النيل مكانًا روائيًا في كتابات الطيب صالح

النيل مكانًا روائيًا في كتابات الطيب صالح

يحتل المكان أهمية بالغة في الأعمال الفنية عامة، ومن بينها الفنون القولية، شعرية كانت أو روائية، مع ترتيب الأولويات داخل دائرة هذه الفنون، إذ يحتل المكان دور الأهمية الأولى في الفن الروائي، على حين يتصدر الزمان المرتبة الأولى في الفنون الإيقاعية صعودًا من الشعر ووصولاً إلى الموسيقى.

من هنا فإن المكان تزداد أهمية الالتفات إليه في الفن الروائي، سواء من قبل الروائيين أنفسهم، أو من قبل نقادهم. وقد بلغت هذه الأهمية درجة جعلت تيارًا مثل تيار (الرواية الجديدة) في فرنسا يحطم عنصر الزمان كمقياس لرصد مغزى الحياة ويحل محله عنصر المكان، كما كان يرى آلان روب جرييه وغيره من رواد هذا التيار نقدًا وإبداعًا.

وكثير من النقاد رأوا أن عنصري المكان والزمان متداخلان إلى الحد الذي يمكن الحديث فيه عن الزمكانية مثلا، مع التسليم بأن الزمان نفسه لا يمكن له التحقق والوجود إلا عبر المكان، وأن ذلك الزمان هو بطبيعته قليل الديمومه متحرك غير ثابت، على حين أن المكان قابل للتمتع بديمومة وثبات، يقتربان به أحيانا من مشارف الخلود، بل ويقتربان به من فكرة (الكينونة والتكوين والكون) وهي كلها مفردات تلتقي في العربية على نحو خاص مع المكان في مادته اللغوية الأساسية، وتشكل معه العناصر الرئيسية للوجود سواء بالنسبة للكائنات الحية أو للطبيعة المحيطة بها.

وإذا كانت مفردات مثل (الكينونة والتكوين والكون) تنتمي إلى مجالات فلسفة الطبيعة، أو ما وراء الطبيعة، فإن (المكان) هو أقرب مفردات هذه العائلة من الفن. وقد كان أبو العلاء المعري يقول

أما المكان فثابت لا ينطوي
لكن زمانك ذاهب لا يرجع

ومع أن الزمان من طبيعته الذهاب وعدم الاستقرار، فإن الفن الجيد يستطيع أن يثبت بعض لحظاته إذا أُحسن الاختيار الفني للمكان الملائم، كما هو الشأن في التوظيف الفني لعنصر النيل عند الطيب صالح.

المكان في السرديات العربية

يمثل عنصر المكان في الفنون السردية على نحو خاص ركنًا رئيسيًا يجعل منه ملمحًا فنيًا رئيسيًا فارقًا في بعض الأجناس، أو بصمة قومية في بعض مراحل تاريخ أدب ما، أو منعطفًا فنيًا يهب العمل الأدبي مذاقًا محليًا متميزًا يشكل عاملاً مهمًا في دفعه إلى دائرة العالمية.

ونستطيع في تاريخ السرديات العربية أن نشير إلى هذه المراحل من خلال ثلاثة أنماط من الأعمال السردية.

أولاها: يمثلها كليلة ودمنة والقصص التي توارثته العربية خلاله من الآداب الأخرى وأنضجته وطورته ودفعت به إلى الأفق العالمي، ليكون هذا الكتاب في صفوف الصدارة الأولى من الكتب المقروءة أو المسموعة ولتستمر تجلياته قرونا متباعدة في معظم آداب العالم. والواقع أن بطولة المكان في هذا العمل الكبير تمثل الملمح الفني الرئيسي الفارق والملائم لعالم الحيوان، الذي احتلت شخصياته أدوار البطولة كلها فيه.

ثانيها: رواية زينب للدكتور محمد حسين هيكل والتي جسدت مرحلة البدايات الفنية الناضجة للراوية العربية الحديثة، رغم الاختلاف أحيانًا بين النقاد على كونها أولى الروايات العربية الحديثة أو من أوائلها. والذي لا شك فيه أنها نموذج على هذه المرحلة من الفن الناضج الذي بدأت الرواية العربية بعده مرحلة انطلاقها، ودخلت دائرة الأدب المعترف به والذي كاد يقتصر قبل ذلك على جنس الشعر وعلى أجناس من الكتابة النثرية لم يكن من بينها الروايات والحكايات التي كانت عادة تترك للغة نصف العامية مثل لغة ألف ليلة وليلة، أو لمستوى لغوي قريب من الشعر، يحتل فيه شكل اللغة في ذاته نصيبا أكبر من عناصر الحكي كما هو الشأن في المقامات وما أشبهها .

