من مراحل تطورهم السياسي, ولكن هذا الشقاق الذي بدأت بذوره في الثلاثينيات بقي كامنا تحت التراب, ورغم النهضة الاقتصادية والتعليمية التي شهدتها البحرين بعد ذلك فإن هذا الصدع بقي قائما وإن كان الجميع يؤكدون أنه ليس وحده المحرك للأحداث السياسية العصيبة التي شهدتها البحرين, كما يؤكد جمال فخرو وكيل مجلس الشورى: (إن الشعب البحريني لم يتحدث عن مسألة الشيعة والسنة إلا في مناسبتين, أولاهما في الثلاثينيات عندما أثارها الإنجليز والثانية مع الأسف كانت بعد انتصار الثورة الإيرانية, أما بخلاف هذه الفترة فقد كنا نتكلم عن شعب بحريني واحد, وأتمنى أن يظل الأمر كذلك حتى عندما تتم الانتخابات, فيجب ألا نتحدث أبدا من منطلق الطوائف الدينية, ولكن من منطلق الكفاءة والقدرة على العمل الوطني, إن المستقبل مرهون بالحديث وفق عدة مبادئ أولها مبدأ المواطن البحريني الواحد, ومبدأ تكافؤ الفرص, ومبدأ العدالة والحرية لكل شخص), ويقول الفنان عبد الله المحرقي وهو إضافة إلى لوحاته يقوم برسم كاريكاتير يومي في صحيفة أخبار الخليج: (لقد عشت في منتصف التسعينيات أسوأ أيام حياتي, كنت أشاهد ما يدور في البحرين وأتألم, وكانت هذه أكثر فترة رفضت لي فيها رسوم من النشر), ويقول المفكر الدكتور محمد جابر الأنصاري: (إن المجتمع البحريني يضم مسلمين من جميع المذاهب الإسلامية الخمسة, وليس صحيحا أن طائفة الشيعة هي التي قامت بالإضرابات الأخيرة التي شهدتها البحرين وخاصة في التسعينيات, ولكن كانت هناك اضطرابات من سكان القرى الذين أهملوا طويلا, وأنا أقول - وهذا الكلام على مسئوليتي - أن السلطة التنفيذية قد أهملت القرية البحرينية على مدى السنوات الخمس والعشرين الأخيرة, ولعلك شاهدت الاستقبال الأخير الذي قام به سمو الأمير إلى جزيرة (سترة), لقد دخل في سيارة مكشوفة إلى مناطق لم تكن تدخلها قوات الأمن إلا في سيارات مدرعة, واكتشف بنفسه أن المنطقة تشكو من قلة الخدمات إلى حد كبير, وقد أمر سموه بتعديل هذا الوضع في الحال, المسألة إذن كما حدث في العديد من دول العالم هي إهمال الريف, والمصادفة التاريخية هي التي جعلت سكان القرى في البحرين معظمهم من الشيعة, إن هناك العديد من أفراد الشيعة من الطبقة الوسطى, وهم يمثلون جزءا أساسيا من نسيج المجتمع البحريني, وهؤلاء يعانون ما يعاني منه أفراد المجتمع بشكل عام ولكن لم يكن لهم أي دخل بما شهدته البحرين من اضطرابات, لقد ساهم في صهر المجتمع البحريني عدة عوامل, أولها السوق الوطني, معاملات البيع والشراء وما كان يتم خلال هذه العملية من تفاعل, وقد ساهم الجسر القديم الذي انشئ بين المحرق والمنامة في هذا الأمر, وأيضا المدرسة الوطنية التي وضعت الجميع على مقاعد الدراسة بلا تفرقة بينهم, ولأجل ذلك فإنني ضد المدارس الخاصة التي سوف تدعم الفروق الفئوية بين الطلاب, وأخيرا هو الاندماج من خلال مؤسسات المجتمع المدني), ولكن ماذا يقول الطرف الآخر عن هذه المشكلة, ويقول د . العريبي, وهو واحد من المثقفين المستنيرين:(لقد كانت هناك فجوة بين الأسرة الحاكمة, والشعب البحريني, ومع فصائل العمل السياسي في الشيعية بشكل خاص, إن الحكم تقاس شرعيته بما يوفره من استقرار ونماء للمواطنين, وليس وفق الانتماء العرقي أو الديني, فالحاكم الظالم سواء كان سنيا أو شيعيا هو أمر يرفضه الجميع من كل الطوائف, وجاءت هذه المرحلة لتحاول ردم هذه الهوة وهي تؤكد أن كل المطالب الوطنية السابقة لم تكن تهدف إلى قلب النظام أو الثورة عليه, وإنما كانت تريد الإصلاح في ظل النظام, وأن ما حدث في البحرين في التسعينيات لم يكن عملا خارجيا, ولكن كان يتم بطبيعة الحال تغذيته بعوامل خارجية ولكن يبقى ان المشكلة الحقيقية كانت في البحرين, في التهميش الشامل لكل فئات الشعب البحريني, كما أن النظام وقتها لم يبذل جهودا كافية لحل المشاكل التي يواجهها المجتمع, ويأتي على رأسها مشكلة البطالة التي أعتقد أنها السبب المباشر في معظم الاضطرابات التي شهدتها البحرين). أما شيخ المعارضة عبد الأمير الجمري فيؤكد: (إن الطائفة الشيعية لم تتحرك على أساس طائفي, ولكن الرد العنيف من قوات الأمن كان موجها لهذه الطائفة, والمطالب التي رفعت كانت وطنية ولمصلحة الجميع, وأعتقد أننا لن ننجر للطائفية إن شاء الله تعالى).
تاريخ ومجالدة

