لا بديل عن الحداثة الحبيب الجنحاني

لا بديل عن الحداثة

إنّ معرفة تجارب الآخر تساعدنا على فهم الأنا, وتحول دونها ودون الانغلاق, أو الشعور بالاستلاب, وتكشف في الوقت ذاته مدى عمق الهوّة الفاصلة بيننا وبين الآخر المتقدّم, دون الشعور بالدونيّة.

أود, بادئ ذي بدء, إبراز أربع مسائل:

أولا - بالرغم من مرور قرن ونصف على ظهور حركات اليقظة العربية فلايزال المجتمع العربي الإسلامي في حاجة ملحّة إلى الاطلاع بعمق, وعن كثب على تجارب الآخرين, خاصة تجارب الآخر المتقدّم: الغرب, فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى العلم بالاجتهادات, والإبداعات الفكريّة المعاصرة, وبما يجري هنالك من حوار متنوع وثري حول قضايا الفكر والسياسة والاقتصاد, في الوقت نفسه الذي يزداد فيه تساؤلنا حول قضايا الذات, وإشكاليّات الهويّة.

ومما يدعو إلى الحيرة, ويبعث في النفوس الخوف والريبة أن تتزامن هذه الحاجة الموضوعيّة الملحّة مع خطاب انغلاقي شوفيني يطل علينا بوجهه الكالح من هنا وهناك في الساحة العربية, محاولا التخفي, ونحن في مطلع الألفية الثالثة, وراء شعارات وطنيّة ضيقة, ومفهوم للسيادة عفا عليه الزمن, وتجاوزه قطار العولمة تاركا أنصاره واقفين في محطة الحنين إلى الماضي, والتغني بمحاسن هويّة أدركها الذبول, وأصابها الخسوف.

ثانيا - إن الحداثة كلّ لا يقبل القسمة, أو التجزئة, فلا يمكن أن نقبل على الحداثة في المجال الاقتصادي والتقني, ونهمل الحداثة في الفكر والسياسة.

نشأت الحداثة فعلا في ظروف تاريخيّة معيّنة, وفي بيئة حضاريّة لها سماتها الخاصّة, ثم عرفت تطوّرا ثريّا, ومرّت بمراحل امتزج فيها الفكر والنظر الفلسفي بالنضال السياسي والاجتماعي, وأثرت في الثورات التي عاشتها أوربا ابتداء من الثورة الفرنسيّة الكبرى إلى ثورة مايو 1968, وتأثرت بها, ولكنها تحوّلت مع الزمن إلى مشروع كوني, وهذا ما أدركه رواد الحركات الإصلاحيّة في المجتمع العربي الإسلامي منذ اللحظة الأولى, كما جاء في مؤلفات الطهطاوي, وخير الدين, وابن أبي الضياف, وبيرم التونسي, وجمال الدين الأفغاني, وقاسم أمين, والكواكبي, فقد ميّزوا تمييزا واضحا بين وجهي الغرب: الوجه البشع للغرب الاستعماري, والقائم على منطق القوّة المدمرّة, وعلى طمس هويّة الشعوب المستعمرة, وتشويه ثقافتها من جهة, ووجه الغرب في عقر داره: وجه الحريّة والتقدّم من جهة أخرى, وكانوا واعين لما حرصوا على وصف الوجه المشرق للغرب فيما تركوه لنا من نصوص, ورحلات مثل (الإبريز في تلخيص باريز) للطهطاوي, أو (أقوم المسالك) لخير الدين, أو فيما كتبه الشيخ بن أبي الضياف عن رحلة أحمد باي إلى فرنسا عام 1846.

لقد بُهروا, دون ريب, بما شاهدوه من مظاهر تقدّم الآخر, ولكنهم أدركوا أنّ ذلك لم يتحقق إلا بعد تخلص أوربا من ويلات الحكم المطلق القهري, ومن هنا جاء تركيزهم - نتيجة وقوفهم هناك على هذه الحقيقة الساطعة - على ضرورة الإصلاح السياسي في المجتمع العربي الإسلامي.