ولعل الجديد في رواية زينب كان يتمثل في بطولة (المكان) القومية، فهيكل الراوية ليس فيه كثير من جوانب الجدة والإبهار، وهو يستلهم كما أشرنا في دراسة أخرى - رواية مشهورة - للكاتب الفرنسي جان جاك روسو تسمى رواية جولي أو هلويز الجديدة وترتكز على جمال الطبيعة الأوربية في سفوح جبال الإلب. وهذا العنصر المكاني هو الذي استبدل به هيكل عنصر جمال الطبيعة المصرية في الريف المصري، فبدا هذا المكان قابلاً لأن يلعب دور البطولة ويكون مسرحًا لتحرك الشخصيات وتتطور الأحداث ويدور حوله حوار ووصف أدبي بمستوى لغوي يصلح أن يدخل بالعمل دائرة الأدب، كما اصطلح عليه (الذوق العام) وكان هذا في ذاته عنصر إغراء دفع كبار الأدباء في مصر والعالم العربي بعد نجاح التجربة إلى المشاركة فيها، فانطلقت مسيرة الرواية العربية الحديثة واستطاعت أن تأخذ مكانها في الآداب العالمية وأن تحصل على جائزة نوبل بعد نحو ثلاثة أرباع القرن من هذه التجربة، وكانت نقطة البداية الرئيسية تطوير استخدام عنصر المكان فيما نعتقد.

أما المرحلة الثالثة في تطوير السرديات العربية من خلال عنصر المكان، فتمثلت في عنصر المذاق المحلي ودفع مسيرة الرواية خطوات هائلة إلى الأمام، وفي هذا الإطار يكمن جانب كبير من أسرار المتعة الفنية التي انطلقت من هذا الملمح لتتضافر معها بقية عناصر البناء المحكمة في كتابات روائيين متميزين قادوا تطور الرواية العربية مثل نجيب محفوظ والطيب صالح

النيل والبنية العميقة للمكان الروائي عند الطيب صالح

المكان الأبرز في كتابات الطيب صالح هو النيل الذي يشكل (البنية العميقة) في معظم كتاباته ويضيف إليها (البنية السطحية) أو الشاملة في كثير من هذه الكتابات، وتتشكل وفقا لدرجة الارتباط به، معظم مراحل نمو الشخصيات، وتكون الأحداث.

وإذا قلنا إن النيل يمثل المكان الرئيسي عند الطيب صالح فينبغي أن نضيف أنه لا يحل في العمل الروائي، باعتباره (ديكورًا تزينيًا) تتألق به جوانب اللوحة، كما أنه لا يحل في العمل باعتبارة مرآة تنعكس عليها مشاعر الأبطال ومسيرة الأحداث، فيتعكر عندما تتعكر ويصفو عندما تصفو، ولا يحل كذلك باعتباره قطعة شطرنج ملساء محكمة الصنع، جيدة البريق يحركها الراوي كما يشاء ووقتما يشاء.

ولكن النيل يحل في العمل باعتباره شريكًا رئيسيًا في الأحداث يتم الحوار معه ويتم الإصغاء إليه ويتم رصده بكل ألوان الحواس، ويتم استيعابه والرضى عنه حينًا، ورفضه والغضب منه أحيانا أخرى.

ومنذ أول قصة قصيرة نشرها الطيب صالح سنة 1953 وهي قصة (نخلة على الجدول) نرى النيل يطل ولو على استحياء في بدايات القصة وفي مراحل التحول الرئيسي لأحداثها، فها هي نخلة شيخ محجوب «ذات البنات الخمس وقد قامت وسطها النخلة الأم، ممشوقة متغطرسة تتلاعب بغدائرها النسمات الباردة التي هبت من الشمال تحمل قطرات من مياه النيل» وها هي لحظة التحول الرئيسي في مجرى الأحداث من سعة الرزق إلى الضيق ترتبط أيضا بالنيل «لقد مات الزرع ويبس الضرع وعم القحط فأغرق الرخاء وكان النيل يفيض بين ضفتيه زاخرا موارا يسقي الأرض، ويخرج ما في باطنها من الخير، فما عاد يفيض إلا بحساب ومقدار».

وبدءا من رواية (عرس الزين) 1964 و(موسم الهجرة للشمال)1966 و(بندر شاه) بجزئيها (ضو البيت)1972 و(مريود) 1973 سوف يطبع النيل صورته الخالدة في أعمال الطيب صالح انطلاقًا من قرية ود حامد التي أصبحت واحدة من أشهر القرى على خريطة الأدب العربي والعالمي، سواء من خلال ورود اسمها في عناوين بعض أعمال الطيب صالح مثل (دومة ود حامد) أو من خلال الوصف التفصيلي لموقعها على النيل ولشخصياتها المألوفة التي أصبحت تنتقل من عمل إلى عمل، أو لأحداثها التي يرتبط معظمها بالنيل، كما يرتبط معظم مصير شخصياتها به .

ويتحدد الموقع وسماته على لسان الراوي البطل «كنت أقضي شهرين كل سنة في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل والنهر بعد أن كان يجري من الجنوب إلى الشمال ينحني فجأة في زاوية تكاد تكون مستقيمة، ويجري من الغرب إلى الشرق، المجرى هنا متسع وعميق، ووسط الماء جزر صغيرة ومخضرة، تحوم عليها طيور بيضاء، وفي الشاطئين غابات كثيفة من النخل وسواقي دائرة، ومكنة ماء من حين إلى آخر. الرجال صدورهم عارية يلبسون سراويل طويلة يقطعون أو يزرعون، حين تمر بهم الباخرة كقلعة عائمة وسط النيل يرفعون قاماتهم ويلتفتون إليها برهة ثم يعودون إلى ما كانوا فيه».

