اللغة العربية
سياسة وحضارة واستراتيجية
كيف يتناول المفكر العصري موضوع اللغة العربية, وجمالياتها لا باعتبارها نحواً وصرفاً وإعرابا, أو بلاغة وبيانا وفصاحة, ولكن بوصفها سلاحا وعنصرا استراتيجيا, يحيي الأمم ويميتها, ويقيم الحضارات ويهدمها, ويشكل الجغرافيا البشرية, والسياسية للعالم؟
هذا هو الجوهر الذي تناوله الأستاذ أحمد بهاء الدين ـ الكاتب الكبير الراحل والرئيس السابق لتحرير مجلة العربي ـ في كلمة له عن اللغة العربية, منطلقها أن هذه اللغة سياسة وحضارة واستراتيجية.
وهي نظرة تختلف كثيرا عن نظرة كثيرين لا يرون في اللغة إلا جمالياتها البلاغية والبديعية, وقدرتها على الإبداع والتعبير وصلاحيتها للحديث والتخاطب.
يقول أحمد بهاء الدين:
"تتفاقم قصة الصراع في القرن الإفريقي, فيخطر على بالي من بين عواملها الكثيرة قضية اللغة العربية. أو يصدر في باكستان قانون يجعل دراسة اللغة العربية إلزامية كلغة ثانية في كل المدارس, فأتذكر القضية. أو تبدأ الصراعات الدولية في الوصول إلى الحزام الإفريقي في منطقة التداخل والتماس, بين العالم العربي والعالم الزنجي, مثل تشاد وغيرها, فأتذكر القضية, أو أتابع تطورات حل مشكلة جنوب السودان, فأتذكر القضية.
أو أتلقى دراسات مفصلة, من لندن, عن فرقة إنجليزية تخصصت في ترجمة المسرحيات العربية الحديثة لبعض الكتاب العرب وتقديمها للجمهور الإنجليزي, مشفوعة باقتراح خلاصته: إذا كان العرب يشترون العمارات والفنادق والشركات في إنجلترا وغيرها, فلماذا لا يشترون مسرحا في لندن تقدم عليه هذه المسرحيات على نطاق أوسع وتعرض عليه الفرق العربية لأكثر من مليون عربي في لندن وما حولها؟
إن اللغة ليست مجرد وسيلة تخاطب. اللغة هي وعاء الفكر ووعاء العاطفة معا, والأمة العربية ـ ليست ككيان سياسي فقط بل ككيان حضاري أيضا ـ لديها فرصة نادرة لأن تكون لغتها سلاحا من أمضى أسلحتها في كل معاركها, ووسيلة خلاقة للمساهمة في صراع الحضارات العالمية الراهن, أو الحوار بين الحضارات.
لقد أتيح لي أن أذهب إلى بعض مناطق الحزام الإفريقي: السنـغـال, مالي, وسط إفريقيا, تشاد, غينيا, شمالي غانا ونيجـيريا, جنوبي السودان المسيحي, الصـومال بفـروعه المبعثرة, في أول أيام استقـلال تلك المنـاطق, ورأيت لهفة الناس إلى اللغة الـعـربية, لغة كتابهـم المقدس, لغـة عباداتهم وصلواتهـم, ولغة جيرانهم الأقدمين, وشركائهم في التجارة عبر طرق القوافل التي شقها العرب قديما.
هذه اللغة أقرب إليهم, وأسهل لهم, ولم تفرض يوما بالقوة عليهم".
وأخيرا يقول أحمد بهاء الدين:
"إن نصف الملايين التي ننفقها في شراء السلع ـ حتى الأسلحة القديمة ـ لا تحقق الفوائد الاستراتيجية التي يحققها استخدام سلاح اللغة العربية في آسيا وإفريقيا إلى أقصى مداه.
من بنجـلاديش شـرقا إلى الشاطئ الإفريقي غربا, أرض وشعوب, أخصب ما تكون لتلقي اللغة العربية وتحويلها إلى لغة أصلية لها مع الزمن.
