المعلم: (قف للمعلم وفّه التبجيلا)

المعلم: (قف للمعلم وفّه التبجيلا)

صانعوا الحضارة العربية الإسلامية

الوظيفة وليس الاسم, هذه هي الرؤية التي ينتهجها أستاذنا د. نقولا زيادة لدراسة حضارتنا لإسلامية ونحن في بداية هذا القرن الجديد, فالحضارة هي مجموعة من الأدوار والوظائف المتواصلة التي تسيّر الحياة البشرية, لا تتوقف بتغير الحكام وتوالي الدول, كما أن الانتكاسات السياسية لا تشل من فاعليتها, إنها تصنع نوعاً من الوتيرة الثابتة تحقق في النهاية ذلك التراكم الحضاري الذي أهل الحضارة الإسلامية أن تقوم بدورها وأن تأخذ سمتها.

إن كتب التاريخ والأدب والشرع التي ذكرت أولئك الذين قاموا بالتعليم, ورد فيها الكثير من الألقاب والأخبار: فهناك المعلم والمؤدب والشيخ والمدرس.

واالعمل الأساسي الذي يقوم به هو إيصال ماعند المُلقي (للموضوع) إلى المتلقي.إن أول نوع أو فئة من المعلمين في الإسلام قامت بتعليم القرآن الكريم (قراءة وحفظا) وتفسير العقائد.

وكان هذا الأمر غاية في الأهمية والفتوح العربية تتسع, والإسلام يقبله ـ فضلاً عن أهله ـ أعداد كبيرة, وهي أعداد كانت تتزايد سنة بعد سنة. وكان الذي يقوم بعملية الاقراء والتفسير هذه كل من كان يعرف ما يؤهله لذلك.

وكان من الطبيعي أن يكون المسجد هو المكان المناسب لمثل هذا النوع من التعليم. فمعرفة الرسالة ومعناها - عن طريق تعلم القرآن الكريم والعقيدة - كان من الطبيعي أن ترتبط في أذهان الناس وضمائرهم بالمكان المخصص لهذه العبادة وماتفرّع عنها وما اتصل بها.

ومع أن الحضارة العربية الإسلامية عرفت, في تطوّرها الصعدي, أنواعاً للمعلمين وأماكن متعددة للتعليم, فقد ظل المسجد والمسجد الجامع مكاناً لأنواع من العلم والتعليم إلى يوم الناس هذا. وهذا أمر سنوليه عنايتنا في مكانه من هذا الحديث. ولم تكن هذه الجلسات لتلقّي العلم الديني منتظمة لا في أوقاتها ولا في صفوفها. والمرجح أنها كانت تعقد في المسجد بعد صلاة العصر. لكن لم يكن ثمة ما يمنع القائم على أمر المسجد أن يعلم الصغار متى أتيحت له الفرصة وتجمع منهم من يجب أن يعلم. ذلك بأن المساجد كانت مفتوحة دوماً للعمل الديني الخيري.

تعليم دون أجر

ولم يكن هؤلاء الذين يقومون بالتعليم هذا يتلقون أجراً على عملهم. فهم, على ما قال عنهم ابن خلدون, (كان عملهم التبليغ الديني وهو عمل خيري لا على وجه التعليم الصناعي).

على أنه بدا لكثيرين من أهل الحكم والمعرفة أن ثمة أموراً يجب أن يعلّمها الطلاب لكن لا يمكن تقديمها في المسجد, مثل اللغة والأدب والخط. فظهرت مؤسسة أخرى هي المكتب أو الكتاب. ويبدو من القصص الذي يُروى عنها أن هذه المؤسسات ظهرت في أنحاء العالم الإسلامي في أوقات مختلفة, ولكنها أصبحت في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي معروفة بعض الشيء. لكن في القرن الذي تلاه دخل عليها شيء من التنظيم. إذ إننا نجد نوعين من هذه المؤسسات: المكتب والكتّاب. والمكتب يدخله التلميذ في سن تتراوح بين الخامسة والسابعة, أما الكتّاب فيُنقل إليه (أو يدخله أصلا) في سن العاشرة. وكان يتعلم في المكتب والكتّاب العلوم الدينية على نحو ما كان يتم في المسجد, لكن متى وصل التلميذ إلى الكتّاب كان عليه أن يضيف إلى ذلك اللغة والأدب والخط, فيكون بذلك قد ظفر بالأدوات الأساسية اللازمة للاستمرار في التحصيل. وقد يسمى القائم بالتعليم في المكتب أو الكتاب المؤدب أو مؤدب الصبيان.

