سلام البشر كالحرباء فتحي غانم
سلام البشر كالحرباء
السلام هو اسم من أسماء الله الحسنى، فهو الملك القدوس السلام. وهو يعني السلامة من النقص والعيب والفناء، فهو الباقي الدائم الذي يفني الخلق ولا يفنى. وهذا السلام لا يعرفه الإنسان ولا تدركه الشعوب والدول، ذلك لأن الإنسان غير معصوم وسلامته ناقصة ومعيبة وفانية. ومن هنا كان الحديث عن السلام الذي يسعى إليه البشر هو الحديث عن محاولات الخلاص أو النجاة أو البراءة من الأذى والمكروه.. وهي محاولات لا تنقطع ولا تصل إلى غايتها، لأنه لا خلاص للبشر ومجتمعاتهم من النقص والعيب والفناء. وتقف قدرات البشر على تخفيف الأذى، وتلافي بعض النقص، وعلاج بعض العيوب للحصول على مرحلة أو فترة زمنية من سلام مؤقت. ويقول تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما أي طلبوا البراءة والخلاص والنجاة من الجهلاء فكأن عملية السلام عند البشر هي تلك المحاولة الدءوب لدفع الشرور والآفات. ويبدو أن هذا المعنى غير واضح في أذهان الكثيرين، الذين يخلطون بين السلام بمعنى النجاة من الأذى وصد الجهلاء، وبين السلام بمعنى التحية والترحيب بالآخرين. وهو معنى حديث لأن العرب أيام الجاهلية لم يقرنوا بين التحية والسلام. فكان يقول أحدهم لصاحبه "أنعم صباحا وأبيت الله" كما ورد في لسان العرب لابن منظور. أما إذا قال "سلام عليكم" فهذه علامة مسالمة وأن لا حرب ولا خوف فالسلام ضد الشرور والأذى، وهو ضد الحرب أو الوجه المقابل لها.. وإذا راجعنا قواميس ودوائر المعارف في لغات أوربية متعددة نجدها لا تختلف عن المعاني التي وردت في المعاجم العربية. فجاء في دائرة المعارف البريطانية على سبيل المثال، إن السلام هو "التحرر" من الحروب والعداوات، وهو حالة من الصداقة أو التعاون أو التحالف "للخلاص من شرور الحرب". ولذلك لا يكتمل الحديث عن السلام إلا بالحديث عن الحرب التي هي جماع الشرور والأذى والهلاك. ويعرف القانون الدولي السلام بأنه حالة الدولة عندما لا تكون في حرب مع دولة أخرى. والسلام الدائم المطلق ليس له وجود، فهو كما رأينا اسم من أسماء الله الحسنى، ويختلف تماما عن سلام البشر الذين يتحولون في مجتمعاتهم بين حالات السلم أو الحرب التي حاول القانون الدولي - ومازال - أن يضع لها تقاليد وأعرافا باعتبارها ظاهرة تلازم تاريخ الإنسان منذ بدايته وتتطور معه، برغم أحلام وأمنيات تجول بخاطر الإنسان على مر العصور أن يتخلص من الحروب وينجو منها. ولكن الحرب تظل قائمة مهما تقدمت الحضارة أو ارتفع مستوى الثقافة، ويقول الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه الأخير نصر بلا حرب إن القرن الحالي وهو ينتهي عام 1999- بعد ثلاث سنوات ! ! - سيقدم للإنسانية كشف حساب مروعا، لأنه أكثر القرون دموية برغم أنه أكثر القرون تقدما في تاريخ الإنسانية. لقد شهد هذا القرن العشرون مقتل مائة وعشرين مليونا من البشر في مائة وثلاثين حربا، وهو عدد يزيد على عدد جميع من قتلوا في جميع الحروب التي شهدها التاريخ البشري قبل بداية القرن العشرين. ولا شك أن هذا العدد الضخم من ضحايا الحروب في القرن العشرين قد زاد منذ صدر كتاب الرئيس نيكسون بقتلى حروب ومذابح الصومال ورواندا في