إنه عمل حضاري فوق كل شيء, ووجه واحد من وجوه سلاح اللغة".
إن أحمد بهاء الدين ـ من خلال هذا التناول العصري لقضية اللغة العربية ـ يفتح عقولنا على مفهوم جديد لجمال العربية باعتباره ملمحا حضاريا, ووجها أصيلا للتقدم, وسالة قومية في عالم اليوم والغد.
تحقيقات لغوية
جاء في المعجم الكبير:
يقول ابن فارس: الهمـزة والنـون والفاء أصلان منهما تتفرع مسائل الباب كلها, أحدهما: أخـذ الشـيء من أوله, والثاني: أنف كل ذي أنف.
يقال: أَنفَ فلانا: جعله يشتكي أنفه.
وأنفَ الماءُ فلانا: بلغ أنفه إذا ما نزل فيه.
وأنفت المرأة: لم تشته شيئا لشدة وحمها.
وأَنِفَ فلان من الشيء أنفاً وأنفهً: كرهه واستنكف منه, يقول الشاعر:
ولا تغضبوا مما أقول, فإنما |
|
أنفت لكم مما تقول المعاشرُ |
وأنِفَ الشيءَ: كرهه وعافته نفسه.
قال أعرابي: أَنِفت فرسي هذا البلد.
ويقول وهب بن الحارث:
لا تحسبني كأقوام عبثتَ بهم |
|
لن يأنفوا الذل حتى يأنف الحُمرُ |
وآنفَ فلان إينافا: عجل في أمره
وآنفَ الشوك الإبل: أصاب أنوفها فأوجعها عند الرعى.
وآنفَ فلانا: حمـلـه على الأنفة.
وآنف أمره: أعجله.
وآنـف الشيء: سـواه وقده على قدر واستواء.
وائتنف الشيء: أخذ أوله وابتدأه.
يقول ابن الرومي:
فائتنف توبةً وراجع فعالاً |
ترتضيه الأسلاف للأعقابِ |
وتأنف الإخوان: طلبهم آنفين لم يعاشروا أحداً.
ويقال: استأنف فلاناً بوعد: ابتدأه به, وفي اللسان:
وأنت المنى لو كنت تستأنفيننا |
|
بوعدٍ, ولكن معتفاكِ جديبُ |
واستأنف العمل: عاد إليه بعد انقطاع
واستأنف الحكم "في القضاء": طلب إعادة نظر موضوع الدعوى أمام هيئة أعلى. ومنه: محكمة الاستئناف.
ويقـال: ذكـرتهُ آنفاً: أي من وقت قريب, أو من أقرب وقت مضـى. وفـي القرآن الكريم: ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عنـدك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قـال آنفا "سورة محمد الآية 16".
وفي الحديث: أنزلت علي سورة آنفا.
ويقال: قلت كذا آنفا وسالفا, وجاءوا آنفا.
وآنفة الصبا: ميعته وأوليته: يقال: مضت آنفة الشباب. قال كثير:
عذرتك في سلمى بآنفة الصبا |
|
وميعته إذ تزدهيك ظلالها |
جمال العربية في إبداع المعاصرين
تستوقفنا قصيدة "الخيول" للشاعر الراحل أمل دنقل ـ الذي مضى على رحيله خمسة عشر عاما ـ باعتبارها نموذجا فريدا للغتة الشعرية, ومعمار تشكيله وبنائه للقصيدة, وعالمه الثري من الصور والظلال والإيحاءات, واستدعاء الموروث الثقافي والحضاري. وهي الملامح التي جعلت من شعره شهادة بالغة الصدق والحرارة على عصره الممتلئ بالتحديات والمواجهات, والهزيمة والانكسار, كما جعلت من قصيدته رأس حربة في وجه المتخاذلين والمترددين, وأعداء الوطن والأمة.
وأمل دنقل يصنع من رمز "الخيول" معادلاً للنخوة والهمة, ومجلى للواقع والراهن, وأفقا للتأمل والمقارنة, بعد أن انطفأت الروح العارمة وجف في الرئتين الصهيل.