والمكتب أو الكتاب الخاص, الذي يقوم بالتعليم فيه رجل على حسابه, كان التلامذة يدفعون جعالة على تعليمهم. وهذه كانت تقدر على أساس عدد الدروس أو الأيام, لكن المبلغ كان يتعلق بالتلامذة الذين يؤمّون هذه المؤسسات. فقد تكون المؤسسة في ناحية ثريّة, فيكون الدفع أكبر, وقد لا يكون المعلم ماهراً (وكان هذا يحدث كثيراًّ) فيكون مطلوبه محدوداً.

لكن كان ثمة مكتب أو كتاب هو مؤسسة عامة, والمرجح أنها كانت تعتمد اما على معونة من ثري أو أمير أو على وقف. وقد يكون المكتب أو الكتاب في هذه الحالة جزءاً من منزل صاحب الوقف أو مبنى صغيراً قريباً منه. وقد رُوي أنه كان في القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي كتّاب في بغداد كان المؤدب فيه الزجّاج, وقد كان بين تلامذته أبناء الخليفة المقتدر (295-320هـ/908-932م).

المسجد... مكان العلم

كان التعليم في المسجد أو الجامع خلال هذه الفترة قد تطور وتقدم بحيث أصبحت الدروس تشمل موضوعات في القرآن الكريم وتفسيره والحديث الشريف وشروحه. وكانت المذاهب المختلفة في سبيل التكون ومن ثم فقد أصبح لها شيوخ يتحدثون فيها. ومن ثم فقد تم نوع من التنظيم في العلاقة بين المكتب والكتاب والجامع. فكان التلميذ النابه بعد أن يجتاز سنوات في المكتب تتراوح بين ثلاث وخمس, وسنوات خمساً في الكتاب, ينتقل في سن العاشرة أو ما إليها إلى المساجد والجوامع ليتابع دروساً متقدمة في الشئون الدينية على اختلافها. وثمة أمر يجب أن ننبه إليه وهو أن التدريس في المسجد كان يتم لمجرد وجود الشيخ والتلاميذ. أما المسجد الجامع فكان يجب أن يحصل على إذن من الخليفة أو من السلطة المحلية للتدريس فيه. ذلك بأن المسجد الجامع, مثل جامع المنصور في بغداد, هو الذي يبنى باسم الخليفة أو الحاكم, ومن ثم فالسماح بالتدريس فيه يعود إلى بانيه. ولعل مما يمكن أن يذكر أن هذا الإذن كان القصد منه ضبط التعليم بالنسبة للمذهب.

لكن مشكلة أخرى نشأت في هذه الفترة, أي منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي, وظهرت بشكل أوضح في القرن الرابع/العاشر.

ذلك أن المساجد والجوامع (أصبحت لا يحسن تخصيصها للتدريس بما يتبعه من مناظرة وجدل قد يخرج بأصحابه أحياناً عن الأدب الذي تجب مراعاته للمسجد) فقامت مدارس متعددة انتشرت في بلاد الخلافة الشرقية, ويبدو أن نيسابور كانت المكان الذي نشأت فيه هذه المدارس. فقد كان فيها مدرستان في النصف الأول من القرن الرابع/العاشر. لكن هذه المدرسة عرفت في بغداد وسواها من المدن, ويغلب على هذه المدارس أن يكون إنشاؤها قد قام به أفراد أغنياء. فقد بنى دعلج بن أحمد بن دعلج مدرسة (وخانا لإقامة التلاميذ) وأوقفوا على الشيعة. وبنى ابن حسنويه في الفترة نفسها, مدارس (وخانات تابعة لها). وقد يتم بناء المدارس على أيدي أصحاب السلطان, كما قام الغزنويون ببناء مدارس واوقفوا عليها. وبنى طغرل بك السلجوقي المدرسة السلطانية في بغداد سنة 347/1045 حتى قبل أن يدخل بغداد وتولّي السلطة بإذن من الخليفة (ويقضي على دولة بني بويه).