قد يتخذ إنجاز المشروع الحداثي - شأنه في ذلك شأن المشروع الديمقراطي - أساليب متنوّعة في عالم الممارسة, فقد اختلفت صيغ الحداثة التي طبقت في أقطار أوربا الشماليّة عن صيغها المنجزة فيما بعد في بلدان شرق أوربا, أو جنوبها, ولكن الأهداف, والأسس النظريّة لم تتغيّر, وهي متعدّدة, ومتنوّعة, ونستطيع أن نلخصها في المقولة التالية: الانتقال من التمركز حول الكنيسة والسلطان إلى التمركز حول الإنسان والدستور.

ثالثا - الحداثة حركة دائبة تخضع لمنطق الجدليّة الخصبة والمعقدة بين النظرية والتطبيق, فهي ليست نظاما مغلقا, فمن الطبيعي إذن أن تمرّ بمراحل, وأن تتباين حولها الرؤى, بل زعم بعض المفكرين الغربيين أنها قد دخلت في أزمة لما عرفت العقلانيّة: الأس المتين للحداثة ضمورا وخسوفا, عبرت عنه مدرسة فرانكفورت أثناء الحرب العالميّة الثانية. فليس من الصدفة إذن أن تبرز صيحة الفزع هذه من بين صفوف فلاسفة هذه المدرسة الألمانيّة, وقد عاشوا عن كثب ويلات النازيّة, وشاهدوا كيف استغلت إنجازات الحداثة, وبخاصة في المجال الصناعي والتقني, من أجل اضطهاد الشعوب, وإبداع تقنيات جديدة لإحكام غلق أبواب المحتشدات, والتفنن في ممارسة التعذيب حتى الموت.

أزمة الحداثة

ثم عرفت الحداثة أزمة أخرى في النصف الثاني من القرن العشرين لما تخلت البورجوازيّة عن مثلها, واستسلمت إلى منطق السوق, فطغت ظاهرة المجتمع الاستهلاكي, وتسليع حياة الناس وقيمهم, وهكذا رفعت المعاول لنسف أسس الحداثة, وبرز تيار خطر نادى بمجتمع ما بعد الحداثة, وقد ركّز أعداؤها في الغرب اليوم على ظاهرتين سلبيتين ليعلنوا فشل المشروع الحداثي:

- ظاهرة العنف الفردي والجماعي, وكذلك ظاهرة عنف بعض النظم ضدّ الإنسانيّة, كما حدث ذلك أيام النازية, أو أيام الستالينيّة, وكما برز أخيرا في منطقة البلقان. ويتجاهل هؤلاء أمرين أساسيين:

أ - أن ظاهرة العنف ليست ظاهرة وليدة الحداثة, بل هي ظاهرة تاريخيّة,

ب - أنه لولا الحداثة بقيمها من جهة, ووسائلها الناجعة من جهة أخرى لما أمكن وضع حد للتصفيات العرقيّة والطائفيّة كما حدث في البوسنة والهرسك, وكوسوفو, ولما أمكن إماطة اللثام عن الوجه الآخر للديمقراطية الإسرائيليّة, وجه الزيف والأيديولوجيّة العنصريّة.

- أمّا الظاهرة الثانية التي يستغلونها فهي ذات طابع أخلاقي قائلين: إن الإفراط في الحريات باعتبارها سمة أساسيّة من سمات الحداثة أفرزت حرية الجنس وذيوعها عبر الوسائل الحديثة, وما أدى إليه من سلبيات تمس حياة المجتمع. وينسى هؤلاء أن ظاهرة الجنس قديمة قدم المجتمع البشري, وأن هنالك مجتمعات غرقت فيها إلى الأذقان, قبل أن تولد الحداثة, وأن انتشار الظاهرة اليوم عبر وسائل الحداثة المتطورة يسمح بالتعرّف إلى سلبياتها, والسيطرة عليها, وهو أمر غير ممكن في المجتمعات المتخلفة والمغلقة.