عندما مر المؤرخ والجغرافي العربي بالبحرين في القرن التاسع الميلادي أدهشه جلد الغواصين في البحث عن اللؤلؤ, ففي هذا الجو الحار وتلك المياه الممتلئة بالأسماك الخطرة يقضي هذا الغواص الأعزل العاري الجسد دقائق طويلة تحت الماء بحثا عن المحار, وقد يبلغ عدد الغطسات حوالي خمسين مرة في اليوم الواحد, وفي مقابل كل هذا المجهود لا يتناول إلا وجبة واحدة في آخر اليوم من الأرز والسمك وقليل من التمر, لذلك فقد كان هـؤلاء الغواصون أشبه بالهياكل العظمية, إن هذه المهنة لم تتـــغير كثيرا منذ مرور المسعودي, وقد ظلت المهنة الأساسية في البحرين حتى انهار سوق اللؤلؤ في العالم بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي في الثلاثينيات .

فالغوص هو أشق مهنة عرفها الإنسان بعد العبودية, وعاش الغواص في حالة من العوز الدائم فهو يقترض قبل بداية الموسم من النوخذة أي ربان السفينة, ويظل يسدد لسنوات عديدة دون أن ينتهي هذا الدين أبدا حتى بعد موته, وفي بعض الأحوال فإن النوخذة يستولي على بيت الغواص إذا مات قبل أن يسدد دينه, ويؤكد المؤرخ البريطاني (ب . و . هاريسون), أنه خلال سبع سنوات عاشها في البحرين لم ير غواصا قد استطاع أن يسدد دينه أبدا, ويضيف: (يعرف الغواص كعبد ما بقي من حياته, بل إن العبد يستطيع الهرب والظفر بحريته, ولكن عبد الغوص لا يستطيع الفكاك من دينه أبدا).

ولم يكن الغوص هو مصدر المعاناة الوحيدة في البحرين, الفلاح البحريني عانى كثيرا وهو ينتزع الخضرة من بين ثنايا الأرض المالحة, فقد كانت الينابيع قبل أن تجف مياهها الآن هي مصدر الحياة على هذه الأرض, والبحرين مدينة بوجودها إلى شجرة وحيدة هي النخيل, فقد أعطت هذه الشجرة النبيلة الثمر الحلو, الذي كان طعاما رئيسيا بجانب الأرز والسمك, وأعطته السعف الذي يستخدم في بناء المنازل وصنع الأثاث والسلال, ومن ليفها صنع الحصر, والحبال, ومن أعوادها صنعت مصائد الأسماك ومن بقاياها الجافة جاء الوقود, لقد أعطته النخلة كل شيء ما عدا الثياب, ولكن الأرض اعتبرت ملكا للسلطات الحاكمة والعاملين عليها أصبحوا كالأجراء, أما الذين تمسكوا بأرضهم فقد فرضت عليهم الضرائب العالية لانتزاعها منهم, كان الفلاح في البحرين يعاني مثل معاناة الغواص تماما, وكانت عائلته أيضا تعيش تحت التهديد المستمر بقطع رزقها, وبدا في العشرينيات من هذا القرن أن الخلاص الوحيد من عذابي الغوص والزراعة هو في اللجوء إلى صناعة النفط.