نزل المتعلمين

وهنا يتطلب الأمر منا أن نتساءل: أين كان يقيم التلامذة الذين يأتون من خارج المكان الذي تقوم فيه المدرسة? وأين كان يقيم تلامذة المساجد والجوامع أيضاً?

إن تشجيع التعلم والتعليم قضية أساسية عند الواعين واجباتهم في تلك الأيام. فقد كانت النزل (الخانات) كثيرة في المدن, فكانت المأوى الأول لأولئك التلامذة, وكان الأثرياء يتكلفون نفقات الإقامة. لكن الأمر حلّ عملياً إذ بنيت نزل (خانات) وأوقفت على هؤلاء الطلبة, مثل الذي فعله دعلج بن أحمد بن دعلج وابن حسنويه. (يعزى إلى هذا أنه بنى مئات من هذه النزل). وقد أنشئ وقف فيه مجمع من مسجد ونزل (خان). كان ذلك في القرن الخامس/الحادي عشر في بغداد. وسار على غرار ذلك عدد كبير من أصحاب السلطان والثراء, لذلك لم يكن ثمة صعوبة. وما أكثر ما كان الوقف يشمل أرزاق الفقراء من هؤلاء التلاميذ.

فهذه المدرسة, وهذا الجامع اللذان كانا يقدمان للتلاميذ علوماً في النواحي الدينية المختلفة على درجة أوفر من ذي قبل, كانا النقلة الحقيقية نحو الانتقال إلى المدرسة (المختلفة عن الكتاب) والجامع/المدرسة. والتي رافقها أيضاً اختلاف في تسمية المعلم الذي أصبح يشار إليه بـ)الشيخ) والتلميذ الذي أصبح الآن (طالباً). وإذا جاز لنا, في سبيل الإيضاح, سمينا هذه المدرسة (كلية).

لكن اتساع رقعة بلاد الخلافة الشرقية أدى إلى تنوع في المعاهد والدروس والقائمين بالتدريس, والروايات والحكايات والقصص المتعلقة بذلك كله كثيرة. لذلك فإننا نسارع إلى القول بأن هذا الذي رسمناه يمكن أن نعتبره وصفاً عاماً, لكن الخلاف فيه والتنوع في كل نواحيه, يجب أن يظلا ماثلين في المعاهد والطلاب والمعلمين وأوقات التعليم ومواده العامة. لكن الغالب كان درس الفقه. ذلك بأن الفقه, وتفرّعاته, هو الذي يتيح لمن ينهي هذه المدرسة/الكلية أو هذا الجامع/الكلية أن يجد عملاً في وظائف الدولة غالباً - وهي كثيرة - وفي التعليم فيما يلي ذلك. وقد كانت هذه المدارس السنية يدرس فيها إما مذهب واحد أو اثنان أو ثلاثة.

المدرسة النظامية

هذه المدارس هي التي تسمى عادة (مدارس قبل النظامية), وقد ثبت ناجي معروف هذه التسمية في كتابه عن هذه المدارس إذ أسماه (مدارس ما قبل النظامية).

ذلك أن قيام المدرسة (الكلية) النظامية على يد نظام الملك الوزير السلجوقي الكبير (ت 485/1092) في القرن الخامس/الحادي عشر, كان قد غطى على ما قبله, إذ إن مدارسه كانت فتحاً جديداً في عالم التربية في العالم الإسلامي الشرقي. وقد انتشرت هذه المدارس فيما بعد في بلاد الشام ومصر والشمال الإفريقي. لكن دراسة ناجي معروف التي كانت رائدة قبل نحو ثلاثين سنة قد زاحمتها دراسات أخرى أكثر تفصيلاً وعمقاً. لذلك فإن المدرسة النظامية, على ما قامت به, خسرت الهالة التي كانت لها من قبل. هذا قد ينطبق على المادة التعليمية, لكن من حيث التنظيم والترتيب الداخلي وتوفير الموارد المالية اللازمة, فإن المدرسة (النظامية) كانت فتحاً في تاريخ التربية ومعاهدها في العالم الإسلامي.

