هدف مازال بعيد التحقق: هل يمكن التخلص من الفقر؟ محمد الرميحي

هدف مازال بعيد التحقق: هل يمكن التخلص من الفقر؟

حديث الشهر

لا أذكر من هو صاحب القول الساخر: لا بد أن الفقر شيء جميل وإلا لماذا كل هذا العدد من الفقراء في العالم.." ولكني أذكر أن الذي قال: لو كان الفقر رجلا لقتلته" هو الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. والفارق بين القولين هو الفارق بين متأمل يائس في نهاية القرن العشرين يرى أن الفقر قد تحول ليصبح إحدى الحقائق الأساسية، ولم يعد يجدي التعامل معها إلا بالسخرية، وبين فارس عربي قديم كان يرى أن استئصال كل شر يمكن أن يتم بحد السيف.

فبعد جهود دولية كثيفة استطاعت الأمم المتحدة أن تعقد مؤتمرا دوليا مشهودا في حضوره وفي موضوعه، وإن ظلت نتائجه حبيسة الجدران والملفات، وأقصد به ذلك المؤتمر الذي عقد في كوبنهاجن / الدنمارك بين السادس والثاني عشر من مارس العام الماضي 1995 ، تحت اسم "القمة الاجتماعية" وحضره مائة وثمانون رئيس دولة ورئيس وزراء وقائدا، وكان قمة بالمعنى الحقيقي للقمم، لأن العالم أجمع على أهمية قراراتها، وفي مقدمتها جاء قرار ( القضاء على الفقر في العالم ) الذي حدد سنة 1996 - التي انتصفت الآن - بأنها سنة القضاء على الفقر.

ولا أعرف لماذا تسرع الخبراء في تحديد هذا الموعد القريب جدا للقضاء على مشكلة معقدة مثل الفقر في العالم، فقد كان ولا يزال آفة تحاول المجتمعات تحاشيها ولكنها تضطر للتعايش معها.

فالفقر أصبح مواكبا للحياة وجزءا من كينونتها على مدى التاريخ. ولكن الذي دفع الحديث عن الفقر إلى مقدمة الأولويات هو سلسلة الندوات وورش العمل واللقاءات التي عقدها الخبراء وتبنتها الأمم المتحدة في بقاع كثيرة من العالم، وكانت كلها تدور حول هذا الموضوع "الفقر" وما قرأته من الوثائق التي صدرت عن هذه المؤتمرات هالني لسببين: الأول عمق مشكلة الفقر عالميا وتفشيها وزيادتها، وكذا بداية تفشيها في الأقطار العربية الذي يقدر الخبراء أن مساحة الفقر فيها آخذة في التزايد لا في النقصان غير ما هو متوقع كما سنرى لاحقا، والسبب الثاني هو محدودية وصول مثل هذه المعلومات إلى القاريء العام، فهذه المعلومات المهمة - بل والخطيرة - مازالت حبيسة أضابير الهيئات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة وجدران قاعات الندوات والأوراق التي كتبت عليها، ولم تصل إلى الناس الذين تعنى بدراسة حالاتهم، بل لم تصل إلى المهتم والمسئول ليعرف حجم هذه المشكلة المعقدة.

الحكومات التي حضرت ذلك المؤتمر المهم في ربيع العام الماضي التزمت - كما تقول القرارات - بالقضاء على الفقر سواء كانت أسبابه سياسية أو عرقية، أو اجتماعية، أو اقتصادية. وفي غضون الفترة الممنوحة أو المستهدفة وهي نهاية هذا العام، وهو هدف خيالي لا تستطيع الوصول إليه الدول ذات القدرة المالية والسياسية، فما بالك ببلدان تعاني من أشكال مزمنة من التخلف الاقتصادي؟!.