وإذا كانت رواية مثل موسم الهجرة إلى الشمال تصنف عادة عند النقاد بأنها رواية تنتمي مكانيا إلى لندن حيث تدور حوالي نصف أحداثها، فإن الذي يمعن في المكان الروائي فيها يدرك، أنه رغم صحة الملاحظة السابقة، تظل البنية العميقة للرواية ترتبط مكانيا بالنيل، والذي يلاحظ معمار الرواية يرى أنها بدأت بالنيل في سطورها الأولى واختتمت به، واقتبس عنوانها من ظواهر تجري على سطحه وفي سمائه وتخللتها مياه، ومشاهده في معظم لحظاتها الفاصلة، ففي السطور الأولى من الرواية «عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم»، ومع نسج خيوط الذكريات الأولى بعد العودة تقوده خطاه إلى مكانه الأثير، أيام طفولته على شاطيء النيل «عند جذع شجرة طلح على ضفة النهر كم عدد الساعات التي قضيتها في طفولتي تحت تلك الشجرة، أرمي الحجارة في النهر وأحلم ويشرد خيالي في الأفق البعيد، أسمع أنين السواقي على النهر وتصايح الناس في الحقول: راحت السواقي وقامت على ضفة النيل طلمبات لضخ الماء: وأنظر إلى النهر، بدأ ماؤه يربد بالطمي، لابد أن المطر هطل في هضاب الحبشة: أسمع طائرًا يغرد أو كلبًا ينبح أو صوت فأس في الحطب وأحس بالاستقرار، أحس أنني مهم وأنني مستمر ومتكامل»، وحتى عندما يسافر البطل شمالا حتى يصل إلى القاهرة ويمكث فيها أياما خاطفه فسيكون من بين الذكريات القليلة التي يسجلها «وقطعت النيل سابحا ذات مرة لم يحدث شيء إطلاقًا سوى أن القرية زادت انتفاخًا».

إن قمة تطور الحدث في موسم الهجرة إلى الشمال، لا نقول فقط تجري على شاطئ النيل أو بمرأى منه، وإنما تجري بيد النيل ذاته في شكل قوة عاتية عاصفة، تضع نهاية للغز شخصية مصطفى سعيد المحيرة والتي اكتشف الراوي منها ما يكتشف من قمة جبل الثلج العائمة ووسط مناخ لحظة التشوق لكشف المزيد، جاءت موجة فيضان مدمر استثنائي «كان النيل قد فاض ذلك العام أحد فيضاناته تلك التي تحدث كل عشرين أو ثلاثين سنة، وتصبح ظاهرة يحدث بها الآباء أبناءهم وغمر الماء أغلب الأرض الممتدة بين الشاطئ وطرف الصحراء حيث تقوم البيوت، وبقيت الحقول كجزيرة وسط الماء وكان الرجال ينتقلون بين البيوت والحقول في قوارب صغيرة أو يقطعون المسافة سباحة وكان مصطفى سعيد سباحًا ماهرًا.. وكان من عادته أن يعود من حقله مع مغيب الشمس، ولكن زوجته انتظرت دون جدوى وانكبت البلد كلها على الشاطئ الرجال في أيديهم المصابيح وبعضهم في القوارب وظلوا يبحثون الليل كله دون جدوى.. والجثث التي حملها الموج إلى الشاطئ هذا الأسبوع لم تكن بينها جثة مصطفى سعيد، وفي النهاية أخلدوا إلى الرأي أنه لابد أن يكون قد مات غرقا وأن جثته قد استقرت في بطون التماسيح التي يغص بها الماء في تلك المنطقة».

وإذا كان النيل هو الذي طوى مصطفى سعيد وأغلق بضمه إليه صفحة من التساؤلات لم يبق منها سوى خطاب الوصية المفاجأة التي ترك فيها للراوي مهمة رعاية زوجته وولديه ومفتاح حجرة تضم باقي الأسرار. لم يشأ الراوي أن يشبع بعض جوانب الفضول فيفتحها، إذا كان النيل قد طوى هذا العنصر الرئيسي في الرواية، فإن الراوي قد وجد نفسه وكأن نصفه الذي كان يحاوره قد فقد، فضاقت به الأرض بما رحبت ولم يجد إلا النيل نفسه ينفس فيه عن غيظه ويستقطر منه أي جانب من جوانب المتعة ويبحث فيه عن الخلاص بإحدى الراحتين وتتأرجح على سطحه في نفسه، الرغبتان المتقابلتان بين الحياة والموت، يكاد يشده القاع حينا ويشده السطح حينا آخر.