إفريقيا وقتلى حروب ومذابح المسلمين والكروات والصرب في يوغسلافيا القديمة، ثم حرب الشيشان الحروب الصغيرة في أفغانستان والتاميل في سيريلانكا وغيرها. إن الحديث عن التقدم والرفاهية والسلام كان له دعاة في القرن العشرين توقعوا أن يؤدي ما تحقق من اكتشافات علمية وابتكارات واختراعات تكنولوجية إلى نجاة المجتمع البشري من شرور الحروب ليتمتع الإنسان بالسلام على الأرض، لكن الحروب فرضت نفسها واستفادت من التقدم العلمي والتكنولوجي كما استفاد السلام سواء بسواء ومازالت دار السلام الحقيقية هي الجنة و"العالم الآخر" كما جاء في معاجم اللغة العربية. ويتحدث الأدب السياسي حاليا عن السلام برؤية واقعية لتجارب البشر عبر حضارات تعاقبت وواجهت صعوبات لا حصر لها في "تعريف" السلام أو "البحث" عن السلام أو "حفظ السلام"، لأن السلام مثل الحرباء كان يتلون بلون البيئة والظروف التي تحيط بالباحثين عنه. فالسلام في دولة ديمقراطية غير السلام في دولة نظامها ديكتاتوري. والسلام لا ينفصل عن الحرية في المجتمع الديمقراطي.لأن الحرية تتحول إلى قلاقل واضطرابات وعمليات تعذيب واعتقال في مجتمع ديكتاتوري. والجنود يحاربون في مجتمع ديمقراطي تحت شعار الحرية. بينما الجنود في مجتمع ديكتاتوري يحاربون تحت شعار القوة والسيادة للأقوى. والسلام الذي يتحقق عن طريق حرب وهزيمة هو استسلام وقهر. وإنه لأمر يدعو إلى السخرية حقا أن نرى الجهود الجبارة التي يبذلها المجتمع البشري من أجل الوصول إلى السلام وهي تتحول إلى عمليات حربية وعدوان تراق فيه الدماء وتبدد الثروات باسم السلام ! ولقد تنازلت الرؤية الواقعية للسلام عن اعتباره هدفا في حد ذاته، لأنها ترى أن السلام مثل الحرية، كلاهما يستمد قيمته العليا من المناخ الذي يتوافر للإنسان عندما يتمتع بها. فهو يستطيع - مع السلام والحرية - أن يؤكد ذاته وإرادته. ونحن لا نطلب الحرية لنتمرغ فيها بلا هدف أو عمل، لأن مثل هذه الحرية لا بد أن تنحرف إلى فوضى أو لون من ألوان الشذوذ. وكذلك نحن لا نطلب السلام لننجو من الخوف والقلق ومصادر الخطر، ثم ننعم براحة البال كالخراف في حقل برسيم - على حد تعبير فيلسوف التاريخ أوزفالد شبنجلر - وهو يتحدث عن فترة السلام التي تمتعت بها أوربا في الفترة بين1870 عندما سقطت باريس تحت رحمة جيوش بسمارك الألماني، و 1914 عندما نشبت الحرب العالمية الأولى. وخلال هذه الفترة بين الحربين توهمت أوربا أن الحروب انتهت وأن السلام مقيم ومستقر وعاشت ما كان يسمى "بالحقبة الجميلة" حتى فاجأتهم الأزمة تنخر كالسوس فكانت الحرب العالمية. السلام والغيبوبة الجميلة إننا لا نطلب السلام لنسقط في غيبوبة الراحة والاطمئنان ونعيش "حقبة جميلة La Belle Epoque" بل السلام هو فرصة العمل والإبداع والتنمية وتلبية حاجاتنا الثقافية والمادية. والإعداد لمواجهة أخطار وشرور وصراع قد نتعرض لها كما يتعرض الجسد السليم لهجوم الميكروبات في كل وقت، ويصيبه المرض إذا فقد قوته وحصانته وقدرته على المقاومة. وهذا المعنى هو الذي نبه إليه الرئيس الفرنسي الراحل " فرانسوا ميتران " في آخر خطاب ألقاه أمام البرلمان الأوربي في ستراسبورج وكان يتحدث كما لو كان يقدم لأوربا وصيته ونصائحه