فهد العسكر... شاعر الكويت في ذكراه الخمسين: (... وما كفرت, وكفروني!!)

فهد العسكر... شاعر الكويت في ذكراه الخمسين: (... وما كفرت, وكفروني!!)

لا أحد يدري ما كان سيحل بشعر فهد العسكر ومكانته الخاصة في ديوان الشعر العربي لو لم يبادر صديق الشاعر الأديب عبداللّه زكريا الأنصاري بجمع ما تبقى من شعره بعد رحيله وإصداره في كتاب تضمن توثيقاً مطولاً لسيرة حياته وذلك بعد خمس سنوات فقط على رحيله.

ظل كتاب الأنصاري الذي صدر في طبعته الأولى عام 1956, هو المرجع الأول والأخير لحياة الشاعر فهد العسكر وشعره, وقد كان الأنصاري حريصاً على مدى ما يقرب من خمسين عاماً تلت إصدار الطبعة الأولى على إعادة طبع الكتاب طبعات متعددة تضمنت في كل مرة المزيد من المعلومات والقصائد التي كان يجد في البحث عنها في مظانها الأصلية, مما أكسب ذلك الكتاب أهميته الفنية والتاريخية والريادية في التوثيق لحياة شاعر الكويت الأول... والأهم أيضا. كما أن اختيار الباحثة الكويتية الدكتورة نورية الرومي لحياة الشاعر الراحل وشعره مادة لأطروحتها التي تقدمت بها لنيل درجة الماجستير شكّل إضافة جديدة لمهمة إعادة الاعتبار لهذا الشاعر الذي رحل بائساً محروماً.. حزيناً.. تعيساً.. رافضاً ومرفوضاً.. غاضباً ومغضوباً عليه.. ناقداً ومنقوداً.. منكسراً ومخذولاً.. مريضاً وأعمى.. وحيداً وغريباً في وطنه.. لكنه رحل أولاً وأخيراً شاعراً كبيراً... ومبدعاً لم يتكرر كثيراً في ديوان الشعر العربي في الكويت, ليس لقيمة شعره الفنية, التي شكّك البعض فيها, وحسب, لكن بشكل أكثر أهمية لريادته الشعرية, وللخط الانتقادي الحاد والمستقل الذي تبنّاه منذ أن تفتحت شاعريته المميزة, ولأفكاره التقدمية الحالمة, ولأحلامه الشعرية ذات الروح النزق الجميل والطبيعة الرومانسية, التي أخذ على عاتقه الشعري التبشير بها بين أفراد مجتمع شديد التديّن, شديد المحافظة على العادات والتقاليد, وشديد الرفض لكل ما هو جديد. لم يكن فهد العسكر شاعراً عادياً في ديوان الشعر الكويتي أو العربي, فلقد ظهر ضمن تلك الإرهاصات التاريخية التي كانت تنبض في تضاريس المنطقة العربية بأكملها, فكان الصورة النموذجية في الكويت للعصر العربي الخاص, شعريا وسياسيا واجتماعياً. وقد رشحه نتاجه الشعري الغزير والذي لم يتبقّ منه سوى أقله بعد أن تعرض للحرق المتعمد من قبل ذويه الذين كانوا يرفضون خياراته الحياتية المتناقضة مع خياراتهم وخيارات مجتمعهم التقليدي, وللإهمال غير المتعمد من قبل الكثير من أصدقائه الذين لم ينتبه سوى قلة منهم لقيمة ما يحتفظون به من قصائد له... نقول, إن هذا النتاج الشعري رشّح فهد العسكر ليكون واحداً من طليعة شعراء جيله ليس في الكويت أو المنطقة الخليجية وحسب, بل على امتداد خريطة الوطن العربي بأسرها, وقد كان يمكن لهذه المكانة أن تتسع أكثر, ولهذه الشهرة أن تتضاعف أكثر وأكثر لو أن العسكر كان ممن يحرصون على نشر نتاجاتهم الشعرية في المنابر الصحفية التي أتيح له النشر فيها فعلاً, فقد كان هذا الشاعر زاهداً في تلك الشهرة حريصاً على عدم نشركل ما يكتب من قصيد جديد, ويرى عبداللّه زكريا الأنصاري (أن الشاعر فهد كان غير ميال إلى نشر قصائده في إحدى المجلات العربية, ولا نعرف الأسباب التي دفعته إلى التردد والامتناع أحياناً عن نشر قصائده, وربّما رجع ذلك إلى اعتقاده بأن هذه القصيدة أو تلك لا تستحق النشر, والذي يؤلمنا أننا كنّا نعرف أن لديه مجموعة كبيرة من أشعاره يحتفظ بها, وأنه أعد قسماً كبيراً منها للطبع, وقد أخبرني بذلك شخصياً, عندما كنت في زيارته في أحد الأيام, كما أخبرني أنه لا يستطيع طبع جميع قصائده, لأن فيها ما يسوء بعض الناس,وهو لا يحب إثارة خواطرهم, وسيتركها للزمن يفعل بها ما يشاء).