ولكن حتى النفط لم يخفف من عذاب أهل البحرين كثيرا, فقد بدأ الحفر في أول بئر للبترول في 16 أكتوبر عام 1931وكان هذا هو أول بترول عربي يظهر في هذه المنطقة بعد البترول الإيراني, ورغم أنه لم يكن بالغزارة المطلوبة فإنه لفت الأنظار بشدة إلى الثروة الكامنة تحت أرض هذه المنطقة العربية, وقد تدفق العمال البحرينيون على الشركة بحثا عن العمل, ولكن شركة (بابكو) التي أخذت امتياز استخراج النفط في البحرين, لم تجد فيهم المهارة الكافية, وبدلا من تدريبهم على هذا العمل الجديد, فضلت الاستعانة بعمال من الهند وأبعدت البحرينيين إلى الأعمال غير المهمة ـ كما حدث في كل منطقة الخليج النفطية ـ ولم تكن تعطيهم من الأجر أكثر من روبية يوميا, كانت الشركة تهدف بطبيعة الحال إلى إبعادهم عن أي مناصب قيادية حتى لا تقوى شوكة الأهالي ضدها, وبدأ أهل البحرين رحلة جديدة لم تختلف في مشقتها عن حياتهم السابقة, ولكن الاختلاف الوحيد هو أن وعيهم أخذ بالتفتح, وقد تكونت بينهم طبقة عمالية أخذت تتعلم وتكتسب المهارة يوما بعد يوم, وكان من الطبيعي مع تفتح هذا الوعي أن يبدأوا في التمرد على هذا الإجحاف الواقع عليهم من الشركات البريطانية, لقد كانت هناك تفرقة في المعاملة وفي الأجر بين البحريني والهندي اللذين يقومان بنفس العمل, بل كانت هناك الكثير من الأماكن والمنشآت داخل الشركة لا يسمح للبحريني بالدخول إليها, وتسبب هذا في حالات متكررة من الاحتجاج والتمرد ما لبث أن تبلور في أول إضراب قام به عمال مصفاة النفط في عام 43, وتبعه إضراب آخر أكبر وأشد في العام التالي, وكانت مطالب العمال بسيطة وإنسانية إلى حد كبير لا تهدف فقط إلا للمطالبة بمنع الإهانة عنهم, ورفع أجورهم ومساواتها مع زملائهم من الهنود وإعطائهم يوم عطلة مدفوع الأجر, وعلاج المصابين منهم أثناء العمل, ولعلنا نرى من خلال هذه المطالب أن الحد الأدنى لم يكن متوافرا لهم, ولم تستجب الشركة لهذه المطالب إلا بدرجة متدنية, وعوقب قادة الإضراب بالفصل عن العمل, ولكن العمال البحرينيين أخذوا درسا قاسيا من هذا الإضراب, لقد أدركوا أن الشركة لن تفيدهم كثيرا وأن الحل هو الاعتماد على تنظيمهم الذاتي, لذلك فقد ظلوا يواصلون الاحتجاج والمطالبة بتوفير برامج تدريبية أكثر كفاءة بالنسبة لهم حتى يتمكنوا من الوصول إلى أماكن أكثر تقدما في الشركة, ولم تملك الشركة أخيرا إلا الخضوع إلى ذلك الأمر, وكان هذا تتويجا لنضال تلك الحركة التي استمرت على قوتها ورغبتها في التطور والمعرفة حتى مطلع السبعينيات من هذا القرن عندما حصلت البحرين على استقلالها.

تجربة الماضي

وحتى هذا الاستقلال لم يكن سهلا, فبعد أن رحل البريطانيون, بقيت الأطماع الإيرانية قائمة, ولكن جاء تدخل المجتمع الدولي لصالح هذا الاستقلال من خلال الاستفتاء الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة واختار فيه أهل البحرين ـ سنة وشيعة ـ حكمهم الذاتي واستقلالهم عن أي دولة أخرى, ولكن التجربة الديمقراطية الوليدة لم يكتب لها النجاح, لقد حل المجلس النيابي المنتخب في عام 1975 بعد عامين فقط من انتخابه ولم يعد مرة أخرى, وبدا أن البحرين على أبواب نفق مظلم آخر. يقول المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري معلقا على ذلك: (لقد دخلت البحرين على المستوى السياسي في طريق مسدود منذ أن حل المجلس الوطني في عام 1975 حتى الآن, واهم شيء في ذلك المشروع الجديد الذي طرحه سمو الشيخ حمد هو محاولته الخروج من هذا الطريق المسدود, لقد كانت البحرين تتقدم اجتماعيا واقتصاديا, ولكن على المستوى السياسي نجد أن السلطة السياسية قد انفردت بالتشريع والتنفيذ, وأحدث هذا نوعا من الاحتقان ارتفعت ذروته في عام 1994 في الاضطرابات التي شهدتها البحرين, إن التجربة الديمقراطية التي شهدتها البحرين في السبعينيات لم تكن مشجعة, فقد أراد المرحوم الشـيخ عيسى بن سلمان أن يبدأ بداية جديدة فمنح الشعب دستورا ومجلسا وطنيا واسع الصلاحيات, وكانت هذه الصلاحيات تحمل في داخلها بذور التصادم المستمر بين السلطتين التشريعية والتنفيذية, وأعتقد أن الكويت تعاني من هذا الأمر, ولكن التجربة البحرينية في ذلك الوقت تدخلت فيها القوى الخارجية وجعلتها تلعب بالقوى الدينية والطائفية بحيث أعطت السلطة مبررا لحل البرلمان فقد كانت القوى الإقليمية في الخليج غير مرتاحة لهذا الأمر, وفي طليعتها شاه إيران الذي ضغط ضغطا شديدا من أجل حل المجلس حتى لا تنتقل عدوى الديمقراطية إلى بلاده, لقد كان هناك جانب من السلطة غير مرتاح لهذه التجربة الديمقراطية, كما أن مزايدات الكتل البرلمانية قد ارتفعت إلى درجة غير معقولة, واذكر أن بعض وزراء الحكومة قد قالوا في هذا الوقت, إنه إذا أردنا أن نمرر من البرلمان مشروع أي قانون, كان علينا أن نظهر عدم رضائنا عنه, أما إذا كنا راضين فلن يمر القانون, لذلك فإن هذه الإصلاحات الجديدة تهدف أولا إلى الخروج من عنق الزجاجة, ولكن لم يكن من الممكن العودة إلى المجلس السابق مما قد يعطل الحياة الدستورية مرة أخرى, لذلك طرح الشيخ حمد فكرة المجلسين, المجلس التشريعي المنتخب, ومجلس الشورى معين, والأمل أن يخلق نظام المجلسين نوعا من التوازن, ويؤدي إلى نوع من المرونة في الحركة, وقد تكونت لجنة لتعديل الدستور وتحديد العلاقة بين المجلسين, وفيما عدا ذلك لن يكون أي خروج عن أحكام الدستور السابق, ولكن من المؤكد أنه فيما يختص بالأمور التشريعية سوف يكون هناك برلمان واحد.