وإن أردنا فهم القصة فلنعد قراءة الحكاية من بدايتها

تحول في المفاهيم

"محاربة الفقر" الشعار الذي رفعته أخيرا مؤسسات الأمم المتحدة هو في حقيقته تراجع عن شعارات قديمة كانت المنظمة ومؤسساتها المتخصصة قد رفعتها في ظروف دولية كانت تختلف عما يعيشه العالم الآن بعد النصف الثاني من التسعينيات، فقد شهدت السنوات الماضية نشأة جيل كامل من المتخصصين في الاقتصاد والاجتماع على مفاهيم مثل التنمية الشاملة وتحقيق المتطلبات الأساسية للناس، والاستثمار البشري وتوزيع عائد التنمية على فئات المجتمع بالقسط إلى آخره. ولكن ما إن سادت مفاهيم أخرى مثل الخصخصة وآليات السوق وتحجيم دور الدولة في شؤون الاقتصاد حتى ارتفعت معها شعارات جديدة أهمها "محاربة الفقر"، وكأنها ظاهرة منفصلة ليس لها علاقة بالظواهر الاجتماعية والاقتصادية الأخرى ولكن المشكلة تفاقمت وأصبحت أكثر حدة خاصة بالنسبة للقطاعات الأكثر حاجة والأقل قدرة في المجتمع على الدفاع عن نفسها أمام المتغيرات الاقتصادية الهائلة التي تضرب العالم. والتي قد تدل على أن العالم يدخل عصرا جديدا مليئا بشراسة المنافسة ولا مكان فيه للفقراء.

أردنا ذلك أم لم نرد. فإن عالمنا اليوم متحرك وحافل بالتغيرات الكبرى، سواء على مستوى الواقع المعيشي للأفراد أو العلاقة بين الدول المختلفة، فقد ظلت البشرية ردحا من الزمن تتغذى وتعيش على بعض المقولات التقليدية ويعتمد عليها في تسيير السياسة والاقتصاد وشؤون المجتمع، ولكن هذه المقولات تكاد تنقلب على أعقابها إلى النقيض تماما، فما إن تسعد البشرية لفكرة وتطمئن إلى موقف حتى يأتي الزمن بفكرة مغايرة، وقد كانت الأفكار الجديدة في الماضي تأتي متدرجة، وعلى استحياء، وعلى فترة زمنية طويلة تقاومها الأكثرية وتقبلها الأقلية، أما الجديد اليوم فيأتي سريعا ومؤكدا إلى حد الوقاحة وضاغطا بل ومقبولا من الأكثرية في وجه مقاومة ضعيفة من الأقلية. وعلى سبيل المثال فإن انتهاء عصر الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي أثيرت حوله عشرات الكتابات والتفسيرات، انصبت في معظمها على أن ما حدث هو انتصار تاريخي لآليات السوق وحرية تبادل السلع والخدمات، وأن هذه الآلية الجديدة أو المعبود الجديد ( آلية السوق ) سوف تضبط في نهاية الأمر العلاقات بين الأفراد والجماعات المتصارعة في المجتمع الواحد، وكذلك بين الدول، ووصل الحماس بالبعض إلى وصف ذلك بأنه نهاية تاريخ قديم وبداية تاريخ جديد كما أكد على ذلك فوكوياما والذين اتبعوا أفكاره.

هذه الفرحة بآليات السوق ما لبثت أن تبددت، وأصبحت اليوم - على - الأقل - محلا للتساؤلات العميقة. فقد أخذ في الاتضاح يوما بعد يوم أن الفكرة الزاعمة بأن اقتصاد السوق سيصل بكل المجتمعات إلى مستوى الرفاهية المادية - التي تتمتع بها شعوب ودول أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، وأن الليبرالية الديمقراطية سوف تنتشر بين الدول التي تعاني القمع والتخلف انتشار النار في الهشيم - اتضح أن هذه الفكرة البراقة لا تتفق مع الواقع، فالاستقطاب الحاد بين الأمم وكذلك بين الجماعات العرقية والمصلحية في الدولة الواحدة يشكل تهديدا متزايدا للاقتصاد الحر، وكلما دخلنا في إطار ( العولمة ) والنمط الاقتصادي العالمي نمت وتجددت واتسعت أفكار الانعزالية ورفض الآخرين الذين يخالفونهم في الفكر أو العقيدة، أو يختلفون عنهم في اللون أو العرق. وظهرت هذه الأفكار حتى في مجتمعات الدول المتقدمة، وهكذا يصبح الأمن بالمعنى الشخصي والجمعي معرضا للتهديد أكثر مما كان في السابق. ظاهرة الاغتيال الجماعي والإرهاب ظاهرة متوقعة في هذه الدول الغنية، فاغتيال ستة عشر من الأطفال مع معلمتهم في إحدى القرى الاسكتلندية وما تلا ذلك من اغتيال ثلاثين إنسانا في أستراليا، وقبلها تفجير أوكلاهوما في الوسط الأمريكي، كلها ظواهر لهذا التمزق الذي فرضته آليات السوق. وبشكل أوسع فإن أزمة سياسية عميقة تصيب المؤسسات التي ظلت التنمية العالمية تعتمد عليها حتى وقت قريب وهي الدولة وآليات السوق والعلم.

