أرقام

أرقام

الحكومات والإيدز

في عام "1989" أعلنت حكومة تايلاند خبراً أصاب الكثيرين بالانزعاج. قالت الحكومة في بيان لها إن "44%" من المشتغلات بمهنة الجنس مصابات بفيروس الإيدز مما يهدد الكثير من الرجال, ويهدد معهم بالتالي الزوجات اللاتي يعاشرونهن, بل وأطفال الجيل التالي الذين يمكن أن يلتقطوا المرض من بطون أمهاتهم!

ولم يكن ذلك حدثاً فريداً, ففي تقرير أخير للبنك الدولي أنه في "فرانسيس تاون" ببتسوانا وفي هراري بزيمبابوي بلغت نسبة السيدات المصابات بفيروس نقص المناعة البشرية أربعين بالمائة من الحوامل المترددات على عيادات الرعاية الصحية.

وفي نفس التقرير الذي جرى وصفه بأنه تقرير بحثي صادر عام "98" أنه خلال أحد عشر شهراً من عام "1995" ارتفعت نسبة المصابين بالايدز بين متعاطي المخدرات بالحقن في مدينة نيكولاييف المطلة على البحر الأسود من "2" بالمائة إلى ستين بالمائة!

الأرقام مزعجة وتستدعي ذلك الايقاع المتسارع من المنظمات الدولية التي تتابع مشكلة الإيدز. ومع ذلك فهي ليست أكثر إزعاجاً مما تشير له أرقام أخرى حول الحصاد النهائي للإيدز حتى هذا العام, وحول التوقعات في عشرين عاماً قادمة.

من الحصاد النهائي نختار مجالاً سجلت فيه البشرية تقدماً كبيراً, ثم عاد ذلك التقدم لينتكس بتأثير فيروس الإيدز, أعني: ذلك التقدم الذي حدث في توقعات العمر بالعالم.

لقد زاد متوسط العمر المتوقع في البلدان النامية من "40" عاماً في المتوسط عام "1950" إلى "63" عاماً سنة "1990".

التقدم هائل, لكن ذلك التقدم بات مهدداً. فقد هبط متوسط العمر المتوقع في زيمبابوي بمقدار "22" عاماً. وفي كل من كوت دي فوار وبوركينافاسو أحد عشر عاماً. وفي جنوب إفريقيا سبعة أعوام والبرازيل نحو خمسة أعوام.

إنه التقدم للخلف إن جاز التعبير, وهو التراجع من أعلى نقطة وصلها متوسط العمر في هذه البلدان.

و.. تستمر الأرقام المزعجة, حين تقول إن التوقعات تذهب إلى أن الإيدز سوف يصبح أكبر مصدر وحيد للأمراض المعدية بين البالغين وفي ريعان الشباب عام "2020".

الحكومات ومشكلة الخيارات

السؤال: ماذا تفعل الحكومات إزاء هذا الخطر؟

المعضلة أن البلاد الأكثر فقراً في إفريقيا هي الأكثر تعرضاً لخطر الإيدز. ووفقاً لتقرير البنك الدولي فإن هناك وعلى خريطة الدول النامية بلدانا تضم "2.3" مليار نسمة ومازال المرض فيها ناشئاً ومثال ذلك: الصين والهند واندونيسيا.

هناك أيضاً بلدان تضم "1.6" مليار نسمة من السكان ذات "أوبئة مركزة" طبقاً للتعبير الذي استخدمه التقرير والذي يعني أن اكثر من 5% من الأفراد الذين يواجهون هذا الخطر قد أصابتهم العدوى, لكن العدوى لم تنتشر بين السكان مثلما هو الحال في الهند والصين وغرب إفريقيا وأجزاء من الهند.

و..يأتي دور البلدان التي ينتشر فيها الوباء انتشاراً واسعاً, ويبلغ عدد سكانها "250" مليون نسمة. ومعظمها في إفريقيا.

وكما أن هناك تركزاً للمرض في مناطق جغرافية بعينها, فإنه أكثر انتشاراً في فئات بعينها مثل: ممارسي البغاء, ومتعاطي المخدرات عن طريق الحقن. وربما في شرائح مهنية مثل الجيوش والتي كانت محل اهتمام الباحثين في مجال الإيدز.

الحكومات تواجه ذلك, والسؤال ماذا تفعل؟

وهو سؤال تحده شطآن كثيرة.