الأخيرة قبل أن يرحل عن العالم. فقال لهم: "الوطنية هي الحرب.. والذين يعتقدون أن الحرب وراءهم قد يجدونها أمامهم" لقد رأى " ميتران في أيامه الأخيرة أن الاتحاد الأوربي بين خمس عشرة دولة لا يعني أن السلام قد اكتمل ولا بد من الحذر والعمل على تجنب خطر الحرب، لأن السلام، ليس راحة البال، وليس الأمان والاستقرار. إنه كما يعرفه البشر محاولة مستمرة للنجاة من الخطر! والسلام تنظمه اتفاقيات الحرب ! مثل اتفاقيات جنيف ولاهاي أعوام 1864/ 1906 / 1907 / 1949، وتشمل القواعد الخاصة بمعاملة المتطوعين والأسرى والجرحى في البر والبحر، وشروط استخدام الأسلحة وتحريم بعضها كالنابالم والغازات السامة والألغام المغناطيسية والجراثيم والأسلحة النووية. وكلها اتفاقيات تنظر إلى سلام بعد الحرب. لكن كل هذه الاتفاقيات قد تتحول في لحظات إلى قصاصات ورق لا قيمة لها عندما يفقد المحاربون رؤية سلام يتوقعونه في المستقبل. ولذلك يتعامل رجال السياسة والقواد العسكريون مع حالة السلام على أنها "مثالية" لا تتحقق في الواقع، والعالم لا تتوقف فيه الحروب أو الثورات. وأن المطلوب هو توازن القوى والعمل على تحقيقه، لأن طلب السلام هو جري وراء الوهم. ولذلك من الطبيعي أن نسمع عن "السلام المراوغ" مع إسرائيل وهي لا تعترف بسلام تتوازن فيه القوى، وتتحالف مع الولايات المتحدة لتحتفظ بتفوق في ميزان قوتها العسكرية في مواجهة القوى العربية مجتمعة، لأن هذا هو الذي يضمن لها السلام كجزيرة صغيرة في محيط عربي عريض. وهناك محاولات لربط السلام بالمواثيق والمعاهدات، ولقد فشلت كل هذه المحاولات فلم يعد يثق بها أحد. وأثبتت تجارب عديدة أن الدولة التي تشعر بأن ميزان القوى في صالحها بالنسبة لجيرانها يستولي عليها إغراء لا تقاومه بأن تستخدم قواها المتفوقة في الهجوم على جيرانها. وهناك محاولات لعقد تحالفات، أو اللجوء إلى محكمة عدل دولية. وقامت محاولة عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى 1914 م - 1918 م ، ثم قيام الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية 1939- 1945. وكلها محاولات باءت بالفشل في منع الحروب. ويعترف ميثاق الأمم المتحدة بأن خطر الحرب قائم باستمرار. ولذلك جاء نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة في 24 أكتوبر 1945 لينص على أنه "لا يوجد في هذا الميثاق ما يعوق الحق المعترف به لكل دولة أو مجموعة من الدول في الدفاع ضد هجوم على دولة عضو في الأمم المتحدة، وذلك حتى يتولى مجلس الأمن الإجراءات الضرورية للحفاظ على السلام والأمن الدولي، والإجراءات التي تقوم بها الدول الأعضاء لممارسة هذا الحق في الدفاع عن النفس، سوف تبلغ فورا إلى مجلس الأمن، ولن تؤثر بأي حال من الأحوال في سلطة ومسئولية مجلس الأمن، وفقا للميثاق الحالي في اتخاذ التصرف المناسب في أي وقت كما يراه ضروريا من أجل الحفاظ واستعادة السلام والأمن الدوليين. وبناء على ذلك النص اجتمعت دول حلف شمال الأطلنطي في واشنطن في 4 أبريل 1949 وأقرت ميثاقا للحلف جاء في مقدمته إيمان هذه الدول بمبادئ وأهداف ميثاق الأمم المتحدة ورغبتها في أن تعيش في سلام مع جميع الشعوب والحكومات. ثم عقدت المقدمة صلة قوية بين السلام