شعاع من التاريخ
صلاح الدين والطريق إلى القدس في العشرين من سبتمبر 1187 ـ قبل ثمانمائة وعشر سنوات ـ بدأ صلاح الدين الأيوبي هجومه لتحرير القدس من أيدي مغتصبيها الصليبيين. كانت بداية الهجوم عند باب عمرو في الجانب الشمالي من بيت المقدس, حيث اقتحم المسلمون سور المدينة ونقبوه. ولم يكن ذلك عن غدر أو مفاجأة, إذ كان القائد قد عرض على بعثة من سكانها الصليبيين وهو أمام عسقلان أن يسلموا المدينة بالشروط نفسها التي استسلمت بها بقية المدن الصليبية في فلسطين, فيؤمنهم على أرواحهم ونسائهم وأولادهم وأموالهم. كانت لديه رغبة في عدم استخدام العنف مع مدينة لها حرمتها عند المسلمين والمسيحيين على السواء. ولكن هؤلاء ساروا وراء زعيمهم باليان بن بارزان رافضين العرض قائلين إن الموت أيسر عليهم من تسليم بيت المقدس. عندئذ أقسم صلاح الدين أن يسترد بيت المقدس بحد السيف. وبر البطل العربي بقسمه بعد أن احتل قلعة المدينة ودخلها في الثاني عشـر من أكتوبر, الذي شاءت الأقدار أن يوافق ليلـة المعـراج التـي أسرى الله فيها ليلا بنبيه من المسجـد الحرام إلى المسجـد الأقصي. وقد حافظ صلاح الدين على وعده للصليبيين من أهل المدينة فسمح لهم بالخروج بعد دفع الفدية المتفق عليها, مظهرا التسامح تجاه فقرائهم الذين عجزوا عن دفع الفدية, بل لقد أدهش حتى المسلمين وهم يرون البطريرك يدفع عن نفسه الدنانير العشرة ويغادر المدينة حاملا ما استطاع حمله من الذهب والفضة والعربات المحملة بالنفائس الكنسية التي استولى عليها, دون أن يبالي بفقراء الصليبيين الذين لم يجدوا قيمة فدائهم فأعفاهم منها صلاح الدين. وما كان أروع البطل المنتصر وهو يسمح للمسيحيين الأرثوذكس واليعاقبة بالبقاء في المدينة بعد دفع الجزية, وحين أمر بأن تفتح كنيسة القيامة أبوابها لاستقبال قاصديها من الحجاج والزوار, متيحا الفرصة في تسامح كبير للكنيسة الأرثوذكسية ورجالها لاستعادة نفوذهم وهيبتهم على الأماكن المقدسة. نقطة البداية في حطين على أن الطريق إلى القدس لم يكن سهلاً أمام صلاح الدين. فقد خاض معارك رهيبة ضد الصليبيين وأمرائهم وجيوشهم وقياداتهم. واستطاع بجهود متواصلة أن يوحد أقاليم مصر والشام والجزيرة تحت راية واحدة, قبل أن يتابع سيره إلى بقايا الإمارات الصليبية ومن بينها القدس الشريف الذي احتله الصليبيون عام 1099 بعد أن قتلوا من أهله سبعين ألفا وعاثوا فسادا في المدينة المقدسة وعلقوا الصليب على قبة الصخرة. وكانت نقطة البداية عند حطين. فقد انقض أرناط حاكم الكرك الصليبي ـ خلال فترة الهدنة مع المسلمين ـ على قافلة متجهة من مصر إلى الشام فنهب أموالها وقتل رجالها. ثم انقض مرة أخرى على قافلة متجهة إلى الحج فقتل الحجاج واستولى على أموالهم وسبى نساءهم وأطفالهم. وإذن.. فالحرب المقدسة. وخرج صلاح الدين من دمشق وقد اجتمع له أمر القادة والجيوش, فبلغ عدد رجاله اثني عشر ألف فارس غير المتطوعين. وتوقف بهم قرب مدينة حطين, وجعل البحيرة في ظهر جيوشه, بينما تجمعت القوات الصليبية متحصنة فوق جبل طبرية. وقسم القائد جيشه إلى قلب وجناحين وميمنة وميسرة ورماة وساقة. لم تكن تخيفه كثرة العدو, فليست العبرة بالكثرة, ولكن بما يؤمنون به. وأعلن في رجاله ألا يبدأوا القتال حتى تعود مجموعة الفدائيين التي أرسلها من مهمتها في تفريغ صهاريج الماء لدى العدو. لقد بنى خطته باستدراج أعدائه خارج الأسوار والحصون والمعسكر ليكون القتال في المكان الذي اختاره, حيث يكون ماء طبرية خلفه, وهم بعيدون عنه ولا يكون أمامهم لشدة الحر والعطش إلا أن يخرجوا ويتدافعوا للوصول إلى ماء البحيرة.. فهكذا خطط لها صلاح الدين.. يوم كيوم بدر..! وأمر صلاح الدين بإقامة سور من العشب الجاف حول ماء البحيرة مع ترك ممر في السور إلى الماء ليعبر منه المهاجمون العطشى.. فاذا عبروه رمى رجاله بالنفط على العشب وأشعلوه بجحيم مستعر. ونجحت الخطة. فقد اشتد العطش بالصليبيين, فنزلوا يقاتلون سائرين نحو البحيرة لعلهم يردون الماء. وأشعل المسلمون النار في العشب حول الممر فاشتعل جحيما. واجتمع على الصليبيين حر الشمس وحر العطش وحر النار, والدخان وحر السلاح والقتال. الله لا يخلف وعده أطلق صلاح الدين صيحته: اضربوا, إن الله لا يخلف وعده.. واشتدت حمى المعركة. وبدأ الصليبيون يلوذون بالفرار. وراح المسلمون يطاردون من فر منهم بالتلال. وتحقق نصر المؤمنين في حطين. وسقط ملك بيت المقدس وأرناط أمير الكرك في أيدي المسلمين. يقول ابن شداد في "النوادر السلطانية" إن صلاح الدين استقبل كبار أسراه في مخيمه, وأجلس الملك إلى جانبه وقد أهلكه العطش, وبادر صلاح الدين بتقديم إناء به ماء مثلوج للملك فشرب منه, وأعطى ما تبقى منه لأرناط ليشرب عندئذ غضب صلاح الدين وصاح: "إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فلا يوجب ذلك له مني أمانا" والتفت صلاح الدين نحو أرناط وذكره بجـرائمه وخـيـانته, وقال له: كم تحلف وتنكث. فرد أرناط: لقد جرت بذلك عادة الملوك..! عندئذ أمسك صلاح الدين بسيفه وأطاح برأس أمير الكرك الخائن. وحين أنزعج ملك القدس الأسير مما حدث لأرناط هدأ صلاح الدين من روعه وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك. وأما هذا فإنه تجاوز حده فجرى عليه ما جرى. لقد كانت حطين أعظم من مجرد نصر عربي بالنسبة للمسلمين. كانت في حقيقة أمرها بشيرا بنجاح المسلمين في القضاء على أكبر حركة استيطان استعمارية شهدها العالم في العصور الوسطى. ولقد أصبح الصليبيون في بلاد الشام بعدموقعة حطين تحت رحمة صلاح الدين, فشرع يفتح البلاد والمدن الصليبية واحدة بعد أخرى دون أن يغض الطرف عن تمسكه بالبعد عن التطرف مع الرحمة والتسامح, الأمر الذي شهد له به جميع المؤرخين, في الغرب والشرق على السواء. وهكذا دخل صلاح الدين القدس.. ورفرفت أعلامه بعد أن أسقط الصليب من فوق قبة الصخـرة, وصلى في المسجد وهو يستشـهـد بقول الله تعالى: فقُطِعَ دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين. آية 45 سورة الأنعام.