ولعلّه من الغريب أن نقول هنا: إنّ خطاب ما بعد الحداثة يلتقي في نهاية المطاف مع مقولة: (نهاية التاريخ) التي ترى في الليبرالية الجديدة نهاية لا يمكن تجاوزها من جهة, ومع الأصوليين في إعلانهم فشل مشروع الحداثة من جهة أخرى. إننا نعرف أنّ أنصار تيار ما بعد الحداثة يؤمنون بالديمقراطية, وبحق قوى المجتمع المدني في تقرير مصيرها, وتسيير شئونها, ولكن خطابهم يكتفي بتفكيك الظواهر المجتمعيّة, وتفسيرها دون التأثير فيها من أجل تطويرها, ونقطة الخطر فيه فقدانه لرؤية كلية متسقة, فلا غرابة أن نجد فيلسوفا بارزا من فلاسفة مدرسة فرانكفورت (جورقن هابرماس) (JURGEN HABERMAS) يعد التنظير لعصر ما بعد الحداثة ردة فعل محافظة, ويائسة ضدّ التنوير, ويؤيده الفيلسوف الألماني الشاب (ماركارد) (MARQUARD) داعيا إلى المحافظة على مكتسبات عصر الأنوار, ويعارض كلّ موقف يقول بفشل عصر الأنوار والتنوير.

(قد يفاجأ البعض حين يعلم أنني أنتصر لعصر الأنوار, وأذود عنه), ويضيف قائلا: (أعتقد أنّ هذا الميل إلى ترك الحاضر خلفنا, وتجاوز العصر الحديث يكمن ضمنيا وراء المحاولات المعلنة عن نهاية التاريخ, والحقبة الحديثة من جهة, وظهور ما بعد الحداثة من جهة ثانية, إن الأشياء تكاد تحدث أحيانا في الخفاء, وتحركها في العمق نزعة لا أحبها شخصيا, أقصد نزعة المعاداة للحداثة التي لا أشايعها لأسباب عديدة أذكر من بينها السبب التالي: وهو أنه عندما ندعو إلى ترك الحداثة, فإننا ندعو إلى ترك مكتسبات عصر الأنوار).

إنّ التقليد السريع, والركض وراء (موضات) الفكر الغربي أديا إلى انتشار تيار ما بعد الحداثة في الساحة الفكريّة العربيّة, والسؤال لايزال في صفوف المفكرين الغربيين مطروحا عن الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء ظهوره في المجتمع الغربي, وقد نجد له هناك تفسيرا مرتبطا بالأزمات التي عاشتها الحداثة في عقر دارها, وهي قضيّة مطروحة على المستوى الفكري, أما إنجازات الحداثة فلا خلاف حولها.

رابعا - إنّ مظاهر الحداثة التي نشاهدها اليوم في المجتمعات النامية بصفة عامّة هي بعيدة كلّ البعد في أسسها النظريّة, وقيمها الفكريّة والإنسانية عن حداثة عصر الأنوار, أي الحداثة الغربيّة في المرحلة الأولى, ثم الكونيّة فيما بعد, فهي واحات تحديث قد تضيق, وقد تتسع حسب تجارب الأقطار جاءت نتيجة تأثير الآخر, والاقتباس منه.

إننا نميّز تمييزا جليّا بين الحداثة والتحديث.