تحتار الحكومات ـ خاصة الفقيرة ـ ما بين أولويات الإنفاق, وتقول الدراسات إن ثمن علاج مريض بالإيدز يعادل تكلفة تعليم ابتدائي لعشرة أطفال لنفس الفترة, فأي المجالات تختارها الحكومة لتوجه إنفاقها المحدود إليه؟

إذا اختارت أولوية التعليم انتشر المرض وأصبح خطراً, واذا اختارت مكافحة المرض فقد تهمل التعليم أو مجالات الصحة الأخرى, ولا طريق غير حل وسط توائم فيه بين المجالات المختلفة.

والمعضلات بعد ذلك كثيرة.

فالأرجح أن يبدأ التعامل مع "الإيدز" في بلد ما بإنكار من السياسيين, ذلك أن مريض الإيدز قد يحمل المرض عدة سنوات دون أن تظهر آثاره. إنها فترة حضانة تتيح للسياسيين أن يخفوا الحقائق. ولكنهم في لحظة معينة لا يملكون إلا الاعتراف. إن عليهم أن يختاروا بين حاضر مقلق ومستقبل خطر,أو أن يرضوا بالقلق والتعامل معه ليتجنبوا أخطار المستقبل القريب.

وقد يكون من المعضلات نوعية الفئات الأكثر تعرضاً للإصابة, فإذا كان التعامل مع متعددي العلاقات الجنسية متاحاً, فإن التعامل مع مرضى المخدرات أكثر صعوبة, ومع فئات مثل الجيوش أكثر حساسية.

وتقول دراسة تم إجراؤها على خمسين بلداً صناعياً ونامياً, إن خُمس جيوش هذه البلدان لم توزع العازل الذكري الذي يساعد في الوقاية, لكن كثيراً من الجيوش الأخرى توزعه بالمجان تشجيعاً على استخدامه.

هكذا تعددت الصعوبات, لكن أياً منها لا يعفي الحكومات من أن تلعب دورها في التعامل مع الإيدز كوباء خطر.

مهام عاجلة

دراسات البنك الدولي تتصور ثلاث مهام عاجلة للحكومات:

مهمة أولى: إثارة الوعي بالقضية, نشرالمعلومات التي تستفز المواطن لأن يبتعد عن الأخطار, والمثال ما فعلته حكومة تايلاند عام "89" حين نشرت أنباء الإيدز بين المشتغلات بالجنس. والمثال أيضاً ما تفعله حكومة الولايات المتحدة وأدى لمضاعفة استخدام الواقي الذكري.

المهمة الثانية, ووفقاً لطريقة التفكير عند رجال الاقتصاد: خفض تكلفة السلوك الجنسي الآمن وتوفير الحقن الآمن ايضاً. والحديث هنا عن الوسائل التي يتم توزيعها على محترفي الجنس أو متعاطي المخدرات. بالمجان, أو بأسعار رمزية.

وتأتي المهمة الثالثة بزيادة تكلفة السلوك الخطر, فيتم على سبيل المثال: تجريم الجنس التجاري, وتحريم الدعارة, وإغلاق الأحياء المخصصة لذلك في مدن مختلفة, فالمتردد على هذه الأحياء قد يدفع جزءاً من حريته ويدخل السجن ثمناً للحظة حرام.

و.. تختلف الآراء حول هذا المنهج فالبعض يعتقد أنه ضروري, والبعض يرى أن شطب أحياء الفساد والتي يمكن محاصرتها والتعامل معها قد يؤدي لانتشار سري أكثر خطورة!

في كل الأحوال, أصبح على الحكومات أن تضع برامجها لمقاومة ذلك الخطر, خطر الموت الاختياري بلحظة حب فاسد, أو حقنة مخدرات, أو قطرة دم تحمل الفيروس.

والمهمة قد تبدو سهلة في بلاد تحميها القيم الدينية مثل البلاد العربية. ولكن. ماذا عن إفريقيا السوداء الأكثر فقراً, والأكثر تعرضاً للخطر؟

العالم لن يجد علاجاً ناجعاً بغير اختراع يجعل الإيدز مثل الإنفلونزا, حقنة من مضاد حيوي "أو غير ذلك" قد تكفيه. حدث ذلك في أمراض السل والكوليرا والجفاف عند الأطفال.

إنه العلم, ملاذنا الأخير.

 

محمود المراغي