ولعلّ الشاعر كان يشير إلى أسباب ذلك الزهد في النشر عندما قال في بعض شعره:

وَطَني وَأدتُّ بكَ الشّبابَ وكُلّ ما مَلَكَتْ يميني

وقَبَرْتُ فيك مَواهِبي

واستَنْزَفت غللي شئونِي
ودَفَنْتُ شَتّى الذكريات بِغَوْرِ خافِقي الطّعَين
وَكَسَرْتُ كأسِي بعدما ذابت بِأحشائي لُحوني
وَسَكَبْتُها شِعراً رَثَيْتُ به منى الروح الحزين
وطَوَيْتُها صحفاً ضَننتُ بها وما أنا بالضّنين
وَرَجِعْتُ صِفْرَ الكفِّ مُنْطَوِياً على سِرٍّ دفين
فلأنت يا وطني المدينْ وَما أنا لك بالمدين



لكن زهد فهد العسكر بالنشر والانتشار لم يكن هو السبب الوحيد في تأخر مكانته الإعلامية, الثقافية عن الطليعة الشعرية العربية التي كان في صفوفها الأدبية الإبداعية. فإذا كانت تلك الطليعة قد حظيت باهتمام نقدي وإعلامي وثقافي كبير نتيجة انتمائها لبيئات عربية متقدمة ثقافياً وفكرياً ومتصلة اتصالاً مباشراً ومستمراً مع التيارات الثقافية المستجدة, فإن هذا العسكر ظهر في بيئة منغلقة على نفسها مقارنة مع غيرها من البيئات العربية المنفتحة في ذلك الوقت, كما أن ظروف العسكر الشخصية من تعرضه لذلك الرفض الأسري والاجتماعي وتعرضه للمرض ثم فقدان البصر كانت ممّا ساهم في تغييب صورته عن مشهد الشعر العربي في النصف الأول من القرن العشرين, رغم انتمائه الحقيقي لهذا المشهد,وتأثره بكل التيارات الشعريّة التي كانت سائدة في ذلك الوقت اتساقاً مع نزوعه لكل ما هو جديد ومع رفضه المطلق لكل ما هو قديم.

تحوُّل.. وثورة مبكّرة

وُلِدَ فهد العسكر على أرجح الأقوال, في الفترة من 1913 إلى 1917. وإذا كانت السنة التي وُلد فيها غير محددة يقيناً, فإن المكان الذي شهد ولادته أكثر تحديداً, فقد ولد في منطقة تسمى (سكة عنزة), وهي إحدى مناطق العاصمة الكويتية القديمة ونشأ وسط بيئة محافظة وبين أفراد أسرة شديدة التديّن حيث حرص والداه على تنشئته على العادات والتقاليد الموروثة, وعلى أصول الدين الإسلامي وتعاليمه, حتى أن والده كان يصطحبه إلى المسجد لأداء فروض الصلاة وهو ما زال في طور الطفولة الأولى, ولهذا, نشأ فهد العسكر متديناً بل لعله شديد التديّن. وقد كرّست المدارس التقليدية التي كانت منتشرة في الكويت في ذلك الوقت ذلك الروح الديني في نفس الطفل الصغير, ولم تغيّر مدرسة المباركية التي التحق بها بعد ذلك, وهي أول مدرسة عصرية نظامية في الكويت, ثم المدرسة الأحمدية التي استكمل بها تعليمه, شيئاً ممّا في نفس فهد العسكر. وفي هاتين المدرستين أتيح للطفل الموهوب أن ينهل الكثير من مصادر الأدب العربي التقليدية, فكان يقرأ كل ماتقع عليه عيناه من كتب أدبية ودواوين شعرية. وقد ظهرت بوادر النبوغ على الشاعر منذ طفولته المتأخرة, فيحكي أستاذه في المدرستين المباركية والأحمدية الشيخ الراحل عبدالله النوري, في مقالة له بعنوان (ذكريات عن فهد العسكر), نشرت في جريدة (الوطن) الكويتية بتاريخ 10/8/1964 أن فهد العسكر ألقى قصيدة في المدرسة المباركية بعد أن ترك الدراسة فيها, بمناسبة حفلة المولد النبوي, وقد هزّت تلك القصيدة مشاعر الناس وأخذت بألبابهم, وكان من نتيجة ذلك أن ظهر فهد العسكر كشاعر له مكانته. ورغم أن فهداً قد نشأ نشأة دينية متميزة تجلّت في حرصه على تسخير موهبته لخدمة قضايا الدين وإعلان شاعريته عبر قصيدة دينية في الاحتفال بالمولد النبوي كما روى النوري, إلا أن هذا الحرص تبدّد بعد ذلك شيئاً فشيئاً تحت وطأة اهتمامه المتزايد بنوع جديد من القراءات لم تكن المنطقة تعرفها كثيراً. وكان للمجلات الأدبية الصادرة من القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد تأثير في الشاعر المتطلع, حيث كان يحصل على أعدادها المتلاحقة عن طريق استعارتها من مكتبة ابن رويّح, وهي أول مكتبة افتتحت في الكويت.