إن تصدع الخلافة العباسية وقيام الدويلات والسلطنات المتعددة تحت (خيمة) الخلافة, أدى, فيما أدى إليه, الى أن دخل بنو بويه, الذين حكموا في أنحاء مختلفة من أجزاء هذه الخلافة, بغداد (334/945), وكان ذلك إيذاناً بوضع الخلافة, عملياً, تحت سلطانهم. كان البويهيون شيعة, ولكنهم لم يلغوا الخلافة السنية, ولم يبدوا الخضوع للخلافة الفاطمية التي كانت يومها قد استقر أمرها في مصر. لكن الخطر على الحكم السني لم يأت من البويهيين, بل جاء من (الدعوة) الفاطمية التي انتشرت في أنحاء الخلافة العباسية السنية.

ومن ثم فقد كان دخول السلاجقة بغداد (447/1055) والقضاء على النفوذ الشيعي (ودولة البويهيين فيما بعد) معناه عودة الحكم السني, الذي بدأ بقيام الدولة السلجوقية منذ سنة 429/1038. وكانت الدولة السلجوقية الأم (429-522/1038-1157) بالغة القوة والعنفوان والتنظيم. وقد وزر نظام الملك (410-485/1018-1092) لأول سلطانين كبيرين من السلاجقة (ألف أرسلان وملك شاه), وكان من أعظم مدبّري الملك في تلك الفترة, وقد ظل الوزير الأول لنحو ثلاثين سنة, فارتأى في سبيل تثبيت السنة على نحو قوي أن ينشئ مدرسة من نوع خاص, فما هي المدرسة التي أنشأها والتي عرفت فيما بعد باسمه?

أول ما يجب أن نذكره هو أنها كانت مدرسة سنية, وأن (النظامية) في بغداد, وهي أول مدرسة من هذا النوع, والتي بدئ التدريس فيها سنة 459/1066, كانت مقصورة على تدريس المذهب الشافعي. ولكن هذا الأمر تبدّل فيما بعد إذ انتشرت المدارس النظامية غرباً, فكانت ثمة مدارس أحادية المذهب أو ثنائيته أو ثلاثيته وحتى دُرست فيما بعد المذاهب الأربعة في مدرسة واحدة. وأول مدرسة تم فيها ذلك هي المدرسة المستنصرية في بغداد التي بناها الخليفة المستنصر (623-640/1226-1242).

ثانياً - كانت المدرسة النظامية مكاناً يتعلم فيه الطلبة ويقيمون وتجرى لهم الأرزاق.

ثالثاً - كانت المدرسة النظامية يصرف لها من مصادر حكومية عن طريقة أوقاف تزودها بحاجاتها.

رابعاً - كانت هذه المدارس تزوّد المؤسسات الحكومة بحاجتها من الموظفين - في القضاء ومراتبه, وفي الوظائف السلطانية والكتابية. ومن ثم كان الاقبال عليها كبيراً, صحيح أن الطلاب كانوا يختارون بعناية, لكن مادام الطالب يعرف أنه يجب أن يكون سنياً, فلعله ما كان ليتردد في اتباع أو قبول المذهب السني الذي تشترطه المدرسة.

خامسا - كان اختيار (المدرس) بيد أصحاب الحكم, إذ إن اختيار رجل (للتدريس) كان يتم بموافقة الوزير أيام نظام الملك, واستمر التقليد فيما بعد.

نرى من هنا أن الانفاق على المدرسة واختيار (المدرسين) فيها, وانتقاء (الطلاب) لها, يجعل منها مؤسسة تابعة للدولة مباشرة, وكان هذا يجعلها (مخزن) الموظفين الكبار أو مصنعهم.

الحكم الأيوبي والتعليم

وانتشار المدرسة النظامية, بعد أن أنشأ منها نظام الملك ما يزيد على عشر منها في بغداد وفي دولة السلاجقة الواسعة, ثم على أيدي الأيوبيين أولاً, ذلك أن الحكم الأيوبي هو حفيد للحكم السلجوقي عبر الاتابكية في الموصل وشمال بلاد الشام. وصلاح الدين هو الذي أدخل هذه المدرسة إلى مصر. لكن المدرسة (النظامية) بلغت الأوج في مصر وبلاد الشام أيام المماليك (648-923/1250-1517).

على أن هذا التطور الذي اتبعناه لم يكن, كما أشرنا قبلاً, خطاً واحداً يشمل الأنحاء المختلفة. فقد ظل هناك مؤسستان كان لهما أثر كبير في تطور عمل (المعلم) في الحضارة العربية الإسلامية. الأولى تشمل فئة خزانة الكتب وخزانة الحكمة ودار العلم, وتختص الثانية بالجامع, فقد ظل هذا أحد الأعمدة الأساسية في منظومة التعليم الإسلامي.

فمن المجموعة الأولى نجد (دار علم) في الموصل تعود إلى القرن الرابع/العاشر فيها خزانة كتب.

وكان مؤسسها يجلس فيها فيجتمع الناس ويملي عليهم من شعره. وكان في نيسابور, في القرن نفسه, (دار للعلم) فيها خزانة كتب ومساكن للغرباء مع الأرزاق. فهل كان نزلاؤها يتعلمون فيها? لم نعثر على ما يؤيد ذلك ولذلك فإننا نعتقد أن هذه كانت للإقامة والقراءة, أما الدروس فلعلها كانت تُُتلقى في مدرسة أو جامع على مقربة منها.

دار الحكمة

وعرفت القاهرة أيام الفاطميين عدداً من المؤسسات عرفت بالأسماء التالية: دار الحكمة (دار العلم) ومجالس الحكمة وخزانة الكتب الفاطمية. وكلها كانت تعقد فيها حلقات تلقى فيها دروس, على أيدي شيوخ المعرفة في المذهب الشيعي الفاطمي, وكان القصد الأول إعداد الدعاة الماهرين. إلا أن أمر خزانة الكتب كان يختلف عن الدور الأخرى. فهي واحدة من أغنى المكتبات التي أقيمت في العالم الإسلامي وأهمها. وقد اتضح من الدراسات الحديثة أنه كانت تعقد فيها, في بعض أدوار حياتها, مجالس علمية تدور أصلاً حول المذهب الشيعي مع اهتمام في بعض الأحيان بالأدب, الذي كانت فيه روح التشيّع.

أما الجامع (سواء في ذلك المسجد أو المسجد الجامع) فقد ظل مكاناً للتعليم والتدريس. والتدرس هو الدرجة الأعــلى في إيصــال المعــرفة إلى الطلاب. وكان التدريس في الجامع يتم بطريقة تختلف عمّا كانت عليه في المدرسة. فهذه كانت لها أوقات للدرس معينة ومواد يجب أن تعلم. ومع أن الجامع كان مكاناً ممتازاً للتعليم, فإن الأمر فيه كان يتم بالانضمام إلى حلقة شيخ من الشيوخ. وكان أساس الحلقة أن يتخذ الشيخ إحدى اسطوانات الجامع متكأ له, ويدور به طلابه على شكل حلقة. ولم يكن تحديد لعدد الحلقات التي كانت تقوم في أي من الجوامع. فالأمر متوقف على عدد الأماكن التي يمكن أن يحتلها الشيوخ. وكانت الاسطوانة تظل مركزاً للشيخ مادام هو يتخذها لذلك. وقد روي عن أحد الشيوخ أنه استمر يستعمل اسطوانة واحدة ثلاثين عاما, والحلقة يتغــير طـلابها مع الوقت.

وعلماء الجوامع لم تكن لهم مرتبات, ولكنهم كانوا يحصلون على حاجتهم, إما من هبات أولي الأمر أو أصحاب الثراء أو من وقف خاص بالانفاق على هؤلاء الشيوخ العلماء, ولذلك فإن ما يحصلون عليه لم يكن ثابت القدر أو القيمة. لكن الأمر المهم هو أن الكثيرين من هؤلاء العلماء, سواء في ذلك الشيوخ أو المدرسون, كانوا يكتفون بالقليل, أي بما يسد الرمق. هذا مع العلم بأن بعضهم كانوا يحصلون على مكافآت كبيرة, فالجامع مثل المدرسة كان ما يمكن أن نسمّيه (كلية) أي أنه كان للدراسات العليا. ولو أن بعض الجوامع, والأزهر المثل الأفضل, كان أصلاً, من حيث الدروس التي تعطى به, يتبع الدولة الفاطمية التي أنشأته, وظل على ذلك إلى أيام صلاح الدين الذي أقفله بعض الوقت ثم أعيد فتحه للتدريس, وكان المذهب الذي يدرس فيه أصلاً هو الشافعي.

جامعات إسلامية

لكن مع الزمن تقدمت مساجد معينة على سواها وأصبحت مراكز للعلم للمنطقة التي تحيط بها, وقد تكون واسعة. وقد ميّزت ثلاثة جوامع نفسها, فأصبحت تلقى فيها الدروس على مستوى أعلى من الكلية بحيث يحسبها المؤرخون (جامعات إسلامية) وهي الأزهر في القاهرة والزيتونة في تونس والقرويين في فاس, وهذه جميعها كانت في المناطق التي تغلب فيها المذاهب السنية, وتميّزت النجف الأشرف بأنها كانت تحوي مؤسسات للفقه الشيعي.

وقد كانت بعض هذه الجوامع تضيف إلى الدروس التفسيرية والخاصة بالحديث والفقه أموراً أخرى كاللغة وفروعها والتاريخ, لا من حيث إنها تاريخ أو لغة, لكن من حيث إنها تعين على فهم الموضوعات الدينية.

وقد وردت بالنسبة إلى بعض الجوامع أن علوماً بعيدة عن الدين كانت تدرس في هذه الجوامع. فقد روي أن الطب درّس في الأزهر وأن الفلك تحدث عنه العلماء في القرويين والزيتونة. والذي يمكن أن يقال بعد فحص هذه الأخبار القليلة هو أنه قد يكون ثمة شيخ أو مدرس له بعض المعرفة بالطب أو الفلك فيدور الحديث عندها حول مثل هذه الموضوعات. لأن مثل هذين الموضوعين ـ ويمكن أن تضاف الهندسة إليهماـ لا يمكن أن يعلم في حلقة حول اسطوانة. فكلها تحتاج إلى القيام بتجارب واختبارات. وهذه لم تكن متيسّرة في الجوامع.

وإذن, فأين كانت مثل هذه الموضوعات تدرس? الذي يتفق عليه الباحثون هو أن الطب والصيدلة كان مجالهما البيمارستان (المستشفى), والأخبار عن ذلك كثيرة, والفلك يحتاج إلى مراصد, والهندسة يلزمها القيام بالعمارة وبناء الجسور وما إليها.

وإلى هذا كله, فقد نشأت مراكز أخرى للتدريس مثل دور القرآن ودور الحديث.

هذا التنوع الذي عرفته هذه الحضارة العربية الإسلامية في نماذج الكتاتيب وترتيب المسجد والجامع والمدارس المبكرة والمدارس النظامية, والتشجيع الذي عرفته المؤسسات الخاصة والرسمية, وتنقل العلماء والمدرسين وتيسير سبل ذلك لهم, خاصاً ورسمياً, أدى إلى تبادل الرأي في الأمورالعامة الدينية, وتطوّرها واستكناه مضامينها, فكان من ذلك هذه الثروة الفقهية وهذا الكم من تفسير للقرآن الكريم وجرح وتعديل للحديث الشريف.

 

نقولا زيادة