الإنسان البحريني هو نتاج للجهد والكدح المستمر, ولم يعش في وئام أبدا مع الطبيعة المحيطة به, ولم ينعم بعطاياها فلم يكن لديها ما تعطيه له سوى العمل ومزيد من العرق, لذا فقد كان ومازال جلدا, كأن خلاياه قد قدت من ملح وصخر, وهو عندما يخوض معركة التغيير السياسي والاجتماعي اليوم يدرك أنه قد استحق هذا الأمر, كانت السيارة تدخل بنا إلى قرية بنى جمره, وقد يبدو غريبا أن يكون هناك تباين في هذه المساحة الصغيرة بين الريف والمدينة, ولكن المدهش أنك تجد ذلك في البحرين, لقد تقلصت الزراعة الآن, وجفت معظم مياه الينابيع والآبار, وتراجعت النخلة عن مكانتها, ولكنك تجد الطابع الريفي في تلك المساكن الصغيرة المتلاصقة, وتلك الطرقات الضيقة الرديئة الرصف بعكس بيوت وطرقات المدينة التي لا تبعد إلا كيلومترات قليلة, في مدخل القرية كانت هناك أعلام وزينات مرفوعة, ولافتات حافلة بكلمات الترحيب: (مرحبا بعودة ابن الوطن البار), كان العائدون كثيرين, فمنذ أن صدر العفو الأميري عن المسجونين السياسيين حتى الذين كانوا تحت الأحكام, وقد قرر الكثيرون من البحرنيين الذين يعيشون في الخارج نفض برودة المنافي والعودة إلى الوطن, وقد عاد منصور الجمري بعد غيبة استمرت 15 عاما قضاها في بريطانيا, لم يكن هذا فقط فقد رفعت الإقامة الجبرية عن الأب الشيخ عبد الأمير الجمري وسمح له بممارسة حريته كاملة, كنا نقصد مسجد (زين العابدين) في وسط القرية, إنه مسجد متواضع وصغير, ولكنه حافل بالناس ومحاط بالأعلام والأضواء الملونة, إحساس الفرح والبشر يعم الجميع, كان ترحيبهم بنا فائقا, جاء الشيخ عبد الأمير للترحيب بنا, كان شيخا جليلا ولكنه واهن القوى, كانت المعاناة قد رسمت خطوطها على وجهه, وبدت لحيته البيضاء شاهدا على تاريخ من العذابات الطويلة, قال لنا: (كنت أقرأ مجلة العربي وأنا داخل السجن ويبدو أنهم قد أحسوا بأنها تؤنس وحدتي فقطعوها عني, وطوال سنوات أربع من السجن لم يدخل إلي سوى أربعة أعداد كنت أقراها وأعيد قراءتها. قلت له: كنت أحسب أنك كنت تحت الإقامة الجبرية, قال: حدث هذا بعد السجن, عندما ساءت صحتي, وقد استمر ذلك لمدة عام ونصف, أقول له: وماذا كان سبب السجن والاعتقال, يصمت قليلا ثم يقول في بط ء: (كانت الحكومة ترفض الحوار وقد كانت الفجوة واسعة بيننا وبينها, فالنظام لم يكن يلتزم بالدستور, ولكن لله الحمد والشكر لأن سمو الأمير حمد قد فتح باب الحوار وشرع في المصالحة بين أفراد الشعب, وبدأ مشروعه الإصلاحي على أساس صحيح, ولا غبار على ذلك, إن أمامنا الآن ملفات ساخنة علينا أن نناقشها أهمها موضوع البطالة الذي قد يهدد الساحة السياسية مرة أخرى, وموضوع التجنيس غير المنظم, فهناك شائعات تدور في البحرين حول ما يجرى من حملات للتجنيس تنتهج سياسة غير واضحة, إن الميثاق الوطني يمثل مخرجا لأزمة كنا نعيشها, ونحن ساندناه لأنه وفر لنا فرصة النجاة للخروج من طريق مسدود).