لقد فتحت له تلك القراءات الجديدة آفاقاً جديدة على الشعر الجديد, وجعلته يبدأ أولى خطوات ذلك التحول الكبير الذي ألم به على الصعيد الشعري أولاً, ثم على الصعيد الفكري والاجتماعي, فتحوّل من شاعر تقليدي محافظ وشديد التديّن, إلى شاعر رومانسي ثائر على التقاليد الموروثة, حالم بمستقبل أفضل, شديد الجرأة في محاربة ثوابت المجتمع البالية, والمتعصبين من بني قومه... وهي الجرأة التي أوصلته إلى حدود التهور في كثير من الأحيان مما أسهم في تحريض أسرته ومجتمعه عليه, وإثارة غضبهما. وقد كانت الشكوى وسيلة فهد العسكر الشعرية الأولى في التعـبير عن ثورته العارمة ورفضه لكل ما كان سائداً في راهنه الراكد.

وفي هذا الصدد, تقول الدكتورة نورية الرومي في كتابها (الحركة الشعرية في الخليج العربي بين التقليد والتطوّر): (إن شعره كله على اختلاف قصائده ومناسباته يدور حول شكوى شاعر من واقعه, وتبرّمه بظروف حياته, وليس أدل على ذلك من أن كلمة الشكوى نفسها تتردّد في أشعاره بصورة غريبة تجعل من ذكرها ظاهرة فنية في شعر فهد العسكر (....), إن شكوى فهد العسكر ليست في حقيقة الأمر سوى هذا القلق الوجداني الذي يصيب هؤلاء الشعراء دون سبب حقيقي في أكثر الأحيان, أو ما يسميه الرومانسيون بمرض العصر, يقصدون به الأحزان التي تغلب على هؤلاء الشعراء من غير أن يكون لها سبب محدد. ومن الغريب أن هذه الشكوى الغامضة قد أنتجت شيئاً آخر في شعرفهد العسكر هو كثرة ذكر الدموع والبكاء والعويل والصراخ, وما يتصل بها من المعاني والكلمات, وقد أحدث فهد العسكر بهذه اللغة الوجدانية الحزينة ضجة وصراخاً يجعل قارئ شعره يحسّ بأحزانه وآلامه, ولكنه لا يستطيع أن يتبيّن أسباب هذا البكاء أو ذلك الصراخ...).

الرفض الشاكي

وتمثل قصيدة فهد العسكر الشهيرة التي كتبها عام 1946 بعنوان (شهيق وزفير) ذلك الرفض الشاكي الذي تميّز به الشاعر خير تمثيل. لقد كتب الشاعر هذه القصيدة مخاطباً بها والدته طالباً منها عبرها أن تكف عن توجيه اللّوم له فهو لم يعد قادراً على تحمل اللّوم ولا على تقبّل الانتقاد لا من أسرته التي قست عليه أشد القسوة فطردته من رحمة العيش في كنفها, ولا من مجتمعه الذي اتهمه بالكفر والمجون, لمجرد أنه رفض الصمت, ورفع صوته عالياً في الدفاع عن آرائه ومعتقداته, وعن الأحرار من بني وطنه ممن يرى أنهم أصبحوا يعانون من الحرمان والبؤس بل والسجن أحياناً في وطن يتمتع فيه الآخرون بكل شيء.