وتمتلئ الصفحات الأخيرة للرواية بهذا الزخم الذي يندمج فيه الراوي والنيل اندماجا رفيع المستوى، يثمر صفحات رائعة من أدب التمازج مع النهر الخالد: «قادتني قدماي إلى الشاطئ، وقد لاحت تباشير الفجر في الشرق، سأنفس عن غيظي بالسباحة، كانت الأشياء على الشاطيء نصف واضحة تبين وتختفي بين النور والظلام، كان النهر يدوي بصوته المألوف القديم متحركا كأنه ساكن.. وأخذت أسبح نحو الشاطئ، وظللت أسبح وأسبح حتى استقرت حركات جسمي مع قوى الماء إلى تناسق مريح، لم أعد أفكر وأنا أتحرك للأمام على سطح الماء، وقع ضربات ذراعي في الماء وحركة ساقي وصوت زفيري بالنفس ودوي النهر.. لا أصوات غير ذلك.. وقد استقر عزمي على بلوغ الشاطيء الشمالي.. كان الشاطئ أمامي يعلو ويهبط والأصوات تنقطع كليا ثم تضج.. ووصلت إلى نقطة أحسست فيها أن قوى النهر في القاع تشدني إليها وفي حالة بين الحياة والموت رأيت أسرابا من القطى متجهة شمالا هل نحن في موسم الشتاء أو الصيف ؟ هل هي رحلة أو هجرة؟».

إن التساؤلات الأخيرة في هذه الفقرة حول هجرة القطى المتجهة إلى الشمال كانت في ما يبدو المثير الرئيسي لاختيار العنوان الجذاب لهذه الرواية الجميلة.

لكن قمة الاندماج مع النهر والذوبان فيه في السطور السابقة والتي كادت تلحق الراوي بصديقة مصطفى سعيد في قاع النهر، هي التي أيقظت آخر وميض في شعلة الحياة التي كادت تنطفئ واستنفرت مقومات البقاء وغرست اليقين بأن الاستسلام للفناء والذوبان عجز حتى ولو كان في حضن المحبوبة، أو محراب التصوف أو لذة الفن أو جلال النيل «تحددت علاقتي بالنهر.. إنني طاف فوق الماء ولكنني لست جزءا منه فكرت أنني إذا مت في هذه اللحظة فإنني أكون قد مت كما ولدت دون إرادتي طول حياتي لم أختر ولم أقرر، إنني أقرر الآن أنني أختار الحياة، سأحيا لأن ثمة أناسا قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن.. وحركت قدمي وذراعي بعنف وصعوبة، حتى صارت قامتي كلها فوق الماء».

إن رواية موسم الهجرة إلى الشمال التي قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة نسبيًا عن أطروحة هذا البحث حول (النيل مكانا روائيا عند الطيب صالح) تبدو وكأنها أقامت هيكلها الرئيسي وروحها المحركة على النيل حتى وإن ابتعدت عنه مكانيا في بعض فصولها الداخلية.

النيل والبنية المكانية الشاملة

إذا كان هذا نصيب النيل من رواية للطيب صالح التي لم تدر كل أحداثها عليه، فلنا أن نتوقع كم سيكون نصيبه من الروايات التي عاش كل أبطالها على شاطئه في (ود حامد) أو في غيرها من القرى والمدن المتناثرة طوال حياتهم.

إن رواية (عرس الزين) والتي صدرت عام 1964 قبل موسم الهجرة إلى الشمال بعامين، تقدم صورا فنية عديدة للعلاقات بين الشخصيات والأحداث والمكان الذي يتصل اتصالا وثيقًا بالنيل، وكثير من الصور الفنية التي تطرح هنا لهذه العلاقة تشكل لقطات تنمو بها أو تتماثل معها نظيرات لها في الأعمال الروائية التالية لها للطيب صالح وخاصة في (بندر شاه) بجزأيها (ضو البيت) و(مريود).

شعرية الفيضان بين شوقي والطيب صالح
في الصفحات الأولى من (عرس الزين) تطالعنا صورة شعرية رائعة للفيضان، تتفتح فيها حواس الراوي إلى أبعد مدى، فيرصد ما تقع عليه العين وما تلتقطه الأذن وما يشمه الأنف وما يلمسه الجلد بدرجة عالية من الحساسية الفنية، ودرجة مرهفة من التعبير الشعري» تتابعت الأعوام عاما بعد عام، يتفتح صدر النيل كما يمتلئ صدر الرجل بالغيظ ويسير الماء على الضفتين فيغطي الأرض المزروعة حتى يصل إلى حافة الصحراء عند أسفل البيوت، تنق الضفاضع بالليل وتهب من الشمال ريح رطبة مغمسة بالندى تحمل رائحة هي مزيج من أريج زهر الطلح ورائحة الحطب المبتل ورائحة الأرض الخصبة الظمأى حين ترتوي بالماء ورائحة الأسماك الميتة التي يلقيها الموج على الرمل، وفي الليالي المقمرة حين يستدير وجه القمر يتحول الماء إلى مرآة ضخمة مضيئة تتحرك فوق صفحتيها ظلال النخل وأغصان الشجر، والماء يحمل الأصوات إلى أبعاد كبيرة، فإذا أقيم حفل عرس في مكان بعيد تسمع زغاريده ودق طبوله وعزف طنابيره ومزاميره كأنه إلى يمين دارك».