إن الدخول المتسرع في قوالب العولمة واتفاقيات التجارة الحرة، وسرعة انتقال الاستثمارات، والعبور الدولي للأموال، ورغبة الشركات الملحة في خفض التكاليف، قد ولدت ثلاث مشكلات رئيسية هي: عدم التساوي في المداخيل إلى حد مأساوي بين الشمال والجنوب، تقلص فرص العمل بفعل التقدم التكنولوجي، والخراب المتسارع للبيئة التي نعيش فيها. فقد ظلت الدولة زمنا طويلا وفق منظور كنزي ( نسبة إلى العالم البريطاني جون مانيارد كنز) هي العامل الرئيسي في قيادة التنمية وتوجيهها والسيطرة عليها، ثم صار متوقعا منها أن تقدم للجمهور مستوى من الرفاهية بدرجات عالية، وأن توفق بين المصالح المتضاربة والمتناقضة لمجموعتها السكانية، وقد ارتفعت التوقعات المجتمعية إلى درجة أن الدولة أصبحت عاجزة عن تحقيقها، وهكذا نما الانتقاد الواسع الذي يركز على فشل الدولة وضرورة وجوب تقليص دورها والاعتماد على آليات السوق، وقد تم ذلك في قطاعات عديدة عن طريق الخصخصة، والانفتاح الحر، وإزالة اللوائح التي كانت تنظم المعاملات الاقتصادية والتي اعتبرت الآن معرقلة للانطلاق الخالي من القيود في مجال الاقتصاد والأعمال. وقد سارعت كثير من الحكومات التي اعترفت بعجزها عن الوفاء باحتياجات شعوبها إلى تبني "إصلاحات السوق" بعد أن أطلقت عليها العديد من الأسماء الرنانة. بل إن البعض قد رأى أن الدولة المركزية بطبيعتها معادية لاحتياجات السوق ، بل وللمؤسسات المدنية والديمقراطية، من هنا ظهرت أيضا فكرة الدعوة للمنظمات غير الحكومية والداعية إلى اللا مركزية وإخضاع الأجهزة الحكومية لمزيد من الرقابة والمساءلة، والمحصلة النهائية هي التقليل من قدرة الدولة على التأثير في مسار الأحداث. وبينما حققت هذه الإصلاحات انفراجا محمودا في بعض الدول فقد كانت لها آثار سلبية في البعض الآخر وعواقب ضارة. فشهدت بعض البلدان الاشتراكية السابقة بروز عصابات المافيا والبغاء وتهريب المخدرات، وارتفعت نزعة الاتجاه نحو الإجرام، وانزلقت بلدان أخرى إلى فترات صعبة من التمزق الاقتصادي وشهدت بلدان عديدة صراعات عرقية أدت في كثير من الحالات إلى حروب أهلية. وكان من الممكن أن تؤدي أزمة الدولة إلى نتائج أقل خطورة لو لم تتواكب مع فكرة السوق غير المقيد، الذي قلل من الرقابة والحماية والمنافسة. ففي غياب القدر الل ازم من الرقابة والحماية عجلت قوى السوق بتحويل الموارد الطبيعية إلى رأسمال مادي وبذلك تزيد من تفاقم استهلاك الموارد، كما أنها تقدم الحافز لتجاوز أنظمة الحكم وإخضاعها لمصالحها الشخصية وليس مصلحة المجتمع ككل.

وكما هو واضح في بعض بلدان آسيا وأمريكا اللاتينية فإن عولمة قوى السوق تؤدي إلى تحويل الأغنياء والفقراء إلى مغامرين تجاريين ومضاربين، لذلك فإن الناس العاديين لا تنمو لديهم الثقة في السوق، لأن مخالفة القوانين والقواعد لا تلقى العقاب بل التشجيع، كما أن ( تعويم الأسعار ) يتبعه ارتفاع حاد في تكاليف المعيشة، مفاجئ ومكلف لطبقات واسعة من الناس.