والحرية - الديمقراطية - من وجهة نظر الدول المتحالفة. فأعلنت عن تصميمها على حماية الحرية - الديمقراطية - باعتبارها الثقافة المتوارثة لشعوبها. ثقافة وحرية الفرد وسيادة القانون. وإن الدول المتحالفة تسعى إلى دعم واستقرار ورفاهية منطقة شمال الأطلنطي وتصمم هذه الدول على توحيد جهودها للدفاع الجماعي وصيانة السلام والأمن ثم ضم الحلف بعد سنوات كلا من تركيا واليونان رغم بعدهما عن غرب أوربا وشمال الأطلنطي لأن أعضاء الحلفين رأوا أن أمن منطقتهم يدعمه انضمام كلمن مملكة اليونان وجمهورية تركيا. وهذه النصوص التي أشرنا إليها تتعامل مع السلام على أنه ناقص ومعرض دائما للخطر. وهذه الرؤية الواقعية جاءت بعد مرحلة رومانتيكية توهم فيها المجتمع البشري أنه قادر على الوصول إلى السلام الدائم. ومن أهم هذه المحاولات تلك التي قامت بين مجموعة من الدول المسيحية الأوربية في مشروع "سانت بيير" عام 1713 في مؤتمر "أوترخت" الذي ضم أربعا وعشرين دولة مسيحية لتعقد فيما بينها "تحالفا دينيا" لضمان أمنهم وسلامهم ضد أية حروب يشنها الأعداء أو ضد فتن وحروب أهلية داخلية. وكان المشروع يطالب كل دولة بأن تتنازل عن حقها في إعلان الحرب ضد أعضاء الحلف، وأن يلجأ الأعضاء إلى تحكيم إجباري أمام مجلس سلام، وإذا وافق ثلاثة أرباع الأعضاء على قرار المحكمين يعلن الجميع الحرب ضد من يخالف القرار. ثم ظهرت محاولة أخرى نادى بها المفكر الإنجليزي جيريمي بنتام عام 1789 وهو من أصحاب المذهب الذي ينادي بالعلاقة بين "المنفعة والأخلاق"، وأن السعادة هي تحقيق الخير والمصالح للأغلبية، وأنها اللذة والمتعة مادامت لا تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة بل يؤمن كل فرد بأن سعيه إلى سعادته الشخصية يتحقق بسعيه لتحقيق مصلحة الجماعة. ثم كانت دعوة الفيلسوف الألماني كانت للسلام عام 1795عن طريق مجتمعات يمارس فيها كل فرد إرادته من خلال ممثليه في مجلس تشريعي خاصة عند اتخاذ قرار خاص بحالة الحرب أو السلام. وكان يرى أن الشعوب سوف تتخلص لا محالة من حالة الحرب باعتبارها علاقة بدائية همجية، وأن المجتمعات والدول تتطور كما يتطور الأفراد الذين شرعوا منذ وقت بعيد في وضع التقاليد والأعراف والقوانين لتنظيم العلاقات فيما بينهم. وبالمثل سوف تصل الدول إلى وضع التقاليد والقوانين والنظم التي تمنع اشتباكهم في الحروب وينعموا بالسلام.. لكن سرعان ما قضت الثورة الفرنسية على كل مشاريع وأفكار السلام وخرج من فرنسا نابليون بونابرت يكتسح أوربا ويقوض أنظمتها، حتى كانت هزيمته في معركة موسكو عام 1812، ثم هزيمته القاضية في "ووترلو" عام 1815. وشهد مؤتمر لاهاي عام 1899 محاولات قامت بها ست وعشرون دولة أوربية لوضع وسائل وإجراءات عملية لفض النزاعات فيما بينها بالطرق السلمية. ثم كانت محاولة ثانية في مؤتمر لاهاي عام 1907 واشترك فيه 44 ممثل دولة لكل الدول المستقلة في العالم في ذلك الوقت، ووضعوا بعض وسائل التسوية السلمية. مثل الوساطة والتحكيم ولجان تحقيق دولية. وحاولوا صياغة قواعد للقانون الدولي، وكان جيرمي بنتام قد بدأ المحاولة في كتابه "أصول الشرائع" وكشفت مناقشات هذه المؤتمرات أن المناقشات تجري بين دول لا يثق بعضها في البعض الآخر، وتتحدث عن نزع السلاح دون أن تنفذ ما تتحدث عنه، ومع ذلك تمت صياغة بعض المباديء للتسوية السلمية أهمها: - عدم اللجوء
للقوة لفض النزاع. ثم اصطدمت كل هذه المناقشات والصياغات التي بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بالحرب العالمية الكبرى 1914 - 1918، ومحاول عصبة الأمم، ثم الحرب العالمية الثانية 1939 - 1945 ، وأعقبتها محاولة الأمم المتحدة. حياد لا سلام وإذا تأملنا واقع المجتمعات البشرية اليوم فسوف نجد أن أصلح وأدق وصف للدول التي لا تخوض في الوقت الحالي أي حرب، أنها ليست في حالة سلام، بل في الحالة التي يحددها القانون الدولي بالحياد. وتعريف الحياد في القانون الدولي هو الامتناع اختيارا عن الاشتراك في حرب قائمة. هناك أنواع متعددة للحياد منها الحياد التقليدي مثل الحياد السويسري الذي يدير ظهره للمشاكل الخارجية ويرفض التورط فيها، وقد مارست سويسرا الحياد التقليدي أخيرا عندما رفضت أن تساهم بقواتها العسكرية في حفظ السلام في البوسنة مع بقية دول حلف الأطلنطي وروسيا. والسلام بالنسبة لسويسرا هو الحياد أو الابتعاد عن الخطر وإذا خاطبها المتحاربون قالت سلاما بمعنى أنها تريد النجاة من الأذى. والسلام الذي يأخذ طابع الحياد التقليدي يتحقق بعدة شروط من أهمها الامتناع عن مساعدة الدول المتحاربة، وألا تسمح الدولة المحايدة لأحد المتحاربين باستخدام أراضيها للقيام بأعمال ضد الدولة التي يحاربها. أي أن السلام يحتاج إلى أنياب للدفاع عن حياده، ولذلك تحتفظ سويسرا بجيش قوي، ولقد أنقذها من التورط في الحربين العالميتين في أوربا جبالها، فهي في أحضان جبال الألب التي تجعل من احتلالها مشقة كبيرة، تكاليفها في الدماء والمال لا تساوي الفائدة التي تتحقق من احتلالها. وخلاصة القول أن حيادها لا يضمن لها راحة البال والاطمئنان الدائم. ولا بد من مواجهة الأخطار بين وقت وآخر والاحتفاظ بجيش قوي حديث السلاح. والدول المتحاربة لا تنظر إلى الدول التي لا تشترك في الحرب على أنها في حالة سلام، لأنها من وجهة نظر المتحاربين دول محايدة، عليها أن تمنع الأفراد المقيمين فيها من القيام بأعمال تساعد دولة محاربة ضد أخرى. وعليها أن تمنع إمداد الدول المتحاربة بموارد وخامات تساعد على دعم القوة العسكرية. وتتعرض الدول المحايدة لاتهامات بارتكابها جرائم ضد الحياد، كأن تخترق حصارا بحريا مفروضا من دولة على أعدائها، أو تقدم خدمات أو تهرب بضائع لأحد المتحاربين. وهنا قد يهاجم المحارب الدولة المحايدة ليعاقبها على ما ارتكبت من جرائم ضد الحياد. وإلى جانب الحياد التقليدي السلبي، ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين، عندما نشبت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والدول التي تسير في فلكه، وبين الغرب الرأسمالي والولايات المتحدة الأمريكية التي تتزعمه، مبدأ الحياد الإيجابي، باعتباره الوسيلة المثلى لتحقيق سلام للدول التي لا تشترك في المعسكر الشرقي الشيوعي الشمولي أو الغربي الرأسمالي الديمقراطي. وبزغت فكرة الحياد الإيجابي في مؤتمر باندونج عام 1955 الذي جمع دولا ترفض التبعية لأي معسكر وقرروا الامتناع عن الاشتراك في أية نظيمات أو أحلاف عسكرية ورفض تقديم أية مساعدة لأحد المتحاربين أو تقديم المواد والخامات اللازمة له لتسيير عجلة الحرب. كما قرروا في نفس الوقت العمل الإيجابي، وعدم الوقوف موقف المتفرج السلبي بأن يعلنوا رأيهم بالوقوف مع الحق ضد الباطل والدعوة إلى تسوية النزاعات التي تهدد السلام والأمن العالميين. والتعامل والتعاون في نفس الوقت مع الجميع على مبدأ الاستقلال السياسي والاقتصادي لكل طرف. وزاد الاهتمام بالحياد مع زيادة أخطار الحروب والرعب النووي وأسلحة الدمار الشامل، فزاد عدد الدول التي تطلب الحياد وتريد التعاون فيما بينها للصمود أمام ضغوط القوتين العظميين النوويتين الاتحاد السوفييتي من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى.. فتكونت كتلة عدم الانحياز لتصمد أمام فجوة تزداد اتساعا بين دول قوية وأخرى صغيرة لا تملك الأسلحة التي تواجه السلاح النووي وتريد بتكتلها أن يكون لها تأثير على سلوك الكبار أصحاب القوى العظمى. وهكذا اتسعت الدعوة إلى عدم الانحياز في الستينيات كامتداد وتطوير لمبدأ الحياد الإيجابي الذي شارك في وضعه عبدالناصر و نهرو و تيتو و سوكارنو زعماء وقيادات العالم الثالث في الخمسينيات. لكن إطار عدم الانحياز واجه انقلابا في النظام العالمي بسقوط الاتحاد السوفييتي، والتحول الشامل في دول شرق أوربا نحو الديمقراطية واقتصاديات السوق، واتخذ السلام الحرباء لونا آخر غير واضح المعالم تحت اسم "السلام الأمريكي" على غرار "السلام الروماني" الذي عرفته الإمبراطورية الرومانية عندما سيطرت على العالم حتى سقطت تحت وطأة الغزو الألماني عام 876 الميلادي، وذلك باعتبار أن الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة القادرة على التدخل للمحافظة على السلام في يوغسلافيا السابقة، وعجزت الأمم المتحدة عن المحافظة على السلام على غرار ما سبق أن فعلت عندما تدخلت بقواتها المتحالفة لتحرير الكويت من العدوان العراقي على أراضيها. وكان تدخل الولايات المتحدة لعقد اتفاق للسلام في دايتون وإرسالها قوات أمريكية مع قوات حلف الأطلنطي تحت قيادة أمريكية، هو الحل الأخير للوصول إلى "السلام في البوسنة" برغم المصاعب والشكوك التي تحيط باستمراره، وهذا يعني أن السلام اليوم يأخذ طابعا أمريكيا. ونجد هذا الطابع في "الوساطة" الأمريكية في اتفاقيات السلام مع إسرائيل، والقوات الأمريكية على الحدود المصرية - الإسرائيلية والقوات الأمريكية المقترحة لتأمين الحدود بين سوريا وإسرائيل بعد انسحابها من الجولان وهذا يعني أن الحديث عن السلام، هو حديث عن إجراءات للأمن وإجراءات لكسب درجة ما من الثقة بين الدول. وليس السلام غاية، بل هو وسيلة للوصول إلى درجة من الأمان والاستقرار للمضي في التنمية في كل مجالاتها. أما الحلم بالسلام الذي ينشده الشعراء وتردده الأغاني في أفراح وأعياد السلام ، فهذا يدخل في باب الأحلام والأماني، إن تصدق فهي خير المنى، وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا، وهي لا تصدق إلا في الخيال والأحلام. لأن السلام غير المنقوص الباقي الدائم، هو اسم من أسماء الله. وشتان بين اسم من أسماء الله عز وجل وسلام البشر الذي هو سلام يتقلب ويتلون كالحرباء!
|
|