واحة العربي

واحة العربي

البـوّ
هذا الشاخص لاستثارة الحنان وإدرار اللبن مع تزوير العواطف والأوضاع

لكي تنطق "البوّ" نطقا صحيحا افتح الباء واقذفها دفقة صوتية حادة لتشدد الواو: "بوّ", وفي القاموس: البوّ جلد ابن الناقة ـ أنثى الجمل ـ يحشى تبناً ويقرب من أمه لتحنو عليه معتقدة أنه ابنها الحي تمهيدا لأن تدر اللبن, ولا يزال أثر من هذا في الريف المصري حين يواجه الفلاح أمر بقرته الوالدة حديثا بعد التصرف في عجلها الوليد بالبيع, أو حين تواجه البقرة ذاتها موقعة الإجهاض, حيث يعد لها "البوّ" المناسب, وتظل البقرة الوالدة تتشمم هذا الشاخص قريبا منها, تتشكك فيه اقترابا وبعداً, ثم يرهقها عناء المشاعر فتميل إلى التصديق, عند ذلك تبدأ فتلحس هذا التكوين المقارب لتشكيل عجلها الوليد, والذين أتيحت لهم فرصة المشاهدة سيلمحون أثراً لدموع في عيني البقرة الأم تتألق مع حركة لسانها, وسيأخذ الأمر وقتاً حتى تستجيب الأثداء: تداهم السخونة حلماتها فتتوقد منتصبة لتسحب السائل اللبني الساحر من الشرايين المعقدة الممتدة في الضرع, وعندما تصل الاستجابة إلى ذروتها تبدأ الأنامل حركتها الشفوق الناعمة لتنظيم دفق السائل الأبيض الدافئ ـ الساحر مرة أخرى, حيث يكون "البوّ" ـ في هذه اللحظات ـ قد أقصي بعيداً.

ولعل الأبقار والجواميس والنوق "جمع ناقة" هي الأنواع الحيوانية التي مورست معها عملية الاستحلاب باستخدام "البوّ, وفي واحة "موط" ـ بالوادي الجديد جنوب غرب مصر ـ حاول أحدهم استدرار لبن غزالة باستخدام "بوّ" من جلد وليدها سعياً وراء فوائد ناجمة عن مواصفات طبية شعبية "تساعد في صلابة رجولة مأمولة", لكن الغزالة ظلت صامدة حتى انفجرت حلماتها ـ بين الأصابع المؤلمة ـ دماً, ولعل ذلك الصد الصامد يرجع إلى حالة الأسر والحصار, حيوانات عديدة تفقد التجاوب في ظروف كهذه, ويعرف علماء الحيوان أن عدداً كبيراً من الحيوانات لا يمارس خصوبته في الأسر والاعتقال وتحت ضجيج المدن وفي مراكز مجالات الدوائر المغناطيسية والكهربائية, الإنسان ـ أيضاً ـ قد يحدث له ذلك.

والأجيال الحديثة لا تعرف "البوّ", مع أن عالمه واسع وغزير منذ أحقاب التاريخ, هو العقائد الأرضية التي تحشى بقش التميز العنصري في اللون والجنس استحلاباً لخضوع شرائح لسطوة شرائح. وأضخم أنواع "البوّ" التاريخية كانت في روما القديمة حين اعتقد مجلس السوناتو الحاكم أنه الوليد المدلل للإمبراطورية الرومانية, ثم النازية الألمانية الحديثة التي أنبتتها قدرات الاستحلاب الصهيونية, وفي المقابل واجهت الصهيونية العالم الحديث بتضخم من القش الذليل لتسعى إلى وطن اختلق اختلاقاً, وفي أول موقعة اكتشف العالم كله أن الشاخص الأبيض في إفريقيا كان مجرد "بوّ" وقع تحت سطوة هجوم كاسح من البقرة الإفريقية الأم, وكانت الكنيسة الأوربية في القرون الوسطى تتضخم ضاغطة في دموية على العروش والدوقيات والمقاطعات, حتى اكتشفوا أنها مجرد "بوّ" أيضاً يقوم بعملية ابتزاز, وفي العالم الثالث تستمتع كثير من الأنظمة باعداد "البوّ" الخاص بها, تمسح بيدها على رأسه في حنان دستوري مشابه للعجل الدستوري الحقيقي, في العالم المستـقـر, ولا تزال ـ في العالم المستقر كذلك ـ تهيمن أنواع من "البوّ" الواضح:

إيرلندا تحاول ـ من قرون ـ أن تثبت لبريطانيا ـ المملكة المتحدة ـ أنها لا تستجيب لأنامل الإنجليز ذات المدافع الحانية, كما أن "البوّ" الماركسي لم يقاوم طويلاً فور معاملته عجلاً أصيلاً: وقع على مسطح الأرض ـ أوسع مسطح ملموس في العالم الحديث عند أول احتكاك لتغيير جلده الكالح, ولايزال "بوّ" العراق كارثة ممتدة لا يقل في نواتجه المؤثرة على الأمة العربية عن "البوّ" الصهيوني.

ويمكن اختصار مواقع "البوّ" في "خيال المآتة" ـ هذا الشاخص الواقف مفرود الذراعين بين الحقول ليرهب الساعين للنيل من ثمارها: اللصوص والعابرين والثعالب والذئاب والعصافير والغربان. ومن الملاحظ أن كثيرين يألفون مشهد "البوّ" ـ خيال المآتة ـ حتى أنهم يغتصبون الثمر المأمول ثم يجلسون في ظلال الحارس الوهمي ليرتاحوا, تماماً كما ترتاح كثير من الدول المغتصبة في ظلال هيئة الأمم المتحدة, والفرق بين "البوّ" وخيال المآتة واضح: الأول يقوم بدور مستثير الحنان, والثاني يقوم بدور الحارس, وكلاهما يفقد أهميته فور اكتشاف دوره, مع أن الذين حولهما يصممون دائما على أنهما ـ كلاهما ـ لا يزالان يؤديان دوريهما اللذين أنشئا ـ أو صنعا ـ من أجلهما, أرجو ألا تستبعد كثيرين من ذوي السلطة أو الهيمنة من هذه المسألة.

وعندما كنا صغاراً تعودت أمهاتنا ـ نحن أبناء الريف أو المناطق الشعبية في المدن ـ على تشبيه وجوهنا ـ أو تصرفاتنا ـ بالبوّ "عامل زي البوّ", اعلانا عن تشاؤمهن لارتباطنا بالخراب ـ أو الخزي ـ الذي يحيط بأهلنا, غير ان قاضي محكمة أسوان رفض هذا التبرير حينما رفعت زوجة دعوى طلاق ضد زوجها الذي دأب على اطلاق تشبيه "البوّ"عليها, وقالت في أسباب الرفض إن لفظ البوّ صدر في وقت الغضب, ولو كان الزوج تلفظ بذلك الوصف في اتزان وهدوء وعقلانية, لأصبحت المساءلة القانونية واجبة, بعدها بأسابيع داهمت زوجها أثناء نومه, وأنهت الموضوع كله بمعرفتها, ولذا لزم علينا التوقف الآن بدعوى التقاط الأنفاس.

 

محمد مستجاب