يقول أمل دنقل في لغته الباترة المتوهجة:
الفتوحات ـ في الأرض ـ مكتوبة بدماء الخيول
وحدود الممالك
رسمتها السنابك
والركابان: ميزان عدلٍ, يميل مع السيف..
حيث يميل!
* * *
اركضي أو قفي الآن, أيتها الخيلُ
لستِ المغيراتِ صبحا
ولا العاديات ـ كما قيل ـ ضبحا
ولا خضرة في طريقك تُمحى
ولا طفل أضحى
إذا ما مررت به.. يتنحى
وها هي كوكبة الحرس الملكي
تجاهد أن تبعث الروح في جسد الذكرياتِ
بدقة الطبول!
اركضي كالسلاحف
نحو زوايا المتاحف
صيري تماثيل من حجرٍ في الميادينَ
صيري أراجيح من خشبٍ للصغارِ
الرياحينَ
صيري فوارس حلوى بموسمك النبوي
وللصبية الفقراء: حصاناً من الطينِ
صيري رسوما ووشماً
تجف الخطوطُ به
مثلما جفً ـ في رئتيك ـ الصهيل!
* * *
كانت الخيل ـ في البدء ـ كالناسِ
برية تتراكض عبر السهول
كانت الخيل كالناس في البدءِ
تمتلك الشمس والعشبَ
والملكوت الظليل
ظهرها.. لم يوطأ لكي يركب القادة الفاتحون
ولم يلن الجسد الحر تحت سياط المروض
والفم لم يمتثل للجام,
ولم يكن الزاد, بالكادِ,
لم تكن الساق مشكولة,
والحوافر لم يك يثقلها السنبكُ المعدني
الصقيل
كانت الخيل بريةً
تتنفس حريةً
مثلما يتنفسها الناسُ
في ذلك الزمن الذهبي النبيل
قل.. ولا تقل
قل: توفر على بحث الأمر أي صرف كل اهتمامه له.
ولا تقل: توافر على بحث الأمر لأن توافر معناها تكاثر.
ولذلك يقال: توافرت السلع في الأسواق.
ولا يقال: توفرت السلع في الأسواق.
وقل: جُمادى الأولى.
وجمادى الآخرة.
ولا تقل: جماد الأول وجماد الثاني.
وقل: حار في مواجهة المشكلة.
ولا تقل: احتار في مواجهة المشكلة.
وقل: أدمن فلان الشراب أو التدخين.
ولا تقل: أدمن على الشراب أو التدخين.
وقل: أحتاج إلى كذا أو يعوزني كذا أو ينقصني كذا.
ولا تقل: يلزمني كذا.
لأن يلزمني بمعنى يلازمني وهو ملازم لي وليس فيها معنى الاحتياج.
وأخيرا قل: يوم قارس.
أي شديد البرودة.
ولا تقل: يوم قارص.
يقال: لبن قارص أي حامض.
وينبه العالم اللغوي الدكتور مازن المبارك في كتابه "نحو وعي لغوي" إلى الخطأ الذي يقع فيه من يضعون تاء التأنيث في صفات يستوي فيها المذكر والمؤنث ولا يصح أن تدخل عليها التاء إلا للمبالغة فهم يقولون: بقرة حلوبة وامرأة ولودة والصواب أن يقال حلوب وولود ومثلها: امرأة ودود وكسُوب وتوبة نصوح. ذلك أن وزن "فعول" إذا كان بمعنى "فاعل" يستوي فيه المذكر والمؤنث, وكذلك وزن "فعيل" إذا كان بمعنى مفعول, فيقال: امرأة أسير وقتيل وعقيم وعين كحيل, ومنه في القرآن الكريم لعل الساعة قريبكذلك يستوي المذكر والمؤنث في وزن مفعال, فيقال: رجل مكسال وامرأة مكسال ورجل مضحاك وامرأة مضحاك. وفي القرآن الكريم: إن جهنم كانت مرصاداً.