إن انعدام التكافؤ في الدخل بسبب عولمة الاقتصاد قد أصاب الأفراد وأصاب هيكل الدولة نفسها بالعطب. ويبدو الأمر واضحا في تزايد اتساع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة. فقبل ثلاثين عاما كانت الدول الخمس الأكثر غنى من سكان العالم تملك ثلاثين ضعفا أكثر مما تملكه الدول الخمس الأكثر فقرا. أما اليوم فقد ارتفع الفارق بينهما إلى ستين ضعفا. وأصبح 20 % من مجموع الدول في العالم تملك 85% من إجمالي الدخل العالمي. بينما تقلصت حصة الدول الفقيرة فقط إلى 1.5 % من بقية الدخل. وقد انخفض دخل العشرين دولة الأكثر فقرا في العالم من 2.3 % إلى 1.4 % فقط. أي أن الدول الفقيرة زادت فقرا على فقر. وقد ارتفع عدد أصحاب الملايين. فقد ثبت بالأرقام أن 358 فردا يملكون ما قيمته 762 مليارا من الدولارات وهذا المبلغ يساوي مجموع دخل 2.5 مليار فرد من سكان العالم الأكثر فقرا.

أطفال الفقر

ولم يترك الفقر بصمته على أحد كما تركها على أطفال هذا العالم الذي نعيش فيه. فمع الأطفال يصبح الفقر أكثر وضوحا وأكثر مأساوية. ففي العديد من دول العالم هناك قوانين تمنع عمل الأطفال وتلزم ذويهم بإرسالهم إلى المدارس.

ولكن هناك أكثر من 80 مليون طفل. - معظمهم من الدول الفقيرة - تتراوح أعمارهم بين الثامنة والخامسة عشرة يتوجهون كل صباح إلى أعمال خطرة لا تتناسب مع خبرتهم ولا سنوات عمرهم. هذا الرقم هو من تقديرات منظمة العمل الدولية، ولكن الأرقام الحقيقية العالمية هي أكبر من ذلك، والأعمال التي يقوم بها هؤلاء الأطفال لا يمكن أن يتصورها بشر. ففي تايلند يمكن أن تباع أي طفلة من سكان الجبال بما لا يزيد على 3 آلاف بات ( حوالي 150 دولارا ) كي تمارس الدعارة في أروقة المدينة وفي بيوتها السرية لمدة سنوات طويلة حتى تسدد هذا الدين الذي يبدو أنه لا يسدد أبدا. وهي لا تذهب مع الزبائن فقط بل إنها تضرب وتهان بشكل مستمر حتى تتعلم الطاعة وعدم رفض أي شيء. وفي الهند يعمل الأطفال في مصانع قرب مدينة دلهي لصناعة الطوب دون أي أجر، فقط في سبيل وجبة من الطعام ومأوى سيئ، وهم عرضة باستمرار لكسر العظام، أو لتشويهات في العمود الفقري. وهم بهذه المهنة أسعد حظا من رفاق لهم يبلغ عددهم حوالي 45 ألف طفل هندي يعملون في تغليف المفرقعات بحوالي 70 سنتا كأجر يومي، بينما يربح أرباب العمل حوالي 35 مليون دولار من هذه الصناعة ولا يدفعون أي تعويض عن حوادث العمل. وفي أمريكا اللاتينية يحصد الأطفال محاصيل الحقول المرشوشة بالمبيدات وينظفون الأرض من الجرذان الميتة. وفي كولومبيا يحشر الأطفال في أضيق مناجم الفحم الحجري. ويعمل أطفال البرازيل في صناعة الزجاج، حيث تبلغ درجة الحرارة 1500 درجة مئوية ويستنشقون أبخرة السليكون السامة والزرنيخ بشكل يومي، ويصاب الأطفال في مصر بتشويهات العمود الفقري في صناعة الملابس وهم مع ذلك أسعد حظا من الذين يعملون في محاجر الجير بسقارة حيث تتكلس رئاتهم الصغيرة في وقت مبكر، وما زال الآباء في باكستان يقومون بتشويه أولادهم حيث يمكنهم العمل كشحاذين، أما في إفريقيا فهم يفضلون بيعهم كعبيد للعمل كل الوقت وطوال العمر.