وإذا كان شوقي من قبل قد أجاد التحليق حول الصورة المثلى للنيل حين خاطبه قائلا في لوحته الشعرية الجميلة:

من أي عهد في القرى تتدفقُ
وبأي كف في المدائن تغدق
ومن السماء نزلت أم فجرت من
عليا الجنان جداول تترقرق
وبأي عين أم بأية مزنة
أم أي طوفان تفيض وتفهق
وبأي نول أنت ناسج بردة
للضفتين جديدها لا يخلق
تسقي وتطعم لا إناؤك ضائق
بالواردين ولا خوانك يَنْفُقُ
والماء تسكبه فيسبك عسجدا
والأرض تغرقها فيحيا المغرق

إذا كان شوقي قد أجاد التحليق حول النيل فإن الطيب صالح قد أجاد الإصغاء له والتقاط معطيات الرؤية والشم واللمس، واستطاع وهو يعيد إبداع ما التقط أن يفلت من الصورة العامة، وأن يصنع الصورة الخاصة المركبة التي لا تكاد توجد إلا عند ذلك الراصد وذلك المرصود ويكفي أن يتأمل المتلقي صورة الرائحة المركبة للفيضان وهي مزيج من أربعة عناصر هي الطلح والحطب والأرض والأسماك لكن كل عنصر منها يتشكل بدوره بإضافة عنصر أو أكثر إليه، فالطلح يأخذ منه زهره، والحطب تلتقط منه لحظة ابتلاله والأرض لا تمنح الرائحة الخاصة إلا وهي خصبة وفي لحظة ظمأ تتلقى الري، والسمك لا يكون كذلك إلا ميتًا تلقيه الأمواج على الرمال.

والصورة الصوتية التي تلتقط قدرة الماء على حمل الأصوات إلى أبعاد كبيرة صورة لا يحس مدى عمقها وصدقها وفنية التقاطها إلا الذين عاصروا فيضان النيل في عصر صفاء السماوات من ضجيج قنوات الإرسال ومكبرات الصوت، وأستطيع أن أكون واحدًا من هؤلاء الشهود فقد عاصرت في صبايا المبكر آخر فيضان للنيل في مصر قبل قيام السد العالي.

النيل والتراتب الاجتماعي للشخصيات

حين تتحدث الرواية عن السلوك الاجتماعي لأهل القرية، فإن جزءًا من مؤهلات الزعامة يكمن في طريقة تحمل المسئولية أيام فيضان النيل، ومن هنا فإن الفريق الذي له وزن معلوم في القرية هو فريق محجوب وعبد الحفيظ والطاهر الرواسي وعبد الصمد وحمد ود الريس وأحمد إسماعيل وسعيد وهؤلاء «كانوا إذا فاض النيل أو انهمر السيل فهم الذين يحفرون المجاري ويقيمون التروس ويطوفون على الحي ليلا وفي أيديهم المصابيح، يتفقدون أحوال الناس ويحصرون التلف الذي أحدثه الفيضان».

وإذا كان أهل الحل والعقد في مجتمع ود حامد يقاس جانب من أهليتهم بمدى التزامهم أمام ظاهرة فيضان النيل، فإن الشخصيات نصف الأسطورية في هذا المجتمع والتي تكاد تخلو من النقائص والضغائن وتحلق في آفاق روحية صوفية وتتمتع بمزايا لا توجد عادة بين الأفراد العاديين، هذه الشخصيات نصف الأسطورية عند الطيب صالح تخرج من النيل مباشرة وقد تعود إليه في نهاية المطاف ويوجد من هذا النمط في أعمال الطيب صالح الروائية نموذجان هما:

«ضو البيت» و«بلال».

إنسان النهر

أما «ضو البيت» فهو نموذج الكائن الجميل الذي جاء به النيل إلى ود حامد يظهر لحسب الرسول ود المختار عقب صلاة الفجر وهو يعمل في حقله ويفاجأ بمن يشق النهر كأنه تمساح، فلا يشك أنه عفريت من الجن، ويستعيذ بكل ما يحفظ من كل آيات القرآن ولكن الخارج من الماء وهو كائن ذو وجه أبيض وعيون خضراء ولكنة أعجمية يقول له إنه إنسان جائع وليس بشيطان وإنه لم يذق النوم والطعام منذ ليالٍ بعيدة. ويلتف حوله أهل القرية في المسجد فيكتشفون من الحوار معه أنه فاقد الذاكرة لا يعلم من أين جاء ولا من هو وأطلقوا عليه اسم «ضو البيت» وتفاءلوا به واعتبروه خيرا ألقاه النيل إلى قريتهم ثم اكتشفوا أن بجنبه جرحًا غائرًا مليئًا بالقيح فعالجته فاطمة بنت جبر الدار ولما شفي أعلن إسلامه وأجروا له عملية ختان في احتفال كبير ثم أظهر قدرة كبيرة على العمل وعلى التعاون والمحبة وطلب أن يتزوج ووافق جبر الدار على تزويجه فاطمة، وحملت منه وجاء موسم الفيضان الرهيب وطغت المياه وهددت كل شيء بالغرق وفي ذروة الأزمة رأوا ضو البيت يظهر كالملاك المنقذ ويساعد الكثير على النجاة من الغرق ولكنه هو يختفي في نهاية المطاف وتتردد أقوال شخصيات الرواية حوله بعبارات تربطه بالنيل «تأكد لدينا أن موج النيل لفظ ضو البيت على شاطئ ود حامد ليكون بشيرا لنا بالخير والبركة.. هو عيونه خضراء ونحن عيوننا سوداء وهو وجه أبيض مثل القطن ونحن وجوهنا مثل الجلود المدبوغة وهو خرج من الماء ونحن خرجنا من الطين ونحن حياتنا تبدأ بين النيل تحت والصحراء فوق، وهو حياته ما ندري كيف بدأت وكيف تنتهي.. ضو البيت اختفى لا خبر ولا أثر ذهب من حيث أتى من الماء إلى الماء».