الدولة الاستبدادية

أبرزنا فيما سبق أن حداثة عصر الأنوار ليست نظاما مغلقا, أو إيديولوجيّة متحجّرة يجب أن يخضع لمبادئها الواقع المعيش, بل هي رؤية متفتحة أسست على قيم معينة تمثل دعائمها الصلبة, وقد استطاعت الصمود طيلة قرنين ونصف, ولكنها مرّت بمراحل تطوّر متعدّدة, وتفاعلت جدليا مع الواقع السياسي والاجتماعي, وعرفت كذلك الأزمات, ومكاسب الحداثة هي التي سمحت بكشف هذه الأزمات. ودلّت على طرق تجاوزها. ولا ننسى في هذا الصدد التذكير بأن الليبرالية الديمقراطية هي الوجه السياسي للحداثة, وهنا يكمن جوهرها, وتتكشّف لنا قدرتها على تجاوز النقائص, وإصلاح العيوب, وقد لمحنا إلى أن الأصوات الأولى الناقدة للحداثة ارتفعت من بين صفوف جماعة مدرسة فرانكفورت في الأربعينيات, والخمسينيات, وكان ذلك مرتبطا بظهور النازيّة في مجتمع أوربي اشتهر بتراثه الفكري والفني الثري, والنازية أعتى مظاهر الأصوليّة, وأكثر صورها بشاعة وتطرّفا, شأنها في ذلك شأن الصهيونيّة, فكلاهما يؤمن بنقاوة العرق, وصفاء الدماء, وحق (الشعوب المختارة) في أن تغزو غيرها وتسيطر عليها, وشاهد المفكرون الغربيون عن كثب, كيف أفادت النازيّة من تقدّم الحداثة في المجال الصناعي والتقني للتنصت على الناس, وعدّ أنفاسهم, وإحكام نظام المحتشدات, والتفنن في وسائل التعذيب, واضطهاد الشعوب, ورأوا في الدولة الاستبداديّة (التوتاليتاريّة) إفرازا للحداثة, وهنا وقع خلط بين استغلال التقدّم العلمي والتقني - وهي نتيجة طبيعيّة للحداثة - واستعماله ضد الإنسان, وبين مكاسب الحداثة, وهي التي مكّنت من إماطة اللثام عن الوجه الحقيقي للفاشيّة والنازيّة, وحشدت الشعوب الحرّة لمقاومتها, والانتصار عليها, فقد كان اليسار الأوربي, وضمنه اليسار الألماني, نصلا بليغ الأثر في الانتصار على النازيّة, ولا ننسى أنه سليل عصر الأنوار.

وقد فطن الجيل الثاني من مفكري مدرسة فرانكفورت إلى خطر الخلط المذكور فأعلن الفيلسوف الألماني جورقن هابرماس أن الحداثة مشروع لم يكتمل, متصدّيا بذلك إلى أنصار التيار السلبي الذي حاول استغلال النقاط السلبيّة في مسيرة الحداثة لينسف أسسها, ويعلن سقوط المشروع.

وبرز تيار آخر في الغرب بدأ يقف موقفا نقديّا من الحداثة بعد أن تخلّت الليبرالية الكلاسيكيّة - الناشئة في أحضان الحداثة منذ القرن الثامن عشر - عن قيمها ومثلها, وانقادت إلى منطق السوق فحلّت محلها الليبرالية الجديدة المتطرّفة مبشرة بأصوليّة جديدة لا تقل خطرا عن الأصوليات القديمة, وأعني بها أصوليّة السوق والربح, ومحاولة إخضاع المجتمعات الإنسانيّة, وآمال سكانها, وقضاياهم المعقدة إلى معيار واحد هو الربح, فأدى ذلك إلى طغيان ظاهرة المجتمع الاستهلاكي, وتسليع كل شيء في حياة البشر حتى القيم والعواطف, وتزامن ذلك مع ظاهرة أخرى هي تجمّع الثروات الكبرى على المستوى العالمي والوطني بين أيدي فئة قليلة فأدّى ذلك إلى ازدياد خطر البطالة, وتهميش عدد كبير من الناس, وتدحرج الطبقة الوسطى نحو أسفل السلم, وقد كانت عامل التوازن في كثير من المجتمعات, صامدة أمام أنواع المغالاة والتطرّف النازلة من قمّة الهرم, أو الصاعدة من سفحه.