وبرغم هذه الصورة المفزعة، وتنبه العديد من المنظمات الإنسانية لها فلا مجال للتفاؤل، ففي معظم الدول الفقيرة تعتمد العائلات على أطفالها لتأمين معيشتهم، وفي الريف يذهب الأطفال إلى العمل في الحقول طالما يستطيعون المشي على أقدامهم، ولا تتوقف الهجرة من الريف إلى المدن لتضيف مزيدا من التعطل والحاجة إلى التكسب بأي أجر ووفق أي ظروف، وفي مثل هذه الحالات يعمل الأطفال قبل أن يعمل آباؤهم، لأنهم يقومون بنفس العمل ويتقاضون ربع الأجر الذي يتقاضاه البالغ تقريبا.

والأطفال يخافون ويخضعون لتهديد المشرفين، ولا يمكنهم التجمع أو الاحتجاج لدى السلطات الرسمية، وليس هناك نقابة تدافع عنهم عندما يرهقون بالعمل أو يتقاضون أجورا زهيدة، وقليل منهم يعرفون حقوقهم القانونية أو يملكون القدرة على الاستفهام حول ماهية الأجر، وأغلبهم شاكرون لأنهم يعملون ويجدون الفرصة لتناول وجبة يومية.

إنها عودة أخرى لزمن الرق بشكل جعله العالم المعاصر أكثر بشاعة. ففي آسيا وجزر الباسفيك يعمل الأولاد لساعات تتجاوز كل المقررات الرسمية، ثم ينامون في الليل على بلاط المصنع. وفي الهند يكوى الأطفال الصغار بحديد حام إذا أخلوا بالتعليمات، وفي تايلاند يصب الحامض الحارق على وجوه بنات الهوى المراهقات القاصرات لتأديبهن، وهناك من يرى أن كل ما يحدث لهؤلاء الأطفال هو أفضل بكثير من جلوسهم جياعا أو تجوالهم بلا عمل.

ويقول تقرير لمنظمة العمل الدولية إن من غير الإنساني أن نجبر الصغار على القيام بدور الكبار ، لأن هذا كفيل بقتل طاقاتهم الإبداعية وقدراتهم على السمو. بل إن قواهم العقلية تتبلد تماما. ففي ظل يوم عمل يمتد إلى أكثر من عشر ساعات يوميا لا يمكن للصغير أن يلعب أو يذهب إلى المدرسة أو يفكر حتى فيما ينتظره في أيامه المقبلة. لقد دعت منظمة العمل الدولية في عام 1973 إلى أن تكون الخامسة عشرة هي السن الدنيا للعمل وقد وقعت على هذه الاتفاقية 27 دولة فقط من أصل 150 دولة. بل إن المسئولين في هذه الدول يغضون النظر عن المساويء والمظالم الواقعة على هؤلاء الأطفال. ففي الهند مثلا يعلم المسئولون أن هناك حوالي 5 إلى 16 مليون طفل يعملون داخل المصانع والمناجم والمحاجر ولم يتحرك أحد لدرء هذا الأمر. وبرغم أن التعليم في الصغر هو أمر إلزامي في كثير من الدول، فإن مجتمعات الدول الأفقر مضطرة لاعتبار الكسب المادي أفضل بكثير من اكتساب العلم، وتؤكد وكالات الإغاثة أن اليسير من العلم كفيل بتدبير مستقبل أفضل، ولكن كيف يتحقق هذا؟!.

في البرازيل هناك برنامج يعطى بعضا من الأمل.. وهذا البرنامج يتم برعاية اليونيسيف التي ترى أن يعمل الأطفال بعض الوقت ويتناولون وجبة طعام مغذية، ويذهبون بعض الوقت إلى المدرسة، وهذا البرنامج كفيل بإنقاص عدد الأطفال المتشردين في الشوارع، ويسمح لهم بالانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب بحد أدنى من الخسائر ولكن المشكلة أن من الصعب توفير الميزانية المناسبة لمثل هذه البرامج الإنسانية، وإذا كان الأمر يتعلق ببرامج للتسليح لتوافرت الميزانيات المناسبة، أما الأطفال مستقبل الأمة البشرية فإن الواقع الذي ينتظرهم بالغ المرارة.