منصور كان أكثر سخونة وحماسة من أبيه, يتحدث بصوت مبحوح ومنهك ولكنه مليء بالسعادة, قال: (إنه حلم أن أعود للبحرين مرة أخرى, كنت قد فقدت الأمل في العودة نهائيا), كنا قد اقتنصنا بعضا من وقته, فمنذ عودته, وبعد أن قابله أمير البلاد, وهو في حركة لا تهدأ, أحاديث ومحاضرات وفضائيات تطلبه على الهواء وهو في وسط هذا سعيد وقلق, لا يصدق أنه يتحرك على أرض الواقع تحت سقف من الحرية لم يكن يحلم بوجوده, أقول له, لماذا رحلت, ولماذا عدت ? يحاول أن يسترد أحبال صوته المفقودة وهو يقول:

(عندما غادرت البحرين للمرة الأولى كانت للدراسة, ولكن بعد أن حصلت على شهادتي في الهندسة الميكانيكية وعدت إلى البحرين كانت الأحوال صعبة جدا, لم يكن هناك مجال للعمل, وكانت هناك كثير من المضايقات الأمنية والإيقافات وقد سحب مني جواز سفري وبقيت سنة في البحرين عاجزا عن مواصلة الدراسة, وفي عام 87 حصلت على منحة من بريطانيا لأدرس الماجستير والدكتوراه وعندما سافرت للمرة الأخيرة كنت أشعر أنني لن أرى البحرين مرة أخرى, وخلال وجودي في لندن كان لي نشاط واسع, وكان الذين يعودون يتم التحقيق معهم لأنهم يعرفونني, لذلك أدركت أن العودة للبحرين تعني العودة للسجن, وبعد أن حصلت على الدكتوراه بدأت العمل من أجل العيش وفقدت الأمل في العودة نهائيا, أما لماذا عدت فلأن عهدا جديدا قد بدأ مع مسيرة سمو الأمير حمد التصالحية الإصلاحية, لم أحلم أبدا بإلغاء قانون أمن الدولة, وإطلاق سراح كل المعتقلين حتى المحكومين, لذلك كان يجب علي وعلى أمثالي من الذين يقيمون في الخارج أن يعودوا ويروا ماذا يدور على أرض الواقع, وأن يعيدوا تقييم استراتيجيتهم للعمل في المرحلة المقبلة) , أقول له: ولكن قبل عودتك, هل حدثت مفاوضات مع السلطات لتأمين هذه العودة? أم أنك اتخذت هذا القرار بمفردك? يقول الدكتور منصور: لقد قررت العودة منذ فترة وجيزة واتصلت بالسفارة البحرينية في لندن وأبلغتهم هذا القرار, ولكنهم أخبروني أنني ممنوع من العودة إلا إذا تنازلت عن جوازي الإنجليزي وحصلت على جواز بحريني, قلت لهم إن كل ما أريده هو الذهاب وإلقاء نظرة على بلادي ثم أقرر بعد ذلك ماذا أفعل, إنني ذاهب وليحدث ما يحدث, ولكن قبل مجيئي بيومين حدث اتصال بيني وبين الدكتور حسين فخرو مستشار الأمير ووجدته إنسانا فاضلا ومثالاً طيباً لكل بحريني, وقد نقلت إليه كل مخاوفي, وفي اليوم التالي اتصل مندوب من الديوان الأميري بالأسرة هنا وأخبرهم أنه يمكنني العودة في أي وقت أشاء شريطة آلا أدلي بمحاضرات أو أحاديث سياسية, وقد قبلت ذلك وأسرعت بالعودة, ولكني حين تفضل سمو الأمير واستقبلني بعد يوم من عودتي سمح لي بكل شيء, قال لي بالحرف الواحد: تكلم, لم يعد لدينا ما نخاف منه, وقد شكرته على ذلك, فقد كان هدفي هو أن أصحح المسار, لا أن أشوهه, أو أخرج عليه .قلت له: ماذا كان شعورك في المنفي, وماذا فعلت عندما علمت بنبأ القبض على والدك ? قال: لقد قضيت في الخارج سنوات من العذاب المستمر استمرت من عام 1978 إلى 2001, ففي هذه الفترة لم يعتقل والدي فقط ولكن اعتقل أخي وزوجته واعتقلت أختي وزوجها, وقد تعودت على الصدمات والآلام فلم يكن هؤلاء فقط أهلي, ولكن البحرين كلها كانت أهلي, والاعتقال شيء مرير, ولا علاقة له بالأهل والطائفة, ويجب ألا يعتقل إنسان لأن له رأيا مخالفا. قلت له: ماذا دار بينك وبين أمير البلاد في هذا الاجتماع? قال: تحدثنا في أشياء كثيرة ولكن انطباعي أن سمو الأمير يتميز بالصدق والجدية والرغبة في أن يحقق لشعب البحرين شيئا لم يكن موجودا, فهو يتحدث من القلب وما خرج من القلب دخل إلى القلب, فلأول مرة يقوم سموه بخرق الأعراف السياسية في البحرين, تلك الأعراف التي كانت تقول ألا يجتمع رأس السلطة بأي صوت من المعارضة, وقد خلق هذا عرفا حضاريا جديدا وهو أن الأمير يسمع حتى من الذين يعارضونه, وقد قلت لسموه في ختام لقائنا, لقد دخلت التاريخ ودخلت قلوب الناس ونحن لن نعطل هذه المسيرة الإصلاحية . قلت له: أعرف أن الوقت مبكر بعض الشيء, ولكن هل تنوي ترشيح نفسك للمجلس القادم ? يقول:يجب أن أعود وأستقر في البحرين أولا وأستشير جماعتي حتى أعرف قرارهم بالنسبة لهذا الأمر, إنني أريد بالفعل أن أقوم بعمل في خدمة الشعب سواء عن طريق تمثيله أو في إطار المجتمع المدني, ولكنني لن أعمل في إطار السلطة, لا أريد أن أكرر ما حدث في السبعينيات عندما عاد أفراد من المعارضة وتسلموا المناصب وقتلوا في الناس الأمل, إنني لا أريد أن يقال إن المعارضة هي الطريق إلى المناصب, إننا نريد معارضة دستورية يثق فيها الناس ولا يحتقرونها كما كانوا يحتقرون معارضة السبعينيات, لذلك فهذه نيتي وأنا ألزم نفسي بها منذ الآن, قلت له: ولكن فيما لو رشحت نفسك, ما هو البرنامج الذي سوف تطرحه على الناس, يقول: إن لدينا برنامجا إسلاميا وأتمنى من أعماق قلبي أن يتفق عليه الشيعة والسنة وأن نكون قد تخلصنا من الطائفية.

وداعا للقمع

سنوات طويلة من المعاناة عاشها الصوت الآخر في البحرين, لقد كان قانون الأمن العام الذي عاشت البحرين في ظله فترة طويلة ثقيل الوطأة, وعندما ألغاه الأمير بجرة قلم بدا أنه قد أزاح كابوسا شديد الوطأة لم يكن أحد يصدق أنه سوف يزول, بدأ عهد جديد من الحفاظ على حقوق الإنسان, فهل هناك من يحمي هذه الحرية ? يقول الدكتور فؤاد شهاب وكيل مجلس الشورى ورئيس لجنة حقوق الإنسان: (إن قضية حقوق الإنسان لم تعد قضية فلسفية, ولكنها قضية مؤسسية, ولم تعد أي دولة لا تحترم حقوق الإنسان جديرة بالاحترام, لذلك بدأ الأمير مشروعه الإصلاحي فور توليه الحكم بإنشاء لجنة حقوق الإنسان في أكتوبر 1999 من أعضاء مجلس الشورى, وقد انتقد الكثير من الناس في ذلك الوقت طريقة إنشاء اللجنة وكيف أنها مجرد لجنة حكومية أخرى, ولكن في حقيقة الأمر أن الأمر الأميري نص على استقلالية اللجنة, ما إن يتم انتخابها حتى تصبح غير مساءلة إلا أمام المسئولين الكبار في الدولة, ومنذ أن بدأنا في العمل وقد انهالت علينا الشكاوى, بعضها كان يتعلق بالمعتقلين السياسيين والمبعدين عن البلاد والمفصولين من العمل, ولحسن حظنا أنه في مايو2000 بدأ الانفراج السياسي وفوجئنا بالإفراج عن عشرات المعتقلين, وعودة المبعدين, وكنا غاية في السعادة داخل اللجنة, وأخذنا نعمل بجدية لإعادة كل الذين تم إبعادهم عن أعمالهم, وقد نجحنا في ذلك ونستطيع أن نقول إنه لا يوجد مفصول عن العمل لم ننجح في إعادته, إننا نحاول الآن أن نركز على تثقيف المواطن البحريني وتعريفه بحقوقه, وسوف نقيم ورشة عمل نركز فيها على المدرسين وبعض المسئولين في الدولة, ونحن نرى أن تدريب المدرسين سوف يجعلهم قادرين على رفع وعي التلاميذ بحقوقهم ونأمل أن نستطيع وضع هذه الحقوق في جميع المقررات الدراسية, إننا نريد أن نعلم كل طفل في البحرين ألا يتعلم فقط الحفاظ على كرامته, ولكن عليه أيضا أن يحترم كرامة الآخر, ونريد من كل واحد أن ينقل كل قيم احترام الإنسان إلى أسرته) . أقول له: ولكن هل تعتقد أن الأجهزة الأمنية التي كانت مشهورة بالتعدي على حريات المواطنين قد كفت عن ذلك ? يقول: (لم يكن أمامها غير التخلي عنها, فهناك توجه من القيادة السياسية ضد هذا الأمر, وكذلك هناك ارتفاع في درجة وعي المواطن البحريني, وقد نص الميثاق على حرية المواطن وعلى عدم جواز تعرضه لأي نوع من التعذيب والإرهاب وأعتقد أن هذه الرسالة الواضحة قد وصلت لكل الأجهزة الأمنية).

قليل من الديمقراطية

عندما ذهبنا لمقابلة الدكتور محمد جابر الأنصاري, كان ذلك في مكتبه بجامعة الخليج حيث يعمل عميدا لكلية الدراسات العليا بهذه الجامعة, وهو واحد من أنشطة عديدة يقوم بها هذا المثقف المشغول بمسيرة النهضة العربية وعثراتها, كان المكان كله يوحي بالأمل في المستقبل, فهناك عشرات من الطلبة الصغار الذين جاءوا من كل دول الخليج لدراسة العلوم الطبية, كانت حركتهم الدائبة بين أروقة الجامعة ومدرجاتها ومعاملها توحي بأن هناك جيلا عربيا يتخلق ويستعد ليأخذ مكانه, ربما ليصلح من كل الأخطاء السابقة, كانت الجامعة نفسها عنوانا على التحدي, فقد أصرت على أن يكون اسمها (الخليج العربي), وكان الهدف منها هو صنع ذلك المستقبل المشترك بين أبناء الخليج الواحد, لقد تناقض الحلم كثيراً ولكنه مازال موجوداً, كأن بارقة الأمل التي خمدت في الكثير من بلادنا العربية تعاود اشتعالها هنا من هذه الجزيرة, جذوة صغيرة أشبه بزهرة الخلود في أسطورة جلجامش الشهيرة, كان الدكتور الأنصاري قد قدم لنا كتابه الأخير (مساءلة الهزيمة) ـ الذي قدمه رئيس التحرير في مقالته حديث الشهر في شهر أغسطس الماضي ـ وهو يتم فيه عمله الفكري الذي بدأه منذ فترة في تتبع مسيرة النهضة العربية, ولكنه في هذا الكتاب يصل إلى أشد المراحل إثارة للحزن والأسى فهي تبدأ بهزيمة 67 الشهيرة مرورا بكل الحروب العربية ـ العربية الدامية, الحرب اللبنانية والغزو العراقي للكويت, حتى نهاية القرن العشرين, لقد كان القاسم المشترك الأعظم في كل هذه المآسي هو غياب الديمقراطية, أقصد غياب الحد الأدنى من الديمقراطية, فهل يمكن أن يحمل لنا هذا القرن الجديد بارقة من الأمل?, لقد أثبت ما حدث في البحرين أن الدم الجديد في الحكم يمكن أن يأتي بأفكار جديدة, وأن جيل الأباء والأجداد الذي يمارس الحكم الآن قد أدى رسالته وآن له أن يستريح, ولكن هل تعني بارقة الأمل هذه أن الديمقراطية قد اقترب أوانها, وأن كل ما حدث في أوطاننا العربية بسبب غيابها يمكن أن يزول, يقول الدكتور الأنصاري: (إن تكوين مجلس الشورى الجديد يمكن أن يكون مؤشرا لطبيعة التغيرات القادمة في البحرين, فقد دخلته المرأة, بل وأصبح من حقها الآن أن تنتخب وان ترشح نفسها للمجلس القادم, وكذلك وجدت الأقليات الدينية مكانا لها, فالمسيحي البحريني واليهودي البحريني أصبح لهما مكان في المجلس لأن هناك حقيقة تاريخية وهي أن هناك العديد من العائلات اليهودية قد استقرت في البحرين في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى, كما أنه قد بنيت في البحرين أول كنيسة تبنى في تاريخ جزيرة العرب سنة 1890 وفيها الآن 13 كنيسة مع قلة عدد المواطنين البحرينيين المسيحيين, ولكنها تدل على مناخ التسامح الذي يسود في هذه الجزيرة منذ سنوات طويلة, وحتى الجاليات ذات الأصل الأسيوي وجدت لها مكانا, وسوف يمثل هذا المجلس أهل الخبرة في البحرين, أما تمثيل مناطق الجزيرة وتمثيل السلطة التشريعية فسوف يكون بالانتخاب الحر المباشر في المجلس الوطني القادم, إنها فرصة تاريخية لنا ويجب أن نعمل جميعا من أجل إنجاح هذه التجربة, إنني من أشد المؤمنين بالديمقراطية, ولكنني لا أعتقد أنها الحل السحري, فهي عنصر واحد من بين العديد من العناصر, ففي مرحلة ما من مراحل التطور العربي تصورنا أن الوحدة الشاملة سوف يكون فيها الحل لكل المشاكل, وثبت خطأ ذلك ونتج عن الوحدة بين مصر وسوريا العديد من المشاكل التي منعت قيام المحاولات الوحدوية فيما بعد, وتصورنا في فترة أن الانقلابات العسكرية والثورة هي الحل, وإذا بالعسكر يجيئون للسلطة ولايذهبون, ثم اعتقدنا بعد ذلك أن التربية يمكن أن تكون هي الحل فإذا بالتناقضات الاجتماعية تلتهم كل الجزر المتعلمة والمستنيرة داخل المدن, وأعتقد أنه في مجتمعاتنا العربية نحتاج إلى شيء نسبي من الديمقراطية وشيء كبير ومهم من الحكومة الصالحة, فالديمقراطية وسيلة غايتها الحكومة الصالحة, لأن الديمقراطية مع حكومة فاسدة أشبه بصب الزيت على النار, ولعل أهم التجارب من هذا النوع في الشرق في سنغافورة التي يتمتع فيها الأهالي بالقليل من الديمقراطية والكثير من الحكومة الصالحة وغير الفاسدة, وأقصد بغير الفاسدة هنا احترام المال العام ووجود وزراء طاهري الذمة, ومن حسن الحظ أنه في الأنظمة الملكية الموجودة في دول الخليج هناك نوع من السماح مع الرأي الآخر, ليس رسميا وليس مقننا, ولكنه موجود بالممارسة, وهناك نوع من الاستماع, أي أن الرجل رقم واحد في النظام يستمع إلى الرجل رقم اثنين والرجل رقم ثلاثة, وهذا لا يحدث في العديد من الأنظمة الثورية العربية).

غادرت البحرين وأنا أحمل في أعماقي تلك البارقة من الأمل وأتذكر وصفة الدكتور الأنصاري, قليل من الديمقراطية وكثير من الحكومة العادلة, ترى هل تصلح لمعالجة أوضاعنا المتردية في عالمنا العربي?!

 

 

محمد المنسي قنديل

 
 




صورة الغلاف





البحرين بارقة أمل





 





وزير الإعلام البحريني نبيل الحمر: أبوابنا كلها مفتوحة على مصاريعها





الجسر الجديد الذي يريط بين جزيرتي المحرق والمنامة والذي ساهم في صهر الشعب البحريني معاً





الماضي البعيد قبل بدء بناء الجسر والمراكب التي تساهم في نقل الركاب





الكاتب الصحفي إبراهيم نشمي: الميثاق ليس تجميلاً للواقع





الوسط التجاري للمنامة. الانفتاح هو الأمل في ان تستعيد البحرين نشاطها الاقتصادي الذي عُرفت به





شجرة الحياة عمرها أكثر من 200 عام، وتأخذ ماءها من جذور بعيدة الغور وسط منطقة قاحلة





جمال فخرو وكيل مجلس الشورى: لا فرق بين السنة والشيعة





خليفة الخليفة، مدير الإعلام الخارجي: البحرين دافعت طوبلاً ضد الخطر الخارجي





الفنان عبدالله المحرقي: كنت أرسم لأتغلب على ما بداخلي من ألم





قلعة البحرين عنوان صراع طويل في الدفاع عن الوجود





مسجد الخميس.. أول مسجد في الإسلام بني خارج الجزيرة العربية





الصناعات التقليدية لا تزال حيّة في سوق المنامة





صناعة سعف النخيل.. كانت النخلة تعطي البحرين كل شيء إلا الثياب





د. فؤاد شهاب: حقوق الإنسان قضية أساسية في البحرين





د. العريبي: شرعية الحكم تقاس بما يوفره للمواطنين من استقرار ونماء





أول بئر بترولي جرى تشغيله في البحرين عام 1935





المبعدون يعودون والبحرين تفتح ذراعيها لكل التيارات السياسية





الشيخ عبدالأمير الجمري: نحمد الله ان الحكمة قد فتخت باب الحوار





د. منصور الجمري: لم أكن أحلم بالعودة إلى البحرين مرة أخرى





جامعة الخليج العربي أحد أحلام التجمع الخليجي التي لم تكتمل. مازال الحلم قائماً





المفكر محمد جابر الأنصاري: قليل من الديمقراطية وكثير من الحكم الصالح





طلاب كلية الطب جاءوا إلى البحرين من كل دول الخليج العربي





من هذه المعامل تخرج طلائع الجيل الجديد





د. رفيعة عياش، مدير جامعة الخليج الابتسامة عادت لأبناء البحرين





أزمة البطالة في البحرين لا يحلها إلا المزيد من المشاريع الاقتصادية والاستثمارات الجديدة





رغم صغر البحرين, فقد وجدت الحيوانات البحرية محمية طبيعية لها. وهاهي المها العربية ترعى في سلام