وفرض منطق السوق, والمنافسة والتراكم وزيادة الإنتاج, وهو أمر إيجابي في حدّ ذاته, ولكنّه أدى إلى ارتفاع الاستهلاك بنسب لم يعرفها التاريخ البشري من قبل من جهة, وإلى استنفاد مخزون المواد الخام, وهو لا يتجدّد, من جهة أخرى, فأحدث ذلك خللا في التوازن البيئي, وهو وضع لا يمكن أن يستمر على مرّ السنين دون قيود وحدود.

ومن المعروف في تاريخ تطوّر الرأسمالية منذ مرحلتها الأولى أن هدف التقدّم الاقتصادي هو التقدّم الاجتماعي, لكن الملاحظ منذ الربع الأخير من القرن الماضي هو هيمنة شعار التقدّم الاقتصادي ليصبح صاحب السلطة الأولى, وتوارت فكرة التقدم الاجتماعي, بل أصبحت فئات اجتماعية واسعة تحرم من موارد رزقها, وتهمش تحت شعار منطق السوق, وحدّة المنافسة, فلم يعد الإنسان هو الهدف, بل تحوّل إلى آلة مسخّرة لخدمة النجاعة الاقتصادية, ويلفظ لفظ النواة إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

ومن الأسباب الكامنة وراء موجة نقد الحداثة في الغرب موقف النيوليبرالية من مشاكل شعوب بلدان الجنوب, وما تعانيه من استغلال, وفقر, وأوبئة فتاكة, وهي غير مستعدّة لأن تكفر عن ذنوب شقيقتها الكبرى, الليبرالية الكلاسيكيّة, وقد استعمرت هذه الشعوب, ونهبت خيراتها أحقابا من الزمن, تكفّر عن ذنوبها بالكفّ عن التدخل في شئونها, وإذكاء نار الفتن بينها ترويجا لإنتاجها العسكري, وبالتخفيض من ديونها المرهقة, أو تحويلها إلى قروض استثماريّة تساعد على التنمية.

هذه أبرز الأسباب التي جعلت اليوم فئة من كبار المفكرين الغربيين - وبينهم فلاسفة, وعلماء اجتماع, واقتصاديون - يقفون موقفا نقديّا من الحداثة.

تشويه الحداثة

وممّا زاد الطين بلّة أن سدنة العولمة حاولوا بذكاء ومكر عولمة الحداثة, زاعمين أن البشريّة جمعاء سائرة نحو نموذج الحداثة الغربيّة اليوم, ونحو نمط تنميتها الاقتصادية, في الوقت الذي تؤكّد فيه جميع الدراسات الجديّة المستقبليّة أن عولمة الحداثة ليس لها مستقبل على المدى البعيد.

إنّ هذه المحاولة هي قلب للحقائق, ووضع للعربة أمام الحصان, إنّنا لا ننكر أن الظاهرة التاريخيّة الجديدة: العولمة بإيجابياتها وسلبياتها هي البنت الشرعيّة للحداثة, ولكنّ هذا لا يعني أن الوليد الجديد لا يشكو من نقائص, وتشوّهات, وإن كان الرحم خصبا وسليما, فالوليد يريد أن يوظّف الحداثة في سبيل تحقيق أهدافه, معتبرا نفسه ممثلا وفيّا للرحم الذي نزل منه, وقد فطن المحلّلون إلى هذه المراوغة الذكيّة, فانكبّوا على نقد الفرع, ولم يحاولوا اقتلاع الأصل - الحداثة - من جذوره , كما فعل آخرون.

إنّ الحداثة هي التي تسمح بفضل أسسها الفكريّة والسياسية, وخاصة بفضل وجهها الليبرالي الديمقراطي بكشف مساوئ العولمة, والتصدّي لها عن طريق النضال السياسي والاجتماعي, كما برهنت على ذلك أحداث الأعوام الأخيرة, وقد كان لها أثر كبير في كبح - السلطة السياسيّة في كثير من البلدان- جماح زعيمة العولمة الليبرالية المتطرّفة.

يقرّ أصحاب الرؤية النقديّة للحداثة في موجتها الثانية بأن إعادة النظر والتقويم ليس أمرا سهلا, فهو يحتاج إلى مراجعة المصطلحات القديمة, والتخلّص من نظرة (الخبراء) إلى هذه المسائل المعقدة, إنهم يملكون الخبرة في مجالات اختصاصهم الضيق, ولكن ليست لهم رؤية شموليّة للقضايا, وليست لهم في جلّ الحالات ثقافة عامّة تسمح لهم بتبني نظرة متكاملة إلى قضايا الحياة والإنسان, ويخضعون في نهاية المطاف إلى قوى السوق الضاغطة, وقد أثبتت تجارب الأعوام الأخيرة أنهم لا يقيمون وزنا يذكر للعوامل الاجتماعية, ويهملون كلّ ما لا يمت بصلة إلى قواعد لعبة السوق.

إن القضيّة في حقيقة الأمر ليست قضية فنيّة, وليست كذلك قضيّة فكريّة بحتة, وإن كان للفكر فيها أثر كبير, بل هي قضيّة سياسيّة, ولذا يقترح أنصار التيار النقدي فتح حوار سياسي عميق حول مبادئ التطوّر العام للنظام الحالي: أساليب تسييره, والنتائج التي سيؤدي إليها, فلا يمكن أن يقتصر الأمر على تحليل الظاهرة الاقتصادية, واتخاذها محكّا وحيدا في الحكم على قضايا المجتمع, فهي ليست في عزلة عن المسائل الاجتماعية والثقافية, وعن التنظيم السياسي, وهو الذي يحدّد هويّة الدولة وأهدافها, وللحداثة علاقة جدليّة بنظام الدولة عبر مراحلها المختلفة.

هل اكتمل مشروع الحداثة?

قد يتساءل البعض قائلا: ما الهدف من فتح حوار سياسي? الهدف واضح في صفوف أنصار التيار - وهم الذين ينقدون المظاهر السلبيّة لظاهرة الحداثة, ولكنهم يحافظون على جوهرها, بل ينافحون عنه - ويتلخص هذا الهدف في اقتراح نظام بديل يتجاوز النظام السابق بتجديد مسيرة الحداثة, فهي ليست نظاما مغلقا متحجرا, كما ألمحنا إلى ذلك, وليس معطى ناجزا منح للبشريّة مرّة واحدة, بل هي مسار للأحداث الحيّة, وصيرورة متفاعلة جدليا مع الواقع المعيش المعقد, فهي في تحوّل أبدي, ويمكن القول إن لكل مرحلة تاريخيّة حداثتها, تتجاوز المرحلة السابقة بتجديد لبّ الظاهرة, وتأكيد كونيّته, وهذا ما قصده هابرماس عندما قال: إنّ الحداثة مشروع لم يكتمل, وقد انطلق من داخل الحداثة وخطابها الفلسفي في نقده لينقذ المشروع الحداثي, مستخدما العقل كي يهدم أبنية العقول المتحجّرة التي تنكرت لقيم الحداثة مثل (العقل الأداتي) الذي استغلته نظم شموليّة لتتنكّر لأنبل قيم الحداثة ومبادئها: حريّة الإنسان, و نادى هابرماس (بالعقل التواصلي) المتفتّح, فليس أخطر على الحداثة من الانغلاق, والنظرة الوطنيّة الشوفينيّة. إنّ أفضل السبل في نظري لإصلاح نقائص الحداثة هي دعم القواعد الصلبة التي أسست عليها حداثة عصر الأنوار, والتي يمكن تلخيصها في كلمات معدودات: الإنسان حرّ, وبالتالي فهو الذي يقرّر مصيره, ومصير المجتمع الذي يعيش فيه, وهو بفضل وعيه, ونضاله الطويل قد أسقط مقولة حتميّة التاريخ. المشروع الحداثي يذكرنا في هذا الصدد بالمشروع الديمقراطي, فهو يختلف حسب ظروف المكان والزمان, ولكنه يحافظ دائما على جوهره: سيادة الشعب في تقرير مصيره, وتحديد النظام السياسي الذي يدير شئونه عبر انتخابات ديمقراطية حقيقيّة تفتح الباب على مصراعيه لإمكان التداول على السلطة.

إن أفضل السبل لإصلاح عيوب المشروع الديمقراطي هي المزيد من الديمقراطيّة, وقد أثبتت التجارب السياسيّة المعاصرة أنّه لا حداثة حقيقيّة تقود المجتمع نحو التقدّم والتحرّر دون ديمقراطية.

يذهب أصحاب النظرة (الاقتصادويّة) الضيّقة إلى أنه يمكن تحقيق الحداثة دون ديمقراطية, ضاربين مثلا على ذلك بإسبانيا في عهد فرانكو, وهي نظرة خاطئة, ذلك أنها تخلط بين الحداثة, ومحاولات التحديث, ومنها نماذج كثيرة أنجزت في ظلّ نظم استبداديّة في بلدان العالم الثالث بصفة خاصّة, وهنالك خلط آخر في مثال إسبانيا أيام حكم فرانكو الديكتاتوري, خلط بين الحداثة وطفرة اقتصاديّة مؤقتة ساعدت عليها ظروف تاريخيّة معيّنة, مثل تزامن النمو الاقتصادي في دول الرفاه بغرب أوربا وشمالها مع موضة السياحة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط في الستينيات.

أمّا البرهان الساطع على استحالة تحقيق الحداثة, كما وضعت أسسها في عصر الأنوار, مع إهمال الوجه الآخر للعملة: الديمقراطية الليبرالية, فيتمثل في التجربة السوفييتية, فقد أدى السباق العسكري مع الغرب إلى تركيز الجهود على البحوث في مجال العلوم والتقنيات الحديثة, وبالخصوص في ميدان غزو الفضاء, فقفز الاتحاد السوفييتي إلى مرتبة الدول العظمى, وتبوّأ المكانة الثانية في العالم عسكريا, ولكن العملاق قد سقط في نهاية المطاف, واتضح أنّ ما حققه من تقدّم كان تحديثا في مجالات معينة, وضمن واحات مغلقة, ولا علاقة له بأسس الحداثة, بل جاءت التجربة دليلا آخر على الإفادة من مكتسبات مظهر من مظاهر الحداثة: التقدّم العلمي والتقني, أي (العقل الأداتي) للسيطرة على الشعوب واضطهادها, فكيف يمكن أن نتكلّم عن الحداثة في مجتمع هجّرت فيه قسرا شعوب بأسرها, وأعدم فيه آلاف من نخبته السياسيّة والفكريّة والفنيّة, وسيق الملايين إلى محتشدات (الفولاف)!

إنّ تشويه الحداثة في التجربة السوفييتيّة وتقويض دعامة صلبة من دعائمها: الحريّة, فتح الباب أمام ظهور الأصوليّة الشعبويّة عوض الحريّة, كما كان الشأن في التجربة الفاشية بإيطاليا, والنازيّة بألمانيا, والأصوليّة الشعبويّة لا تقلّ خطرا عن الأصوليّات المتطرّفة الأخرى.

ونود الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ أنصار تيار النقد البناء للحداثة أفادوا من جميع التجارب المعاصرة, وأدركوا أن نقدهم هدم من أجل البناء, هدم للسيئ, ومحو للخدوش لإقامة بناء جديد, ولكن دون نسف القواعد, كما يذهب إلى ذلك تيار آخر يلتقي أصحابه مع الأصوليين بشتى نزعاتهم حينما يعلنون سقوط المشروع الحداثي.