غنى العرب وفقرهم

من الوثائق التي اطلعت عليها وهي جزء من ندوات متخصصة عقدتها منظمات مختلفة للأمم المتحدة لم يعد هناك شك بأن الغنى النسبي للعرب أجمع منذ الستينيات حتى الثمانينيات من هذا القرن كان أحد أسبابه الرئيسية هو النفط. فما من وثيقة علمية إلا وتؤكد أن العرب كانوا أفضل حالا في السبعينيات، والجزء الأول من الثمانينيات، ولكن ما إن جاءت التسعينيات حاملة الانخفاض في أسعار النفط حتى ظهر غول الفقر في بقع عديدة من الجسم العربي، كما ينتشر وباء "البهاق" على جلد الجسم الصحيح. وبالأرقام فإن الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية في التسعينيات بدأ في الانخفاض السنوي بمقدار يتراوح بين 1.1 % و1.4 % في الوقت الذي ارتفع فيه الدين العام، الداخلي والخارجي ليثقل كاهل الميزانيات العربية الضعيفة في الأصل، ويمكن أن نلاحظ أن هناك ثلاث خصائص للفقر العربي. الأولى: انتشاره في الأرياف والبوادي العربية، فقد بلغت نسبة الفقراء في الريف العربي 26 % من سكان تلك المناطق، والفقير هنا هو الذي لا يستطيع أن يحصل على الحد الأدنى من الغذاء الذي يقيم أوده. الخاصية الثانية للفقر العربي هي: تركزه حول المرأة، فالقطاع النسائي هو المتضرر الأكبر من فقر الأسرة، أما الخاصية الثالثة فهي: ظهور الفقر بأوضح صوره في نمط التوظيف، فالفقراء إما متعطلون عن العمل أو عاملون بأجور متدنية. وقد فاقم من ظاهرة الفقر في البلاد العربية مجموعة من المظاهر المساعدة منها الزيادة السكانية فهي - على حد تعبير الوثائق - من أعلى معدلات الزيادة في أي منطقة أخرى من العالم وخاصة في الفترة من 62 إلى 92 أي على مدار الثلاثين عاما الماضية. وبرغم هذه الزيادة فقد سمحت الطفرة النفطية بصورة من النمو الاقتصادي ترجمت إلى خدمات إنسانية متطورة نسبيا للسكان، أما بطء النمو الاقتصادي في العقد الماضي مع زيادة السكان، والصراعات الداخلية والحروب الخارجية فقد قلل من قدرة المنطقة على الوفاء بمعدل معقول من مستوى المعيشة. ومن الأسباب الأخرى لزيادة حدة الفقر في البلدان العربية هي الهجرة الداخلية من الريف إلى المدينة، فالعقد الماضي شهد زيادة مطردة في هذه الهجرة، مما زاد من نسبة فقراء المدن - المتعطلين، أما مشكلة البطالة فهي من أكثر المشكلات، إذ أنها تأخذ أشكالا مختلفة من ها بطالة المتعلمين التي ارتفعت إلى نسب مخيفة تصل في بعض بلداننا إلى ربع قوة العمل، خاصة في المناطق الحضرية، ومن المقدر أن تظل نسبة هذه البطالة في ازدياد لأن نسبة كبيرة من الشباب سوف تدخل إلى سوق العمل بأعداد كبيرة في السنوات القليلة القادمة، ومع عدم وجود فرص للعمل فإنها ستنتهي في مجتمعات الوفرة النسبية إلى بطالة مقنعة وفي مجتمعات الندرة إلى بطالة سافرة. البنك الدولي يضع ثلاثة أسباب للفقر هي: ضعف النمو الاقتصادي، وعدم وجود خدمات اجتماعية أساسية، وعدم وجود شبكة حماية ( تأمين اجتماعي ). في العالم العربي يمكن إضافة أسباب أخرى إلى هذه القاعدة الثلاثية، مثل التوزيع المخل للثروة، زيادة البطالة، وزيادة النمو السكاني، ثم يأتي بعد ذلك أخطر الأسباب وأكثرها مرارة وأعني به الحروب والصراعات الداخلية العربية - العربية التي استطالت وأنهكت قوانا أكثر مما ينبغي.