إن ضو البيت نموذج صنعه الطيب صالح لما يمكن أن يطلق عليه إنسان النهر، وهو نموذج خير خالص وقوي وهادر يحمل كثيرا من ملامح النيل ويهديه النهر من حين إلى آخر إلى الناس الطيبين الذين يحبهم كما هو الشأن في أبناء ود حامد.

كائنات النهر نصف الأسطورية

لكن ضو البيت كما جاء في رواية «عرس الزين» لم يكن النموذج الوحيد لما نطلق عليه إنسان النهر الخير، فهنالك أيضًا نموذج بلال ذلك الكائن الروحاني الذي يمشي على الأرض هونا ويكاد يحلق بأجنحته في السماء وتنسب إليه الرواية قدرات خارقة في مجال هز القلوب وإثارة الخشوع وجمع الصفوف عندما ينادي للصلاة «روى الذين حضروا زمانه أنه عندما كان يؤذن لصلاة الفجر تحس أن الصوت لا يصل إليك من مئذنة الجامع ولكنه ينبع من قلبك كان الجامع يمتلئ كل صباح بالمصلين... كل صباح يحضر الصلاة فوج من المصلين الغرباء لم يرهم الناس من قبل، كانت أبواب السماء مفتوحة في ذلك الزمان... وكان بلال روحا مفردا ليس من أرواح هذا الزمان ولا هذه الأرض.. وذات فجر استيقظ الناس على صوته ينادي من على مئذنة الجامع صوتًا وصفه الذين سمعوه بأنه كان مجموعة أصوات تأتي من أماكن شتى ومن عصور غابرة وأن ود حامد ارتعشت لرحابة الصوت وأخذت تكبر وتكثر وتعلو، فكأنها مدينة أخرى في زمن آخر».

إن هذه القوى الخارقة في مجال الروحانيات تجعل من بلال شخصية نصف أسطورية تتعادل قوتها مع قوة ضو البيت في المجال الجسدي، وتجمع بينهم صفات أخرى تؤكد مفهوم الغرابة والتفرد لدى كل منهما فكلاهما له لكنة أعجمية في النطق كانت تظهر في نطق بلال في كلمات الأذان وفي نطق ضو البيت للعبارات الدينية، كما جمع بينهما تفرد نتج من أن كلا منهما أنهى رحلته السريعة للحياة بعد أن أنجب ولدًا واحدًا يحمل اسمه: الطاهر ود بلال الرواس وعيسى ود ضو البيت الذي ولد بعد موته بثلاثة أشهر وغلب عليه لقب بندر شاه.

وإذا كان ضو البيت قد خرج من النيل صراحة وسجل الراءون مشهد خروجه الذي أثار الرعب، فإن بلال الذي يحيط الغموض بأصوله تصفه الرواية على نحو يدخله في فصيلة إنسان النهر «نشأ بلال لا هو حر يقال له ابن فلان ولا هو عبد يقال له عبد فلان، وكان هو في خاصة نفسه إنسانًا عجيبًا جميل الهيئة جميل الطباع متعففًا ورعًا، أخلاقه أخلاق سادة أماجد، ومن عجب أنه شبَّ كأنه نزل فجأة من السماء، أو انشقت عنه الأرض، أو أنه طلع من النيل شخصا كامل الهيئة والتكوين، فلا إنسان من أهل البلد يذكره طفلاً، ولا أحد يعلم من رباه».

وهكذا استطاع النيل المكان أن يشارك في صنع الشخصيات الرئيسية في أعمال الطيب صالح الروائية انطلاقًا من صنع نموذج الإنسان العادي إلى الإنسان المسئول من أهل الحل والعقد، إلى إنسان النهر نصف الأسطوري الذي أضفى على هذه الأعمال مذاقًا سحريًا جذابًا.

الحوار مع كائنات مملكة النهر

إن جانبا من سر المذاق الخاص الذي يخلعه النيل المكان الروائي على كتابات الطيب صالح قد يكمن فيما يمكن أن نطلق عليه الحوار مع كائنات مملكة النهر.