إنّ النقد البناء ينأى بنفسه عن منطق (الكل أو لا شيء), لأنه منطق يفضي إلى قبول الكل خوفا من إضاعة الكلّ, إنّ أصحابه واعون بالتحوّلات الكبرى التي يعيشها العالم, ومدركون أن رسالة المثقف قد تغيّرت تغيّرا جذريا نتيجة التطوّر السريع لتقنيات الاتصال, ولكنّهم متمسكون بدعامتي الحداثة: العقل والحرية, فهما سلاحهما الناجع في مواجهة تحديات رأس المال, والسلطة, وتيارات الانغلاق والتطرّف. وعندما نعود إلى مسألة نقد الحداثة, ونطرحها عربيا فكيف يكون موقفنا?

سبق أن ألمحنا إلى أن الظاهرة قد تحولت من ظاهرة غربيّة إلى ظاهرة كونيّة مثلت القدوة والنموذج لشعوب المجتمعات غير الغربيّة, وفي طليعتها الشعوب العربيّة, ومن هنا فلا مناص من التعرّف إلى الأزمات التي عرفتها في بيئة النشأة بصفة خاصة, وأدت إلى بروز موجة نقد الحداثة, أو ظهور مفهوم (ما بعد الحداثة), ولكنني أميل إلى الاعتقاد بأن مقاربتنا للمسألة ينبغي أن تكون مختلفة عن مقاربة التيار الفكري الغربي المعادي لحداثة عصر الأنوار, مفيدا من نقائصها لينسف أسسها, مسخّرا الجانب الأداتي التقني منها خدمة لمنطق السوق, وظاهرة المجتمع الاستهلاكي من جهة, وأن تكون مختلفة كذلك عن مقاربة أنصار التيار النقدي الإيجابي, ونجد في صفوفهم هابرماس, وآلان توران من جهة أخرى على الرغم من اتفاقنا معهم في الرؤية, تكون مقاربتنا مختلفة عنهم لأننا لا نعاني من إرث حربين كونيتين في القرن الماضي, ولا من إرث حروب استعماريّة طاحنة قتلت الأبرياء والأطفال والشيوخ, وأحرقت قرى بأسرها, كما حدث في فيتنام, والجزائر, ولا نعاني من عقدة نصرة دولة تقوم على أيديولوجيّة شوفينيّة هي الصهيونيّة تستعمل الأساليب النازيّة فتنسف البيوت, وتشرّد السكان الأصليين للبلاد: الشعب الفلسطيني.

إنّ بعدنا عن جميع هذه الظواهر السلبيّة, وما أفرزته من مركبات في صفوف النخبة المثقفة الغربيّة, تجعل مقاربتنا أبناء العالم الثالث لظاهرة الحداثة ونقدها أكثر موضوعيّة وجرأة شريطة التمسك بجوهرها, والتعاون مع قوى التقدّم والحريّة في المجتمع الغربي.

فلا مناص لقوى الحريّة والتقدّم في المجتمع العربي الإسلامي من الذود عن مقولة: إن حداثة عصر الأنوار مشروع لم يكتمل, فهو قابل للنقد والتجديد, ولكن بشرط الانطلاق من دعائم التأسيس, وينبغي أن نعي في الوقت ذاته أنّ القوى المعادية للمشروع الحداثي متنفذة في بلداننا تتحالف في بعضها السلطة السياسيّة مع قوى أصوليّة متخلّفة ترفض الحداثة وأنصارها, وتعتبرها دخيلة على المجتمع العربي الإسلامي. إن الحداثة باعتبارها مشروعا كونيّا تمثل خشبة النجاة, والأمل في التصدي للفكر الغيبي الأسطوري, والخلط بين شئون السماء, وشئون الأرض من جهة, وللفكر السياسي الاستبدادي من جهة أخرى, وينبغي ألا ننسى كذلك أن فلسفة حقوق الإنسان قد أصبحت منذ الربع الأخير من القرن الماضي أسا متينا من أسس الحداثة الكونيّة, وهو مكسب جديد لجميع الشعوب, وخاصة الشعوب العربيّة. تتمثل قوة الحداثة في رسالتها التحريريّة, ومن هنا فلا بديل للشعوب عنها.

 

الحبيب الجنحاني