بعض الحقائق المرة

البلاد العربية حظها في الفقر كحظها في أشياء أخرى غير متساو، وتقسم تقارير الأمم المتحدة البلاد العربية من حيث الدخل إلى ما تسميه الدول الأقل دخلا والأقل تنمية، والدول المتوسطة الدخل، والدول العالية الدخل. في الطائفة الأولى تقع بلاد مثل اليمن والصومال والسودان وموريتانيا التي يقدر المتوسط السنوي للدخل لكل فرد فيها بين 700 إلى 1100 دولار. هذه البلدان تعتمد على الزراعة في ثلث أو أكثر من إنتاجها الداخلي، وتحتل الخدمات نفس النسبة تقريبا، ونسبة قليلة من الصناعة، أما الدول المتوسطة مثل مصر، والأردن، والمغرب، وسوريا، فإن تقدير سنة 1991 يقول إن متوسط دخل الفرد السنوي فيها يتراوح بين 1200 إلى 5000 دولار في العام وهذه الدول ذات اقتصاد متكافئ تلعب فيه الزراعة دورا متميزا وتكملها الصناعة والخدمات.

أما الدول ذات الدخل المرتفع وهي الدول المنتجة للنفط والتي يشكل متوسط الدخل السنوي للفرد فيها أكثر من ستة آلاف دولار فإنها تتميز بصغر حجم السكان المحليين، وكبر عدد السكان المهاجرين في هذه البلاد. فإن القطاع النفطي يشكل القطاع الاقتصادي القائد، يتبعه قطاع الخدمات. لذلك فإن النمو الاقتصادي وقضايا الفقر تختلف بشكل كبير في البلدان العربية المختلفة، وحتى فيما بين البلدان الواقعة في نفس المجموعة ولكن بسبب الهجرة الداخلية بين البلدان العربية، فإن المجموعات المهاجرة تؤثر على المستوى الاقتصادي والاجتماعي للبلدان المهاجر إليها.

البلدان المضيفة تحتاج إلى قوة عمل ماهرة أو شبه ماهرة وكثيرا ما تؤمها أيد عاملة غير ماهرة مما يحدث نوعا من الفروق في الدخل، كما أن الوضع الاقتصادي في البلدان النفطية كثيرا ما يؤثر على البلدان المصدرة للعمالة، انخفاض أسعار النفط منذ الثمانينيات وتقلص الموارد المالية وكذلك الإعانات والمساعدات تضع أعباء جديدة على البلدان الأقل قدرة اقتصادية. ولكن المفاجأة المثيرة في الإحصاءات المتوافرة التي تقول لنا إن نسبة الفقر في البلاد العربية هي 65 % في المناطق الريفية و23 % في المناطق الحضرية. وهي نسب عالية بكل المقاييس.

العلاج

سياسات محاربة الفقر في البلدان العربية بشكل عام ما زالت متمسكة بمفهوم الرعاية، ولم ينظر بشكل كاف إلى أسباب ومعالجة جذور المشكلة بل محاولة علاج لظواهرها من خلال تقديم برامج الرعاية الاجتماعية والمساعدات العينية والمالية، بينما من المفروض أن ينظر إلى هؤلاء على أساس أنهم قطاع منتج ومستهلك في نفس الوقت - مواطنون بقدرات غير مستقلة. هناك شكلان من أشكال معالجة الفقر يمكن تعرفهما في المنطقة العربية، الأول هو استراتيجية الرعاية الاجتماعية ودوافعها العطف والشفقة على المواطنين الأكثر حاجة، والثاني وهو نظام المساعدات غير المباشرة لمجموعات محددة، كدعم السلع الأكثر طلبا في هذه القطاعات، وقد يأخذ هذا الدعم أشكالا عديدة من دعم للمواد الغذائية إلى توظيف أيد عاملة في الحكومة دون إنتاج يذكر. وهذه خطوات تؤخر ظهور بعض المشاكل ولكن لا تستأصلها. الدراسات الحديثة التي أجريت في العالم العربي على برامج محاربة الفقر أثبتت أن فشل هذه البرامج ليس لأن الحكومات غير راغبة في استئصال الفقر، بل لأن البرامج نفسها مبنية على قاعدة فلسفية خاطئة.

فظاهرة الفقر في البلاد العربية تختلف من بلد إلى آخر، وهي تحتاج إلى استراتيجية مختلفة لكل حالة، لذلك فإن هذه الدول عليها استنباط استراتيجية خاصة بها في ضوء التغيرات الحادة الطارئة على اقتصادها، فمعظم البلاد العربية تقوم بتنفيذ برنامج للإصلاح الاقتصادي بناء على نصائح البنك الدولي الذي يتوجه إلى الخصخصة وإطلاق حرية المواطنين في المشروعات الاقتصادية وتحرير العملة الوطنية، وهذه السياسة لها نتائج اجتماعية سلبية خاصة على القطاعات الأقل دخلا. لذلك فلا بد من التفكير ببرامج جديدة ومبتكرة لمحاربة الفقر.