وقد كان الطيب صالح الروائي يقظ الحواس لكل ما يصدر عن النهر، يحاول التقاطه وفك شفراته «لبث وقتًا طويلاً وهو يرمي الحجارة في الماء كما كان يفعل إذ كان طفلاً ويلتفت للأصوات الخافتة التي تصدر هنا وهناك مع تباشير الصباح، سمكة تنط وتغطس أو طائر ينتفض في عشه».

وها هو الطاهر ود الرواس يحكي حوارًا متصلاً بينه وبين السمكة الأنثى بنت الكلب، وعندما يسأله صاحبه كيف عرفت أنها أنثى يجيبه حتى في الحوت، المره مره والراجل راجل، لكن هذه السمكة الأنثى على نحو خاص بينها وبين الطاهر ثأر خاص، فقبل خمسين سنة كانت جدتها قد قلبت به المركب وعندما وقع في الماء أخذت تشده من سرواله فترك لها السروال وهرب ومنذ ثلاثة شهور وهو يتتبعها يحاول اصطيادها وفي كل مرة تفلت منه، مرة تقطع الخيط ومرة تأكل الطعم وتشرد، وذات مرة رأى منها ما لم يره طوال خمسين عامًا، فقد شبت فوق وش الماء عارية تمامًا (كأن الأصل في الأنثى والسمكة أنثى ألا تظهر عارية) وكأنها هتفت تنادي الطاهر ود الرواس بكلام فصيح تخبره بأن من الخير له أن يبتعد عنها، وقبل أن يجد كلاما يرد به على هذه المفاجأة كانت قد اختفت في المياه من جديد.

لكن الطاهر تتشعب علاقاته مع عائلة هذه السمكة، فقد صاد جدتها منذ أربعين عامًا وصاد عمها منذ ثلاثين عامًا، وصاد عددا من عماتها وخالاتها في سنوات متتابعة. وتشتد صلة الطاهر بكائنات مملكة النهر ويشتد غيظه من تلك السمكة الأنثى التي تعانده، ويهتف مرة بأعلى صوته من على الشاطئ مخاطبًا أم هذه السمكة طالبا منها أن تأمر ابنتها بالابتعاد عنه وإلا فلن تفلت من يديه أبدًا «يا وليه هوي قولي لبتك أحسن تبعد عني المرة الجايه، عليّ اليمين إن طارت وإن قعدت ما تفلت من إيدي».

ولا يقتصر الإصغاء لكائنات مملكة النهر عند الطيب صالح على الأسماك، فالنهر كله كائن حي ينبغي الإصغاء إليه «شغلتني الأصوات المبهمة التي تنبع من النهر كأني أسمعها من مسافة ألف ميل فيها أصداء الأودية الجبلية البعيدة والشلالات، وأذعنت زمنا للغلط الموجات الصغيرة وهي تعدو بلا كلل من شاطئ إلى شاطئ، ومن آن إلى آن، كان النهر هنالك في القلب عند ملتقى التيارات يعوي عواءه القديم».

النيل ومراحل تطور الشخصيات الروائية

إن مراحل تطور بعض الشخصيات في روايات الطيب صالح ترتبط ارتباطًا جوهريًا بالنيل بحيث يتم وضع بصمة النيل على جسد البطل لتتم الإشارة إلى أنه في مرحلة معينة من مراحل تطوره العمري أو النفسي تتفق مع طبيعة علاقته بالنيل.

والذي يتأمل في تطور مراحل شخصية محيميد في بندر شاه مريود يتضح له بجلاء نمط الإشارات المتبادلة بينه وبين النهر في مراحلة المختلفة، ولقد كانت بداية إحساسه بتجاوز مرحلة الطفولة المبكرة التي يتساوى فيها الأولاد والبنات ولا يحس فيها بوجود فارق بينه وبين رفيقته مريم، كانت إشارة هذه المرحلة وهما معا يستحمان في النيل «رف طيف الصبا مثل برق في أفق بعيد، وأحس للحظة عابرة مذاق الثمر ونهد مريم يضغط على صدره وهما متماسكان في الماء.. وبين يوم وليلة تحولت مريم تحت سلطان تيار الطبيعة التي لا تقاوم إلى مخلوق آخر أصبحت تغض طرفها وتتريث في مشيها ولم تعد تسبح معهم في النهر».

لقد كان النهر إذن، حامل العلامة بالأنوثة المبكرة وواضع الحد الفاصل بين الأولاد والبنات.

أما علاقة محيميد الوثيقة والمعقدة بجده، فقد ترك النيل بصمته على كل مراحلها وملامحها «لم تكن سنه تزيد على السابعة يوم ألقاه جده في ماء النهر يعلمه السباحة أخذ يضرب بيديه ورجليه في الماء على غير هدى والجد على مبعدة منه يناديه بصوت فيه قسوة (اسبح.... اسبح) كيف يسبح؟ وأخذ يغطس ويطلع وكان طعم ماء النهر طعم الهلاك وصوت الجد كأنه صوت قدر أعمى (اسبح... اسبح)».

لكن هذه التجربة الجسور هي التي عبرت به من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الصبا ولسوف تتشكل هذه المرحلة عبر السباحة في النيل وتكون خلالها لذة الانتصار على النهر، يد تلمس قدماه الأرض في الماء الضحل.

وسوف يكون النيل أيضًا شاهدًا على تجاوز مرحلة الصبا إلى مرحلة الشباب عبر تجربة أكبر خطرا وأكثر تعقيدًا عندما يقول له جده إن الوقت قد حان ليسبح إلى الدوامة في منتصف النهر، وكانت الدوامة ملتقى تيارات يتجنبها أطول السباحين باعًا، إنه الموت ولا شك يسكن في تلك البقعة من النهر مثل حيوان خرافي مروع .

ولقد قرر محيميد أن يجرب لذة المخاطرة وأن يتماس مع الموت وهو على عتبة الشباب وأن يجرب السيطرة على هذه اللحظة الفاصلة وامتزجت عنده مشاعر الحب والكراهية تجاه جده الذي يدفعه دفعًا إلى هذه اللحظة الرهيبة «ولكنه قفز في الماء وقفز جده وأخذا يسبحان معا جنبا إلى جنب ... الماضي إزاء المستقبل .. كأنهما قدر واحد كان ذهنه مرهفا مسيطرا على كل عضلة في جسمه .. يذكر برودة الماء قريبًا من الشاطئ وجذع نخلة طاف على يساره وغراب ينعق صوب الشرق ثم أحس بالماء دافئا وكأن كل خلية في جسمه تسمع وترى وبدأ حس الدوامة يعلو والنداء يشتد.. ثم حملته موجة إلى مركز الفوضى كأن ألف برق يبرق وألف رعد يرعد.. ثم ساد صمت ليس كالصمت لم يعد مسيطرًا على قوى جسمه وحسب، ولا على قوى النهر وحسب، بل على كل احتمالات المستقبل... عبر الدوامة إلى الشاطئ الآخر.. ورأى جده يقفل عائدا من حيث أتى يا الله! إنه فعل المستحيل. جده سبح المسافة كلها من الجنوب إلى الشمال».

إن القدرة الفنية البارعة التي رصدت هذا المشهد من مشاهد حوار البطل مع النيل، حوار الإنسان والمكان لم تكن مجرد دعوة لكسر الخوف وتحدي شبح الموت والعبور من جانب الدوامة الجنوبي إلى جانبها الشمالي، وإنما كانت في جوهرها دعوة للإنسان لاكتشاف القوى الكامنة لديه، وبين يديه والمجهولة المشلولة نتيجة الخوف ونقص التجربة، ودعوة له لاكتشاف خصائص المكان الذي يتعامل معه من خلال الإصغاء العميق له والتنبه اليقظ لخصائصه والذي قد يبدأ بسيطرة الإنسان على كل خلجة لديه، نفسية أو جسدية، لكي يتمكن من خلال السيطرة على تحمل التحدي الذي يواجهه.

ولقد أحسن الطيب صالح الإصغاء إلى النيل المكان الذي استلهم منه معظم روائعه الفنية ودفعه ذلك الإصغاء والتأمل إلى أن يكتشف من أسراره ما يمر عليها الملايين الذين يعايشونه كل يوم، فلا يلتفتون إليها وأن تمر هذه الأسرار عبر الحاسة الفنية المرهفة التي يتمتع بها الفنان فتكتشف مذاقها الخاص الذي يشكل مزيجًا من المرسل والمتلقي ثم يعيدُ إرسالها من خلال أعمال فنية رائعة تأخذ في غالب الأحيان شكل السلاسة والبساطة التي يتمتع بها النيل ذاته، ولكنها تأخذ أيضا من طبائعه العمق والثراء والمتعة والفائدة، وأكاد أضيف إليها الديمومة والخلود.
---------------------------
* أكاديمي من مصر.

----------------------------------------

لا هذا عصرُ الشِعْرِ، ولا عصرُ الشُعَراءْ
هل يَنْبُتُ قمحٌ من جَسَد الفقراءْ؟
هل يَنْبُتُ وردٌ من مِشْنَقَةٍ؟
أم هل تَطْلَعُ من أحداقِ الموتى أزهارٌ حمراءْ؟
هل تَطْلَعُ من تاريخ القَتلِ قصيدةُ شعرٍ
أم هل تخرُجُ من ذاكرةِ المَعْدنِ يوماً قطرةُ ماءْ
تتشابهُ كالُرّزِ الصينيّ.. تقاطيعُ القَتَلَهْ
مقتولٌ يبكي مقتولاً
جُمجُمةٌ تَرْثي جُمْجُمةً
وحذاءٌ يُدفَنُ قُرْبَ حذاءْ
لا أحدٌ يعرِفُ شيئاً عن قبر الحلاّجِ
فنِصْفُ القَتلى في تاريخِ الفِكْرِ،
بلا أسماءْ...

سعاد الصباح

 

أحمد درويش*