ويبدأ الشاعر أبيات هذه القصيدة بذلك الخطاب المرير قاطعا على والدته سيل احتجاجاتها وقسوة عتابها بقوله:

كَفى المَلام وَعلّليني فالشّكُ أودَى بِاليَقينِ
وَتَناهَبَتْ كَبِدي الشُّجون فَمَنْ مُجيري مِنْ شُجوني
وَأمَضَّني الدَّاء العَياء فَمَنْ مغيثي؟ مَنْ مُعيني؟



ويرسم العسكر لوالدته ملامح صورته الجديدة التي لا تحتمل ذلك النوع من العتاب القاسي, فيقول:

أَنا شاعر, أَنا بائِسْ أنا مُسْتَهام, فاعذُرِيني
أَنا مِنْ حَنيني في جَحيم آه مِنْ حَرِّ الحَنين
أنا تائِه في غَيْهَبِ شَبَحِ الرَّدى فيه قَريني
ضاقت بِيَ الدُّنيا دَعيني أَنْدِبُ الماضي دَعيني



ثم ينتقل في قصيدته إلى أسباب ما هو فيه من ضيق وأسى وغربة حقيقية تجلت في قسوة الحياة التي كان يستشعرها وهو يعيش في وطنه, محاصرا بمن يضيقون عليه الخناق, ويقفون حجر عثرة أمام تطلعاته الشخصية والوطنية, ودعوته للنظر إلى المستقبل بعين يملؤها الأمل والرغبة في ممارسة الحياة وفقاً لاشتراطاتها الجديدة, ولعلّ مما يخفف على الشاعر مأساته أنه يعرف اولئك الذين تحاملوا عليه ظلماً وعدواناً وأرهقوه, ولكنهم ما زالوا في عيّهم يعمهون فلا يعرفونه سوى شاعر كافر وخارج على قوانين المجتمع التي وضعوها أو ورثوها:

فَعَرفْتُهُمْ, وَنَبَذْتُهُمْ لكِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفوني
وَهُناك مِنْهُمْ مَعْشَر أُفٍّ لَهُمْ كَمْ ضايَقوني
هذا رماني بالشذُوذ وذا رَماني بالجُنوني
وَهُناك مِنْهُم مَنْ رَماني بِالخَلاعة والمُجونِ
وَتَطاولَ المُتَعصِّبون وَما كَفَرْت وكَفَّروني
وأنا الأَبِيّ النّفس ذو الوِجْدانِ والشّرَفِ المَصونِ
اللّه يَشْهدُ لي وما أنا بِالذّليلِ المُسْتَكينِ
لا دُر دِرهَم فَلو حُزْتُ النّضار لألّهوني
أو بِعْتُ وُجداني بأَسْواقِ النِّفاقِ لأكْرَموني
أَوْ رُحتُ أحرِقُ في الدواوين البُخور لأنْصَفوني
فَعَرِفْتُ ذَنْبي أنَّ كَبْشي ليس بِالكَبْشِ السَّمينِ
يا قَوْمُ كُفّوا دينَكُم لَكُمْ وَلي يا قَومُ ديني



صدمات متوالية

على أن الشكوى, رغم أهميتها في شعره والكشف عن مكنوناته النفسية وآرائه الاجتماعية والفكرية, لم تكن وسيلة فهد العسكر الوحيدة للتعبير عن منهجه الحياتي والشّعري, فقد دأب الشاعر في قصائد أخرى كثيرة على التعبير عن ذلك المنهج بتقديم صورة جديدة للمرأة الكويتية تتميز بالجرأة والانطلاق والانفتاح في علاقتها مع الرجل, وهي صورة مختلفة بل متناقضة تماماً مع الصورة التقليدية للمرأة الكويتية بل والعربية في ذلك الوقت بشكل خاص. ولعلّ فهد العسكر أراد برسمه لهذه الملامح المتخيلة للمرأة صدم المجتمع بأكثر ما يحرص على المحافظة عليه من مكوناته وهي المرأة.

ورغم أن العسكر يقدم هذه الصورة الجريئة للمرأة, فإنه لا يتوانى عن تقديمها ضحية لمجتمعها في قصائده الواقعية الاجتماعية.

ولم تكن المرأة وسيلة فهد العسكر الوحيدة في صدم مجتمعه, فقد أقدم الشاعر مثلاً على رثاء صديق له انتحر متبرماً من الأوضاع الاجتماعية التي كان يعيشها, ناعتاً إيّاه بالشهيد مما يتناقض مع تعاليم الدين الإسلامي التي تنظر للمنتحر نظرة تخلّده في النار وفقاً للحديث الشريف الذي ورد بهذا المعنى. كما أنه لم يكن ليتورع عن كتابة قصيدة غزلية صريحة في مناسبة المولد النبوي الشريف مثلاً.

على أن الشاعر لم يكتف بأغراضه التي يمكن أن تكون أغراضه الخاصة التي وظّفها للتعبير عن معتقداته الاجتماعية والشخصية. فلفهد العسكر قصائد رائعة كثيرة في التعبير عن إيمانه القومي وخدمة القضايا العربية, وخاصة القضية الفلسطينية. وقد أولع الشاعر بفن شعري تقليدي هو التخميسات, حيث خمّس بعض القصائد الشهيرة لكثير من الشعراء العرب القدامى والمعاصرين مثل المتنبي وأحمد شوقي, كما أنه أبدع في الوصف, وتعتبر قصيدته في وصف البلبل السجين واحدة من أبدع القصائد على هذا وفيها يقول واصفاً حال البلبل بما يذكر بحال الشاعر في عزلته التي اضطر إليها هرباً من قسوة الأهل والمجتمع:

وَلهان ذو خافِق رَقَّتْ حَواشيهِ يَصبُو فَتَنشُرهُ الذِّكرى وَتَطْويهِ
كَأنّهُ وَهُوَ فَوْق الغُصْنِ مُضطّربٌ قَلْبُ المَشُوقِ وقد جَدَّ الهوى فيه
رأى الرّبيعَ وَقد أودى الخريفُ بهِ بين الطّيورِ كَميْتٍ بينَ أهليهِ
فراح يرسِلُها أنّاتِ مُحتضرٍ إلى السّماءِ ويشكو ما يُعانِيه



ولم تختلف نهاية فهد العسكر عن نهاية بلبله البائس, فقد انتهى الأمر بشاعر الكويت الأول بائساً حزيناً يرسل آهاته الحرّى وأنّاته المحتضرة نحو السماء من غرفة متواضعة ومظلمة تقع في الدور الأول من إحدى بنايات سوق واجف في العاصمة الكويتية أقام فيها بعد أن طرده الأهل وهجره كثير من الأصدقاء ونبذه المجتمع, لكن مرض التدرُّن الرئوي الذي تسلل إلى جسده المُنهك حتم على نصف يوسف النصف مدير إدارة الصحة في ذلك الوقت أن ينقله إلى المستشفى الأميري لتلقي العلاج.. دون جدوى.

فقد كانت الأدوية والأمصال أعجز من أن تعالج جسد الشاعر الضعيف وروحه المنهكة ونفسيته المتعبة من عجز الآخرين عن فهمه وعجزه عن فهمهم. وهكذا أرسل الشاعر آهاته الشعرية الأخيرة نحو السماء: (وَما كَفَرْتُ.. وَكَفَّرونِي) قبل أن يغمض عينيه إغماضتهما الأخيرة يوم الخامس عشر من شهر أغسطس لعام 1951.

الفجر الصادق

رغم أن عبداللّه زكريا الأنصاري اجتهد كثيراً في جمع قصائد الشاعر الراحل وإصدارها في كتابه عن فهد العسكر, فإن هذا الكتاب القيّم والمهم لا يغني عن إصدار ديوان الشاعر بشكل مستقل وشامل ومشروح ومحقق, فكتاب الأنصاري ليس ديواناً شعرياً للعسكر بقدر ما هو دراسة تاريخية وتوثيقية لحياته وشعره, كما أن الأنصاري نفسه دعا في كتابه إلى جمع شعر فهد العسكر الذي يعتقد أن الكثير منه ما زال متفرقاً لدى بعض أصدقائه وفي كثير من المجلات التي كان العسكر ينشر قصائده فيها في ذلك الوقت.

وربّما كان المناسب أن نقترح إصدار هذا الديوان بعنوان (الفجر الصادق) وهو العنوان الذي كان الشاعر فهد العسكر, وفقاً لبعض الروايات, قد اختاره بنفسه عنواناً لمجموعة شعرية أعدّها لتطبع وتنشر على نفقة أحد المعجبين بشعره, ولكنه رحل عن عالمنا دون أن تتحقق له تلك الأمنية الصغيرة.. ولا تلك الأمنيات الكبار.

 

سعدية مفرح

 
 








غلاف كتاب الأنصاري التأريخي عن العسكر





بورتريه للشاعر بريشة صديقه أحمد العامر رسمه بالأسود والأبيض ثم لون لاحقاً





نسخة بخط يد الشاعر لواحدة من أقدم قصائده وقد كتبها في رثاء والد أستاذه في المدرسة المباركية الشيخ عبداللّه النوري