تجارب من التراث

في التراث العربي والإسلامي العديد من التجارب بل والمؤسسات التي عنيت في الماضي بالفقر والفقراء، فلو عدنا مثلا لمؤسسة الوقف الإسلامية التي أجري عليها تعديلات وتطويرات حديثة، لوجدنا أن هذه المؤسسة من الممكن لها أن تعنى بالمواطنين ذوى القدرات غير المستغلة، عن طريق تمكينهم من فرص يستفيدون فيها من قدراتهم، كما أن المنظمات غير الحكومية والتي وجدت في بعض بلداننا منذ القرن الماضي وتوسعت وانتشرت في هذا القرن يمكن لها أيضا أن تساهم مساهمة فعالة في ملاحقة الفقر ببرامج حديثة ومبتكرة. وتقدر بعض الدراسات أن المنظمات غير الحكومية في البلاد العربية يصل عددها إلى أربعين ألفا، هذه المنظمات لها قدرات في المرونة والسرعة والمبادرة ما ليس للمنظمات الحكومية الرسمية.

وتجارب أخرى

هناك بعض التجارب الرائدة في محاربة الفقر في بعض بلدان العالم الثالث أصبحت لها سمعة دولية، فقد تبين أن الفقر قد ينتج عن عدم وجود قنوات مالية لتمويل بعض المشروعات المنتجة، وحالة ( جريمين بنك ) الذي أسسه محمد يونس في بنجلاديش أكد مقولة أن الجوع ليس سببه نقص الغذاء وإنما سببه عدم قدرة الفقراء على الشراء، وأن الفقر هو السبب الرئيسي للجوع. ولقد طرح محمد يونس فكرة أن التمويل المالي البسيط يقدم للفقير الفرصة لتحويل طاقته الخلاقة إلى دخل. لقد تحدى (جريمين بنك) القواعد البنكية المتعارف عليها خاصة بالنسبة للفقراء، والقائمة على فلسفة "إن لم يكن لديه شيء فلا تعطه شيئا". لقد عكس ذلك بالبحث عن الفقراء وتمويل مشروعاتهم البسيطة. وبدأ سنة 1976 بتمويل 24 فقيرا قرويا في بنجلاديش بثلاثين دولارا فقط ولقد نجحت الفكرة وانتشرت في القرى المجاورة، وفي النهاية أصبحت بنكا حقوقه مملوكة من الفقراء، واليوم ( جريمين بنك ) GRAMEEN BANK يستلف منه مليون قروي فقير، 94 % منهم من النساء، وهم حاملو أسهم البنك، أيضا في الوقت الحالي فإن نشاط البنك موزع على 35 ألف قرية في بنجلاديش يسكنها 68 ألف قروي. خلال 1994 قدم البنك سلفا صغيرة بما مجموعه 385 مليون دولار أمريكي في المتوسط، وهي نسبة كبيرة بالمقارنة بالخمسة والثلاثين دولارا لاثنين وأربعين شخصا في عام 1976 المدينون للبنك أعادوا ديون البنك وفي نفس الوقت حققوا استقلالهم الإنساني ومستوى أفضل لغذائهم وصحتهم ومياه الشرب ومنازلهم، عائلات معدمة تتخطى خط الفقر النسبي. فوق ذلك فإن تجربة ( جريمين بنك ) قد توسعت كي تصل إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية وأظهرت أن الفقراء الذين كانوا محرومين من التمويل - إن قدمت لهم الفرصة ولو ضئيلة - يستطيعون أن يحولوا طاقتهم الإنسانية إلى إنتاج يبيعونه كي يحققوا كرامتهم. إنها فكرة نجحت على المستوى المحلي، بل وكبرت واستفاد منها الملايين، وليس بالضرورة أن نفس الفكرة بحذافيرها التي بدأها محمد يونس في بنجلاديش تنقل إلى العالم العربي، ولكن بالتأكيد هناك أفكار كثيرة يمكن استنباطها من تراثنا ومن واقعنا كي نحارب الفقر، وبذلك يصدق قول الإمام علي كرم الله وجه ه "لو كان الفقر رجلا لقتلته".

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات